أعمدة

روزنامة التفكير: فلسفة الحكايات من «دريشة»

 
وكأن الحكايات تلك الثرثرة الأعذب على ما يبدو قد تشكّلت مع بذرة الخلق الأولية، وتنامت مع الحضارات لتحكيها لاحقا، وكأنها جاءت مع الفطرة الأولى، حسب شواهد من تصاوير الكهوف وحكايا الأثريات المدونة بالحفر والطرق.

جاءت الحكاية -ولا يعرف على وجه التحديد- إن كانت قبل الأحداث قد خلقت أم أنها جاءت بعد الأحداث، فتشكلت الحكاية واستجمعت قواها منها، ولربما ينظمّ بذلك هذا التساؤل إلى قائمة الأسئلة الجدلية، كأيهما جاء أولا: الدجاجة أم البيضة؟ ولا نعني بذلك الجدل الذي قال عنه نجيب محفوظ (الجدل مهنة العاجزين عن الخلق)، بل ذلك الجدل الذي عبّر عنه الكاتب الفلسطيني سعد قديح بقوله « لا قيمة غالبا للفكرة إن لم تحدث ضجيجا، إن لم تحدث جدلا «، أي أنها بذلك تثير التساؤلات التي تدفع برحلة البحث داخلك، حيث إن العلاقة بين الحكاية والراوي فعل تبادلي، فكما تقول أوهان باموك: «الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخصّ الآخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة».

إنها الحكاية بمفهومها العام ومعناها الأعمق؛ التي تلخص مجمل الحياة في أحداث سردية قابلة للتنقل عبر الأفواه، وما بين الخطابات وعبر الكتب والتراجم، فهي تأتي بمعنى عام كديباجة تسير عليها الأحداث وفق قوانين أعلى، أو هي تأتي بتفاصيل أدق وأعمق لتصنع هي تلك القوانين المستبدّة، إنها الحكاية بجبروتها شقّت طريقها نحو الخلود، وعبر قلوب الناس ومخطوطات الكتب الأثريّة، هي الحكاية التي تعبّر عن الحياة، والتي لولاها لما تنامت البشريّة.

لتأتي تتأرجح تختال بتباينها وتعدد مساراتها، تطوّقنا وتدخل في التفاصيل، تطرق باب العموميات وتتداخل في أدق التفاصيل، لتكون في حياتنا والشارع، وتكون في الأدبيات لتتربع عرش أدبيات الخطاب الديني (فاقصص القصص لعلّهم يتفكرون)، لتكون بفلسفة تسير عليها حيث لا شيء يقيني، وإجابات التساؤلات تبدو ضبابية، وكما تقول بثينة العيسى « تأتي الروايات كمحاولة واعية أو غير واعية للإجابة على السؤال بلا إجابات نهائية «.

جاءت بداياتها ككل البدايات التي لا يعرف أصلها، فقط بضع افتراضات تسير عليها حول أن الحكاية باتت لغة تواصل بين الشعوب والحضارات عبر الأزمان، فأغلب ما وصل إلينا عن تلك الحقب كان على شكل حكايا.

وسط تساؤلات حول أن الحكايات تكتمل بعد حدوث الأشياء، أم أن الحكاية تكون حاضرة وبقوّة قبل أن تبدأ القصة من الأساس، وبذلك يأخذنا السؤال إلى مأخذ أبعد؛ هل الحكايات تتكرر على نحو فطري، ونكون بذلك مجبولين على السير في ذات الطريق التي تصنع قدريّة الحكاية.

وحسب نظريّات الطاقة وعلى اعتبار أن الحكاية مخزون من طاقة المشاعر والذاكرة الكامنة، فما هو شكل الطاقة التي تكونه عندما تروى؟ وحسب تساؤل محمد صلاح العزب «من يملك نفسه أمام سطوة الحكايات؟.

لتأخذنا حكايات من وراء الدريشة، مغلفة كانت أم مفتوحة، خشبية الصنع أم معدنية، صدئة أم حديثة صقيلة، إلا أنها بوابة عبور لتلك الحكايات، ولمزيد من فلسفة الحكايات مع المجموعة القصصية للكاتب (خليفة بن سلطان العبري)، في كتابه الصادر عن دار نثر (دريشة وحكاية وغرفة )، لتفتح معها مجموعة جديدة من فلسفة الحكايات، ومنظومتها النمطية رغم اتساعها وتنوّعها.

وكعادة كل الحكايات فهي تسبح في الأرجاء منتشرة، منسية إلى أن يقرر أحدهم أن يحولها إلى حكاية بمعناها المرويّ، ويلتقطها من الجو كمن يقتنص فراشة حرة طليقة، وعبر محرك خفي دفين في داخله عادة ما يترجمه في الإهداء، فذلك الإهداء قد يكون الوقود المحرك الدافع لأن تتحول الحكاية من طاقتها الكامنة إلى سيرة تروى، مشبعة بالحياة، فيهدي الكاتب تلك الأقاصيص إلى روح حادثة أليمة، رحلت كما رحل صاحبها، فكما يُقال « ينتهي الأمر إلى أن تصبح مجرد حكايات تُروى «، وكما تقول مارسيل بروست: « إننا نتمتّع بموهبة اختراع الحكايات كي ندغدغ ألمنا «.

