يكمن الإسلام حيث تكمن مقاصده
السبت / 9 / رمضان / 1444 هـ - 19:46 - السبت 1 أبريل 2023 19:46
الكثير من مشاكل العالم العربي والإسلامي تكمن في الأوهام التي راحت تتضخم كجبال الثلج في غيبة الثقافة الرشيدة، وخصوصًا فيما يتعلق بما علق بالإسلام والفكر الإسلامي من أوهام وضلالات، حيث أصبحت الفضاءات تقدم إلينا بعض المتحدثين في أمور الدين وقد افتقد بعضهم الشروط المؤهلة للقضايا التي يتحدثون فيها، حينما يخلطون الرأي بالنص المقدس، أو يقرؤون النصوص على ظاهرها، أو يجتزؤونها من سياقاتها، ويختلقون معارك وهمية ذات طابع مذهبي أو ديني، جميعها تحض على كراهية الآخر، وأعترف أن هذه القضايا وغيرها قد أقامت خصومة مع العقل وخصوصا ما يتعلق بالآخر، أيا كان هذا الآخر دينًا أو مذهبًا، ولم يدرك البعض أن العيش المشترك ضرورة من ضرورات الحياة، بعض هؤلاء المتحدثين يخرجون علينا صباح مساء، ومن قنوات خاصة وأحيانا حكومية، يتقولون على الرسول صلى الله عليه وسلم، بأقوال يتلقاها العامة والدهماء، أشاعت فيما بيننا روح الكراهية، وهو خطاب ينم عن جهل حقيقي بمقاصد الإسلام، الذي عُني بالعقل، لدرجة أن من يعتمد على عقله في الوصول إلى الحق ولم يصل إليه فهو ناج، وإذا تعارض العقل مع النص أُخذ بما يقول به العقل.
أي قول رشيد يمكن أن يقول بتكفير الناس من أي دين أو مذهب آخر؟ إذا بلغ الحمق برجل أو جماعة تقول بتكفير شخص أو جماعة بشأن قضية تحتمل كثيرا من الوجوه، فهو يعيدنا إلى عصر محاكم التفتيش التي كانت تأخذ الرجل مكبلًا ليلقى به في النار، المتابع لواقعنا المُعاش يندهش لهول ما آلت إليه أحوالنا الفكرية، حينما يقول البعض بأهمية السلطة الدينية باعتبارها أصلا من أصول الإسلام، بينما الإسلام قد محا تلك السلطة، ولم يجعل الله أحدا سلطانا على عقيدة أحد ولا على إيمان أحد، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مهيمنا ولا مسيطرا، ولم يكن إلا مبلغا فقط، وليس لمسلم على آخر إلا حق النصيحة، وليس من حق أحد أن يتتبع عورات الناس، ولا يحق لمسلم أن يأخذ عقيدته أو أن يتلقى شيئا من أصول دينه إلا عن طريق كتاب الله وسنة رسوله فقط، لذا ليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بأي وجه من الوجوه.
لقد قال الشيخ محمد عبده قولا عميقا في كتابه الشهير (الإسلام بين العلم والمدنية)، رد فيه على من يقولون بإعلاء النص على حساب العقل، وهو قول في حاجة إلى أن يتعلمه الناس، حتى لا تتحول حياة المسلمين إلى خرافة لا تستمد أصولها من الدين، بل تستمد أصولها ممن أطلقوا على نفسهم (دعاة) وهم في معظم القنوات الفضائية ينام الناس ويستيقظون على ما يقولونه حراما وحلالًا.
البعض ممن يخوضون في أمور الدين بلا معرفة، لا يمتلكون ثقافة الإسلام بمعناه الذي قال به كثير من علمائنا الكبار، من قبيل الفقيه الأندلسي أبي إسحاق الشاطبي (المتوفي عام ٧٩٠م)، الذي قدم رؤية متكاملة للإسلام عقيدة وشريعة، من خلال كتابه القيم (الموافقات) الذي لم يرجع إليه معظم من يخرجون علينا صباح مساء عبر القنوات الفضائية، لقد كان فهم (الشاطبي) للغة العربية هو الدرس الأول لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد عُني بالشريعة ليس باعتبارها مجرد تكاليف تخضع لأمزجة البعض ورؤيتهم المتواضعة، بل استهدف مصالح الدين والدنيا معا، تأكيدا على ما أجمع عليه العلماء الثقاة من أهمية حماية الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وهي جميعها تعد أسس المصالح المرعية في كل دين، ولا يخلو باب من أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وجنايات - إلخ، إلا بالحرص على رعاية المصالح التي استهدفها الشرع الكريم.
