أفكار وآراء

ما الذي يعنيه أن يكون المرء حُرّا؟

للحرية علاقة بالرغبة. أن يكون المرء حُرا يعني على نحو ما أن يُسلّم لرغباته، مهما بدا هذا معارضا لما لُقنه، أو ما يُتفق عليه على أنه الطريقة السوية للتفكير والممارسة. لا تستلزم الحرية كفرا بالأنظمة الموضوعة فحسب، بل وتصالحا مع النفس أيضا، أي قبول أنه سيكون على خطأ. بالرغم من هذا يفي الحر وينصاع للصوت الذي يقول له: افعل. تبحث الذات الحرة عن الثراء عبر التجريب. والتجريب هنا كلمة مفتاحية. إذ يتخذ موقفا من قضية مع المعرفة التامة بأنه لا يملك المعرفة التامة، ولن يصل لها يوما على الأغلب. وفق هذه الرؤية، لا يعود لـ«التخبيص» ذلك المعنى السلبي، بل يُصبح طريقة لاكتشاف العالم والذات.

يُفرق أحيانا عند الحديث عن الحرية، بين الحرية التي يسعى إليها شعب بأكمله (التحرر من احتلال أو استعمار أو نظام مستبد)، والحرية الفردية (أي المعركة الشخصية التي يخوضها المرء مع عائلته، مجتمعه، ونظام الأشياء كما هي). تُوضع حرية الجماعة في مكانة أرفع، مُثلى. لكن لا يُمكننا إلا أن نتساءل ما إذا كان منبعها واحد، ومعناها واحد. ولنتفكر في هذا الجدل، علينا أن نسأل: ما الذي يُريده كل منهما (الجماعة والفرد)؟ وما هي وسائل مقاومتهما؟ كيف تتشابه وكيف تختلف؟

الزخم هو أول ما يتبادر إلى أذهاننا: الجماعة تُجنِد، وتتوسع (أو تنكمش) مع الوقت، لكنها أيضا تُفاوض وتتنازل؛ إذ تعلو أهمية الاحتشاد، على أهمية أن تُلبى المطالب تماما كما يشاء المعترض. بينما الساعي لحريته الشخصية لا يتنازل. هذا العناد (الأعمى والأناني تقريبا) هو ما يستحق الإكبار، حتى وإن لم يحدث وتتفق مع مطالبه. ثم هناك الخسائر، إذ يضع المعترض الفرد كل شيء على المحك، إنه يُضحي بفقدان كل شيء: مصدر رزقه، علاقاته الاجتماعية، أمانه. بالتأكيد هو يشترك في مراهنته هذه مع الجماعة التي تُريد أن تتحرر، إلا أن المرء حين يكون جزءًا من جماعة، فلديه السند، وهو وإن خسر كل ما يُمكن خسارته فإنه لا يُنبذ، وإنما يُنزل منزلة الأبطال. يسعى كلا الجانبين إلى تحقيق كرامة العيش، إلا أن أشكال تحقيق ذلك قد تختلف. فبمجرد أن يعيش الفرد المعترض حياته كما يبتغي فإنه يُسجل بذلك موقفا، وهو لا ينتظر أن تُغير القوانين، أو الحكومات، إنه مُتعجل، وهذه العجلة هي شكل مقاومته الأشرس.

ننتقل الآن للنقطة التي هي محور هذا المقال. والهدف من الربط بين الرغبة والحرية. كثيرًا ما نجد أنفسنا -وعلى نحو يومي تقريبا- وجها لوجه مع نظام صارم لا يقبل التفاوض. أشياء غير معقولة، نعترض عليها، فيرد علينا أيا يكن المسؤول عنها بالقول «هذا هو النظام!». لكن الحقيقة أن ثمة فسحة للتحايل، ليس بالمعنى السلبي بالمرة، بل بمعنى التعاون، بمعنى وجود مساحة للعمل (نأخذ ونعطي فيها). يُمكن للشخص المسؤول أن يُقرر أنها قضية منتهية، ويُمكنه أن يبذل جهده ليرى رغبات الآخرين تتحقق.

أتذكر قبل فترة، حين حاول بعض الأصدقاء التنسيق لزيارة صديق لهم من غزة إلى مسقط. قرروا أن أفضل طريقة هي التقديم على تأشيرة لزيارة دبي، ومن دبي يُمكنه زيارة أي مدينة خليجية. عندما وصل الحدود، رفضوا السماح له بالدخول. جادلهم بأن تأشيرته تسمح له بذلك، إلا أنهم أشاروا للاستثناء غير المصرح به والذي يخص القادمين من مناطق منكوبة.

يتم استخدام عدم وضوح بعض التنظيمات في عُمان للرفض غالبا. مثلا، بسبب وجودي خارج السلطنة، يحدث أن أحتاج لأن يتولى أحد ما بالنيابة عني تخليص بعض المعاملات. أحيانا يرفضون خدمتنا على اعتبار أن الأصدقاء لا يمكنهم أن ينوبوا حتى ولو قدموا رسائل تفويض ونسخا من هوية صاحب الشأن. أحيانا يرفضون على اعتبار أن الأخت لا يمكنها أن تنوب، وأنه لابد من أن ينوب قريب ذكر، يحدث هذا حتى وإن خلت التنظيمات والقوانين من هذا الاشتراط الجندري. ما أحاول قوله، إنه كثيرا ما يحدث وأن تُوظف مناطق الغموض في التنظيمات لا في التعاون والمساعدة، بل في الرفض والحرمان. شيء لا يعود على أي أحد بأي فائدة.

ثمة فكرة مسمومة تقف وراء كل هذا، فحواها أن التسهيل والإتاحة تؤدي للفوضى. فإذا سهلت منح التأشيرات فأنت تجازف بخلق أزمة هجرة، وإذا ما سهلت منح التصاريح التجارية، يُصبح الكل -بين ليلة وضحاها- صاحب عمل، على نحو غير قابل للمراقبة. يأتي هذا من خوف محافظ، خوف أن تخرج الأمور عن السيطرة، خوف أن تتغير الأمور على نحو غير قابل للعودة. ما علينا أن نقبله هو أن الأمور ستتغير شئنا أم أبينا، وما علينا فعله هو الاستجابة للرغبة في أن تتغير الأمور، ونجعل هذا التغيير منسجما وسلسا عوضا عن مقاومته ومحاربته. وأن نقبل أنه من حق كل واحد منا أن يُجرب، أن يحصل على ما يرغب فيه، فيما تُحتم علينا مسؤوليتنا الإنسانية أن نُعينه على ذلك، دون شروط، دون مطالبته بأن «يستحق» ما يرغب فيه.