وكعادة تلك الحكايات التي حيكت بفنّية بالغة؛ فإنها تأخذك إلى أكثر من معنى، وعبر أكثر من مدخل ليستفتح الكاتب سلسلة حكاياته بأما قبل (وصلتها والبساتين لا تزال تضجّ بالهديل والزقزقة، وغادرتها حين حلّ على أجوائها طيور مختلفة عن طيور فضاءاتها).

لينتقل بعدها إلى حكايات الشارع، فيستخلص منها معانيها الفريدة ومفارقاتها العجيبة، وكما يقول الكاتب إبراهيم نصرالله (في الشوارع كل الحكايات التي فرّت هاربة من زوايا البيوت)، فيعرف أن للحكايات جانب قدري تسير عليه، عبر نداءات القدر الخفية (قد شكّلتُ طيلة هذه السنوات مثلّثا متجها ناحية الشمال).

ولا تخلو التساؤلات والطابع العجائبي للأحداث، والذي قد يكون العلامة الفارقة ما بين الحكاية والأحداث الإعتيادية: (يجوز في الشتاء ما لا يجوز في الصيف)، وكعادة كل الموجودات من حولنا، فإن لها بداية تعود إلى امتدادات الجذور البعيدة، فيتبعها مع من عاصر العهد القديم، علّه بدءًا منه لغز خلود الحكاية (قال إنه عاصر فترة حكم السلطان تركي)، ليطرق باب المشاعر حيث لا حكاية بلا مشاعر، والذي به تكون فيه المشاعر كل الحكاية، فمن بعد تهويلات الخوف وإعصاره (قد انخفض بسرعة ملحوظة حينما انكسر شارع الحب).

ليواصل سيره مع الحكاية يتبع بوصلتها التي ترشده إلى طريقها، وما تلك البوصلة إلا فلسفتها التي تسير عليها، والتي تتبدّى من خلال الأحداث (وهو يتجوّل بين أزقة الحي، كتائه يبحث عن مقصده)، ليراقب بعدها الحكايات من خلف الدريشة ليتساءل (هل ثمة صور من حكاياته لا تزال تسكن خلفها؟ هل تشكلت حكايات أخرى لعب غيره بطولاتها؟).

ولا يجد دافعا أمام كل ذلك الترقّب والشغف للحكايات وسردها سوى (الرغبة في رؤية كل الأشياء دون حُجب)، فمن عادة الحكايات أن تحمل في باطنها رمزية المعنى، وجوهر الدرس، فلا تبوح بعلمها وحكمتها إلا عبر الحكاية والأحداث، ولا تقوم بدورها ككائن وعظي يلقي الخطب والمواعظ، فيطاردها إلى أن يجدها، فيحكيها ويغادر إلى حكايات أخرى حيث تكون (ربما تشابه في الأسماء، أو تشابه في الصور)، ليحثّ بذلك القارئ على السير.

وعلى شفى الصبح هناك حكاية غرفة وعازف ناي، هو الراوي ذاته الذي يقول مدركا (وأنا أردد في داخلي إن في القلوب مغاليق تحتاج من يفتحها لتبوح أو يجعلها تعزف)، وليعرف أن الحكاية لا بدّ أن تحاط (بهواية جديدة اسمها تهويل الأخبار والمواقف والمصادفات)، حيث تصل فيها الفكرة بأوج تجلياتها، إلا أنها رغم ذلك فإنها خفيفة كفقاعة، ومن السهولة أن تتلاشى، (كانت الفكرة وتسلسل أحداثها تنهمر في الطريق، لكن حين وصل وترجّل وجدها قد غادرته، من يتمكن من القبض على أي خيط منها، حاول عصر ذاكرته دون جدوى، سينام على أمل أن تندسّ الفكرة في الحلم، أو تشرق مع الصباح).

ليستذكر بعدها رفاقه ممن يحملون حِرفة القلم، فيهاجم عليه صوت ميرال الطحاوي، ومن بعدها ماركيز، وإبراهيم الكوني، والصادق النيهوم، وكأنه بذلك يستعرض قائمة كتّابه المفضلين، يحثّ القارئ على تتبع خط سير أفكارهم عبر كتبهم وإرثهم الفكري.

مؤكدا على الرمزية التي تثير الدهشة، أكثر من ثقل اللغة وتقاطعات الأحداث، وتضخيم العاطفة والمشاعر، فيضمّن أغلب قصصه رمزيّة المعنى، التي تثير في نفس القارئ التساؤلات والتأملات، كتلك التي (في بيت الضاحية المسماة ببستان الفلج، وقرب كل غروب، وحينما تبدأ خيوط الشمس في وداع سعف النخيل وأغصان الشجر)، ليستشهد بالتاريخ فتكون لبعض الأحداث التاريخية الفارقة مكان، تتربع في عرش سطور الحكاية، ليقف القارئ عليها مدوّنا ليعود لها من مصادرها الأم من كتب التاريخ والسِّيَر وغيرها، ليستفيق بعدها رجل الكهف بدهشة الصدمة، فيمشي بعيدا عن الغبرة إلى حيث كرمة البيت،. حيث لا مجال لذات ملل، فهناك الثرثرة الأعذب، هناك الحكاية من خلف دريشة.

فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية