omandaily

ثقافة

جابر بن زيد وأدب الرسائل

رواد الأدب العماني

في بلدة فرق العتيقة في نزوى بداخلية عمان، ولد جابر بن زيد بين عامي 18 و21 للهجرة، في أسرةٍ تحبّ العلمَ، وتقدّرُ الكفاح، هناك تعلّم جابرُ مبادئَ العلومِ على يد والده ومدرسة القرية.. كان يسمع عن البصرة والعلماء الّذين بها، فقصدها، فالبصرة كعبة العلم عند العمانيين يومذاك... وأوصاه والده أن ينزل بدرب الجوف..كان ذلك الحيُ عمانيا أزديا، ومنذ وطئتْ قدماه البصرة، استوطن حلقات العلم، وزاحم الطّلابَ فيها، فنال تقدير الصّحابةِ والتّابعين في البصرة، والتقى هناك بصديقه الحبيب الحسنَ البصريّ. فأخذا يعبّان من شرابِ العلم حتى فرغت 'آنيةُ البصرة وجحلتُها'، حينها يمم جابرُ إلى المدينة ومكة..

كان يحجّ كلّ سنة، ليشفي غليله بلقاء العلماء والصحابة، كعائشةِ أمّ الـمؤمنين، وعبدِالله بن عبّاس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسعود، وأنسِ بن مالك، وأبي هريرة، وجابرِ بن عبدالله وغيرهم. يقول جابر عن نفسه: 'أدركتُ سبعين بدريّا، فحويتُ ما عندهم من العلم إلّا البحر' يقصد عبدَالله بن العبّاس. لأنه ليس ممن شهد معركة بدر، وقيل بل لاتساع علمه ومعارفه. فقد كان يلتهم العلم التهاما، مصغيا كله إلى الدرس، يستمع الحديث، ثم يناقش ويحلل.. حتى أعجب به الصحابةُ، ورأوا أنه أصبح مؤهّلا ليكون مفتيا.. تحدث عن نفسه فقال: 'بينما كنتُ في الطّواف حول الكعبة إذ مر بي ابن عمر، فقال لي: يا جابر إنّك من فقهاء البصرة، وإنّك ستُستفتى (أي ستصبح مفتيا للنّاس في أمور دينهم)، فلا تفتين إلّا بقرآنٍ ناطق، أو سنّةٍ عن الرّسول'. هكذا أصبح جابر، مفتي البصرة، سأل بعض أهل البصرة الصحابي عبدَالله بن عبّاس مسألةً، فقال لهم: تسألوني وفيكم جابر بن زيد؟ لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عمّا في كتاب الله عزّ وجلّ. وهذا الصحابي جابرُ بنُ عبدِالله الأنصاري حين جاء رجل يسأله عن مسألة، قال 'كيف تسألوننا وفيكم جابر أبو الشّعثاء؟

ليس العلم وحده ما يميز جابر بن زيد.. بل أيضا الورع، فقد كان ورعا تقيا، مرّةً كان في الطّريق عندما نبحته الكلاب، فمرّ بحائطٍ (بستانٍ) فانتزع منه قصبةً، أبعد بها الكلابَ عنه..فلمّا وصل البيتَ وضعها، ثم قال لأهله: احتفظوا بهذه القصبة فإنّي مررتُ بحائط قومٍ فانتزعتها منه. قالوا له: سبحان الله يا أبا الشّعثاء هذه مجرّد قصبة؟ فقال: لو كان كلّ من مرّ بهذا الحائط أخذ منه قصبة لم يبق منه شيء.

عاش جابر زاهدا بسيطا، رغم مكانته العلمية في البصرة وثناءِ الصّحابة عليه. قال يوما لأصحابه: ليس منكم أغنى منّي ليس عندي درهمٌ، ولا عليّ دين. وكان جابر بن زيد في قمّة الخلق، واسع الصدر. لا يجازي السّيّئة بمثلها، يروى أنّ آمنة زوجته خرجت إلى مكّة للحجّ، وأقام جابر تلك السّنة ولم يحج، فلمّا رجعت سألها عن الشّخص الّذي استأجرتْ معه الرّاحلة. فقالت: إنّه سيّءٌ بخيل. فخرج إليه جابر واستدعاه، وأدخله الدّار، واشترى لإبله علفا، وصنع له طعاما، فلمّا تّغدّى خرج به إلى السّوق فاشترى له ثوبين كساه بهما، ودفع إليه ما كان مع آمنة من قربة وأداة وغير ذلك من آلة السّفر. لمّا عرفت ذلك آمنة اندهشت، قالت لجابر بعد عودته للبيت: أخبرتك بسوء صحبته ففعلت معه ما أرى؟! فقال جابر مبتسما: أفنكافئه بمثل فعله فنكون مثله؟ لا، بل نكافئه بالسّوء خيرا وبالإساءة إحسانا.

في البصرة التقى جابر برجل أحبّه وقرّبه. إنّه أبو بلال الـمرداس بن حدير، فقد كان أبو بلال ممّن نجا من معركة النّهروان، حيث أقام بالبصرة، وكان يرى أنّ القتال بين أتباع الدّين الإسلاميّ أمر لا يصحّ، وأخذ ينشر آراءه وأفكاره مفضّلا طريق النّقاش والإقناع، حتى لُقّبَ هو وأتباعه بالقعدة. وكان أبو بلال لا يفعل أمرا إلّا بعد استشارة جابر. فبدأ جابر يضع قواعد وأسس منهجٍ جديدٍ سمي فيما بعد (المذهب الإباضي). وبدأ جابر ينشر بالتقعيد للـمذهب الإباضيّ...بدأ يلتقي برجالات البصرة.. وبدأ التأثير واضحا..خاصّة أنّه يدعو إلى المساواة بين الـمسلمين، ورفع الظلم، وعدم احتكار السلطة وتوريثها، وحينما أراد الحجاج ضم عمان إلى سلطته.. تفاجأ بصمودها. واتهم أزد البصرة بمساعدة أهلهم في عمان، فوضع زعماء الأزد في العراق ومن بينهم جابر بن زيد تحت مراقبةٍ شديدةٍ.

وزاد من حنقه على جابر ما بلغه عنه من أمر الدعوة التي يقوم بها جابر.. فأمر الحجاج بالقبض على جابر.. وأدخله السّجن، ثم أطلقه الحجاج ونفاه إلى عمان.

فعاد جابر إلى وطنه بفكرٍ جديد، عاد ليكون الرمز العلميّ الأول لعمان على مدى تاريخها، عاد ليسطر فصلا جديدا في الفكر العماني، عاد لينشر روحا جديدة تغلغلت في نفوس العمانيين وقلوبهم وعقولهم..وأقبل العمانيون على أفكار جابر... أحبوها كما أحبّوه وتعلّقوا به. وبعد حين تثمر هذه الأفكار لتغذّي الهوية العمانية بفكرة الإمامة..

غير أن أهل البصرة لم يسكتوا.. وطالبوا الحجاج بالسّماح لمفتيهم وعالمهم جابر بالعودة، فسمح له بالعودة. عاد جابر إلى البصرة،

وتفرّغ لمشروعه الفكري الكبير 'المذهب الإباضي'. حتى وفاته سنة 93 للهجرة. وحين بلغ خبر وفاته الصّحابيّ الجليل أنس بن مالك قال: 'اليوم مات أعلم من على ظهر الأرض' وقال التّابعيّ الكبير قتادة شيخ الإمام البخاريّ: 'اليوم مات عالم الأرض'.

كان يراسل كثيرا من أصحابه وتلاميذه في مختلف البقاع، كان يجيب على أسئلتهم الّتي ترده منهم، وكانت تتخلّل رسائله الـمواعظ الإيمانيّة، والتّذكرة بالآخرة، والاستعداد للحساب. وتُعد رسائل الإمام جابر بن زید الأزدي التي كان يرسلها إلى مجموعة من طلابه أو أصدقائه باكورة التألیف والكتابة العربیة، كما أنها تجسّد شخصية جابر، فتبين حرصه على طلبة العلم، وتقديمه الجانب الإيماني على الفقهي، ونصحه لهم بالورع والتقوى، وعدم الاهتمام بالشكليات، والتأثر بالقرآن، وعدم الاغترار بالدنيا وزخرفها، والدعوة إلى الوحدة والألفة...وذكر زكريا بن ثاني الحسني مجموعة من الخصائص الأسلوبیة في رسائل الإمام جابر بن زید منها، أن الإمام يتبع نسقا خاصًّا فی البناء الخارجي لرسائله، وهذا النسق ظاهر في أغلبها وهذا النسق في الحقیقة یعكس منهجیة الكتابة التي سار علیها: أولا: مقدمة الرسائل: وتتكون المقدمة من عناصر محددة ومتشابهة، فتبدأ كل الرسائل (بالبسملة) أما العنصر الثاني من عناصر المقدمة فیحتوي على اسم المرسِل والمرسَل إلیه، وأما العنصر الثالث من عناصر المقدمة، فیحتوي على صیغة السلام (سلام علیك) بصیغة التنكیر، ویتبعها (فإني أحمد إلیك الله الذي لا إله إلا هو).

ثانيا: الوصایا: هذا العنصر من العناصر المهمة والجادة للغایة، ولا یمكن التنازل عنه؛ لدرجة أن الوصایا قد تفوق الجواب أو الغرض الأساس من الرسالة، وهذا یؤكد أهمیة هذا العنصر بالنسبة إلى الإمام جابر بن زید. وتتحدث الوصایا كلها عن المواعظ والتذكیر بالدار الآخرة، وأهمیة التقوى، ومكانة الإخلاص لله تعالى، والتحذیر من النفاق والشقاق، مع تنبیه السائل إلى أن هذه المسائل أهمّ من أفعال الصلاة أو الحیض أو الطلاق، فهذه المواعظ هي منطلق العمل والدعوة والفقه والعقیدة.

ثالثا: الاطمئنان على السلامة والصحة: ولهذا العنصر مكوِّنٌ أساسٌ من المكونات الخارجیة للرسائل، فبعدما ینتهي الإمام من بثِّ وصایاه الإیمانیة یدخل بعبارة: فإنا نخبرك مِن خبرِنا أنا سالمون صالحون، وتتكرر مثلُ هذه العبارة في معظم الرسائل: فإنا كتبنا إلیك ونحن بخیر من الله ونعمه متظاهرة لا یحصى عددها، ولا نبلغ شكرها.

رابعا: الجواب الفقهي: وهذا هو موضوع الرسائل أساسا، وفیه یبسط الإمام جابر جوابه الفقهي على ما ورد إلیه من أسئلة، ونلاحظ أن الإمام یتبع نسقا واحدا في الإجابة على الأسئلة.

خامسا: خاتمة الرسائل والوصایا: ویجعل الإمام خاتمة رسائله صیغة (السلام علیك)، وأحیانا یسبقها بعض الجمل العاطفیة كما فی قوله: (اكتب إلي بحالك، واعلم أنك ممن یعجبني صلاحه وعافیته... والسلام علیك).