ابن عربي وإعادة قراءة التراث
السبت / 16 / رمضان / 1444 هـ - 20:24 - السبت 8 أبريل 2023 20:24
في عام ٢٠٠٨ ، أقمنا في دار الكتب والوثائق القومية في مصر مؤتمرا دوليا عن محي الدين بن عربي، شارك فيه مفكرون عرب وأجانب من معظم الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأتذكر عندما كنا نقوم بالإعداد للمؤتمر واختيار الشخصيات المتخصصة في الفكر والفلسفة، تبين لي أن أكثر من أربعين جامعة في أنحاء العالم يوجد بها مركز علمي يحمل اسم ابن عربي، فكل الجامعات الكبرى في العالم قد عُنيت بتراث هذا المفكر والفيلسوف الكبير، بل كان الكثير من علماء المسلمين موضع عناية المفكرين في كل بلاد العالم من قبيل ابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرون.
رغم الموجة الاستعمارية التي هبت على أوطاننا منذ القرن السادس عشر بداية من الوجود البرتغالي والفرنسي والإنجليزي، مرورًا بالغزو العثماني، وما أعقب ذلك من موجة استعمارية جديدة من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين خلال القرن التاسع عشر، إلا أننا لم نجد غضاضة من تقبل الثقافات الأجنبية الناجمة عن عصر الاستعمار الأوروبي، في شتى مجالات العلوم والمعارف بما في ذلك عصر الاستعمار ولعل القوى الاستعمارية كانت تعتقد أن المعارف والثقافات هي إحدى الوسائل لتحقيق شعبية تستهدف استلاب العقول، حدث ذلك في العصر الحديث، حينما راحت الجامعات العربية توفد النابهين من خريجيها للدراسة في مختلف الجامعات الأوروبية والأمريكية، حتى في ظل العلاقات المتوترة بين بعض الدول العربية ومعظم الأوروبية، ابتداء من منتصف خمسينات القرن الماضي.
ففي بلد كمصر عقب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لم تتوقف البعثات العلمية بين مصر ومختلف الدول الأوروبية، إلا في فترة قصيرة عقب حرب السويس ١٩٥٦، بعدها عادت البعثات ليس في مجال العلوم التجريبية فقط، بل في مختلف العلوم الإنسانية الأخرى، ولم يفسد هذه العلاقات إلا السياسات الأوروبية الجديدة التي استهدفت أوطاننا، وخصوصًا فيما يتعلق بموقف الأوروبيين من القضية الفلسطينية، وصولًا إلى غزو العراق عندما راحت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يخططون لسياسات جديدة، كان أخطرها اللعب على التناقض المذهبي والديني، كل هذه السياسات كانت نتائجها مروعة على المنطقة العربية برمتها، ولعل ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن يعد مثالا صارخًا على ما ارتكبته الولايات المتحدة في العالم العربي من جرائم مأساوية مازال العرب يدفعون أثمانًا باهظة نتاجًا لهذه السياسات الخاطئة.
رغم أن القضية كانت سياسية واقتصادية خالصة، إلا أن هشاشة وعينا قد أحالت القضية إلى أديان ومذاهب، بعد أن ظهر من بيننا من ينظَّرون لفقه جديد، اعتمدوا فيه على نصوص اجتزأوها من سياقاتها التاريخية والدينية لكي يقيموا ما أسموه بالدولة الإسلامية، في ظل سياسات أجنبية غير عادلة وصادمة، ابتداء بالقضية الفلسطينية وانتهاء بالعديد من القضايا التي تتعلق بمستقبل أوطاننا، وقد انساق قطاع من الشباب وراء هذه الأحلام البائسة، مستخدمين الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج لإسقاط الدول الوطنية وإقامة الدولة الدينية.
في غيبة الثقافة بمعناها الاجتماعي والإنساني، وافتقاد شبابنا إلى التعرف على أعلام كبار في تراثنا العربي، من قبيل ابن عربي وابن رشد والفارابي وهي أحد المصادر الأساسية التي اعتمد عليها الفكر الأوروبي الحديث، إلا أن قطاعًا كبيرا من شبابنا راحوا ينهلون بلا وعي، من مصادر كتبت لغير أزمانهم وفي سياقات متباينة، كل ذلك أحدث انحرافا عن مقاصد الإسلام وابتعدنا كثيرا عن الإسلام الحقيقي. واللافت للنظر أن بعض أقطارنا ومؤسساتنا العربية كانت تروج لهذا الفكر، وهو أمر كان يدعو إلى الدهشة والحيرة، وقد أنفقوا أموالا طائلة لتمويل منظمات جهادية، وحينما شعروا بالخطر على عروشهم وأوطانهم تراجعوا بسرعة عجيبة.
أتذكر أنني كنت مشاركًا في مؤتمر أقامته الجامعة العربية في إحدى الدول العربية، وهي من الدول التي كانت تروج لهذه الثقافة بكل الوسائل، وكان موضوع المؤتمر عن الإرهاب، وكان يحلس بجواري الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة الشهير، وقد تعجبت من وجوده في هذا المؤتمر فهو مسيحي ليبرالي يكتب في الصحف ويتحدث في برامج تليفزيونية في قضية عنوانها الأهم (العقل)، وفي كل ما كتب أو حاضر كان يلقي بالمسؤولية على هذه الدولة باعتبارها المسؤول الأول عن نشر هذا التراث، ليس في العالم العربي فقط وإنما في كل بلاد العالم. وكان الرجل شجاعًا عندما خاطبهم في عقر دارهم قائلا لهم: عليكم أن تتحملوا النتائج التي آل إليها الإسلام والمفاهيم الخاطئة التي نشرتها ثقافتكم في العالم، وقد ضاعف من دهشتي أن الحاضرين قد تقبلوا هذا الكلام بدون اعتراض. لعل التعرف على هذه الثقافات العبء والوقوف على أسبابها يكمن في غياب التعليم وافتقاد الوعي بالعقل. القضية جد خطيرة، وهو ما يستوجب المصارحة والمكاشفة لكي نقف على مكمن الداء الذي أمات القلوب وأغلق العقول.
أتابع الآن الحراك الاجتماعي والثقافي في معظم أقطارنا العربية وأشعر بقدر من التفاؤل من خلال ظهور جيل جديد من المتعلمين، مستهم غواية المعارف الثقافية والإنسانية وظهور حراك أدبي وفني واجتماعي، نتاج تعليم نجحت فيه بعض من أقطارنا العربية، وهو ما يفسر ظهور بوادر نهضة ثقافية في بعض أقطارنا العربية، بعد أن شغل الكثيرون من الشباب النابهين وظائف تنفيذية استطاعوا من خلالها أن يحققوا قدرا من أحلامهم المشروعة، في ظل سياسات رشيدة تستهدف قيام دول وطنية مدنية قوامها العقل، دون القطيعة مع الدين، شريطة أن نعيد قراءة ما خلَّفه الأقدمون بوعي ورؤية تتفق ومصالح الناس، بعيدا عن الشعور بنظرية المؤامرة، التي علقنا عليها الكثير من أخطائنا.
ما أحوجنا إلى إعادة قراءة تراث المصلحين في تاريخنا العربي من قبيل ابن رشد وابن عربي والفارابي وطه حسين ومحمد عبده وغيرهم كثيرون من كل أقطارنا العربية، مع العناية بتراث الآخرين من كل بلاد العالم، في الفلسفة والأدب والنظريات السياسية فجميعها كانت الدعائم الأساسية التي شيدت عليها النهضات الأوروبية الحديثة.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
رغم الموجة الاستعمارية التي هبت على أوطاننا منذ القرن السادس عشر بداية من الوجود البرتغالي والفرنسي والإنجليزي، مرورًا بالغزو العثماني، وما أعقب ذلك من موجة استعمارية جديدة من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين خلال القرن التاسع عشر، إلا أننا لم نجد غضاضة من تقبل الثقافات الأجنبية الناجمة عن عصر الاستعمار الأوروبي، في شتى مجالات العلوم والمعارف بما في ذلك عصر الاستعمار ولعل القوى الاستعمارية كانت تعتقد أن المعارف والثقافات هي إحدى الوسائل لتحقيق شعبية تستهدف استلاب العقول، حدث ذلك في العصر الحديث، حينما راحت الجامعات العربية توفد النابهين من خريجيها للدراسة في مختلف الجامعات الأوروبية والأمريكية، حتى في ظل العلاقات المتوترة بين بعض الدول العربية ومعظم الأوروبية، ابتداء من منتصف خمسينات القرن الماضي.
ففي بلد كمصر عقب ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لم تتوقف البعثات العلمية بين مصر ومختلف الدول الأوروبية، إلا في فترة قصيرة عقب حرب السويس ١٩٥٦، بعدها عادت البعثات ليس في مجال العلوم التجريبية فقط، بل في مختلف العلوم الإنسانية الأخرى، ولم يفسد هذه العلاقات إلا السياسات الأوروبية الجديدة التي استهدفت أوطاننا، وخصوصًا فيما يتعلق بموقف الأوروبيين من القضية الفلسطينية، وصولًا إلى غزو العراق عندما راحت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يخططون لسياسات جديدة، كان أخطرها اللعب على التناقض المذهبي والديني، كل هذه السياسات كانت نتائجها مروعة على المنطقة العربية برمتها، ولعل ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن يعد مثالا صارخًا على ما ارتكبته الولايات المتحدة في العالم العربي من جرائم مأساوية مازال العرب يدفعون أثمانًا باهظة نتاجًا لهذه السياسات الخاطئة.
رغم أن القضية كانت سياسية واقتصادية خالصة، إلا أن هشاشة وعينا قد أحالت القضية إلى أديان ومذاهب، بعد أن ظهر من بيننا من ينظَّرون لفقه جديد، اعتمدوا فيه على نصوص اجتزأوها من سياقاتها التاريخية والدينية لكي يقيموا ما أسموه بالدولة الإسلامية، في ظل سياسات أجنبية غير عادلة وصادمة، ابتداء بالقضية الفلسطينية وانتهاء بالعديد من القضايا التي تتعلق بمستقبل أوطاننا، وقد انساق قطاع من الشباب وراء هذه الأحلام البائسة، مستخدمين الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج لإسقاط الدول الوطنية وإقامة الدولة الدينية.
في غيبة الثقافة بمعناها الاجتماعي والإنساني، وافتقاد شبابنا إلى التعرف على أعلام كبار في تراثنا العربي، من قبيل ابن عربي وابن رشد والفارابي وهي أحد المصادر الأساسية التي اعتمد عليها الفكر الأوروبي الحديث، إلا أن قطاعًا كبيرا من شبابنا راحوا ينهلون بلا وعي، من مصادر كتبت لغير أزمانهم وفي سياقات متباينة، كل ذلك أحدث انحرافا عن مقاصد الإسلام وابتعدنا كثيرا عن الإسلام الحقيقي. واللافت للنظر أن بعض أقطارنا ومؤسساتنا العربية كانت تروج لهذا الفكر، وهو أمر كان يدعو إلى الدهشة والحيرة، وقد أنفقوا أموالا طائلة لتمويل منظمات جهادية، وحينما شعروا بالخطر على عروشهم وأوطانهم تراجعوا بسرعة عجيبة.
أتذكر أنني كنت مشاركًا في مؤتمر أقامته الجامعة العربية في إحدى الدول العربية، وهي من الدول التي كانت تروج لهذه الثقافة بكل الوسائل، وكان موضوع المؤتمر عن الإرهاب، وكان يحلس بجواري الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة الشهير، وقد تعجبت من وجوده في هذا المؤتمر فهو مسيحي ليبرالي يكتب في الصحف ويتحدث في برامج تليفزيونية في قضية عنوانها الأهم (العقل)، وفي كل ما كتب أو حاضر كان يلقي بالمسؤولية على هذه الدولة باعتبارها المسؤول الأول عن نشر هذا التراث، ليس في العالم العربي فقط وإنما في كل بلاد العالم. وكان الرجل شجاعًا عندما خاطبهم في عقر دارهم قائلا لهم: عليكم أن تتحملوا النتائج التي آل إليها الإسلام والمفاهيم الخاطئة التي نشرتها ثقافتكم في العالم، وقد ضاعف من دهشتي أن الحاضرين قد تقبلوا هذا الكلام بدون اعتراض. لعل التعرف على هذه الثقافات العبء والوقوف على أسبابها يكمن في غياب التعليم وافتقاد الوعي بالعقل. القضية جد خطيرة، وهو ما يستوجب المصارحة والمكاشفة لكي نقف على مكمن الداء الذي أمات القلوب وأغلق العقول.
أتابع الآن الحراك الاجتماعي والثقافي في معظم أقطارنا العربية وأشعر بقدر من التفاؤل من خلال ظهور جيل جديد من المتعلمين، مستهم غواية المعارف الثقافية والإنسانية وظهور حراك أدبي وفني واجتماعي، نتاج تعليم نجحت فيه بعض من أقطارنا العربية، وهو ما يفسر ظهور بوادر نهضة ثقافية في بعض أقطارنا العربية، بعد أن شغل الكثيرون من الشباب النابهين وظائف تنفيذية استطاعوا من خلالها أن يحققوا قدرا من أحلامهم المشروعة، في ظل سياسات رشيدة تستهدف قيام دول وطنية مدنية قوامها العقل، دون القطيعة مع الدين، شريطة أن نعيد قراءة ما خلَّفه الأقدمون بوعي ورؤية تتفق ومصالح الناس، بعيدا عن الشعور بنظرية المؤامرة، التي علقنا عليها الكثير من أخطائنا.
ما أحوجنا إلى إعادة قراءة تراث المصلحين في تاريخنا العربي من قبيل ابن رشد وابن عربي والفارابي وطه حسين ومحمد عبده وغيرهم كثيرون من كل أقطارنا العربية، مع العناية بتراث الآخرين من كل بلاد العالم، في الفلسفة والأدب والنظريات السياسية فجميعها كانت الدعائم الأساسية التي شيدت عليها النهضات الأوروبية الحديثة.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.