لقد غاب عن الخائضين في علوم الشريعة مقاصدها الحقيقية في كل مناحي الحياة، إعمارا ومحبة وتسامحا بين كل البشر، بصرف النظر عن أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم، وهي أمور لا يمكن فهمها إلا بفهم واع بمقاصد الشريعة، وهو مالا يتحقق إلا بالمعرفة الكاملة بنصوصها، ولهذا عُني (الشاطبي) بعلم الاستنباط بركنيه، علم لسان العرب وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها، وعلى نفس الطريق مضى الإمام الشاطبي إلى كل ما يمس حياة الناس إعمارا ونماءً ووعيًا.
إن ما كتبه الإمام (الشاطبي) في كتابه الأشهر (الموافقات) بأجزائه الأربعة، يعد تعبيرا حقيقيًا عن الإسلام، فقد ألم بكل مقاصد الشريعة ووقف على مصادر التشريع، وهو ما كان الشيخ محمد عبده ينصح به طلابه، ويجعل من شروط إجازة بعضهم للفتوى أن يكونوا على معرفة كافية بفقه الإمام الشاطبي، وخصوصًا في علم (المقاصد)، كما كان الإمام مالك في مقدمة المتبحرين في هذا العلم، حينما قال بسد الذرائع والأخذ بالمصلحة الأقوى الراجحة على المصلحة الأضعف (المرجوحة).
ما أحوجنا إلى التريث عن سيل الفتاوى التي أهان بعضها الدين، حينما راح البعض يوظفه توظيفًا سياسيًا بعيدا عن مقاصده الحقيقية، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أول من نبهنا إلى أهمية إعمال العقل وتقدير المصلحة، حينما سئل عليه الصلاة والسلام في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال، فأجاب عليه الصلاة والسلام بإجابات مختلفة كل إجابة منها لو حُملت على إطلاقها لحق القضاء فيما بينها، بينما كل إجابة جاءت وفق سياقها وظروف السائل وبيئته الاجتماعية ودرجة فهمه- إلخ.
لعل أخطر الأمور التي أهملناها في حياتنا الاجتماعية والتعليمية، هو تغييب العقل في كل أمور الحياة، ومن المؤسف ونحن في القرن الحادي والعشرين أن يذهب البعض إلى افتعال خصومات ومعارك حول قضايا فكرية حُسمت منذ نهايات القرن التاسع عشر لصالح العقل والعلم، لدرجة أن رجلًا اشتهر في الفضائيات بخطابه الداعي إلى القتل حينما يقول: (إن أزمة المسلمين تكمن في تقاعسهم عن الجهاد والغزو لأن ذلك من أصول الإسلام ولو قمنا كل عام بغزوة أو اثنتين لبلاد الكفار وأخذنا أموالهم وسبينا نساءهم وأسرنا رجالهم لحققنا من وراء ذلك خيرًا وفيرا). لا فض فوه، لقد حان زمن الغزو بينما نحن في زمن امتلك فيه الإنسان ناصية الحياة في الأرض والسماء، بالعلم الذي يتقدم بشكل لا يعرفه أنصار الجهل.
نحن في حاجة ليس إلى كتابات المستنيرين من فقهائنا فقط، بل والمبدعين من مفكرينا وعلمائنا في شتى مناحي العلوم والمعارف، لعلنا نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
أي قول رشيد يمكن أن يقول بتكفير الناس من أي دين أو مذهب آخر؟ إذا بلغ الحمق برجل أو جماعة تقول بتكفير شخص أو جماعة بشأن قضية تحتمل كثيرا من الوجوه، فهو يعيدنا إلى عصر محاكم التفتيش التي كانت تأخذ الرجل مكبلًا ليلقى به في النار، المتابع لواقعنا المُعاش يندهش لهول ما آلت إليه أحوالنا الفكرية، حينما يقول البعض بأهمية السلطة الدينية باعتبارها أصلا من أصول الإسلام، بينما الإسلام قد محا تلك السلطة، ولم يجعل الله أحدا سلطانا على عقيدة أحد ولا على إيمان أحد، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مهيمنا ولا مسيطرا، ولم يكن إلا مبلغا فقط، وليس لمسلم على آخر إلا حق النصيحة، وليس من حق أحد أن يتتبع عورات الناس، ولا يحق لمسلم أن يأخذ عقيدته أو أن يتلقى شيئا من أصول دينه إلا عن طريق كتاب الله وسنة رسوله فقط، لذا ليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بأي وجه من الوجوه.
لقد قال الشيخ محمد عبده قولا عميقا في كتابه الشهير (الإسلام بين العلم والمدنية)، رد فيه على من يقولون بإعلاء النص على حساب العقل، وهو قول في حاجة إلى أن يتعلمه الناس، حتى لا تتحول حياة المسلمين إلى خرافة لا تستمد أصولها من الدين، بل تستمد أصولها ممن أطلقوا على نفسهم (دعاة) وهم في معظم القنوات الفضائية ينام الناس ويستيقظون على ما يقولونه حراما وحلالًا.
البعض ممن يخوضون في أمور الدين بلا معرفة، لا يمتلكون ثقافة الإسلام بمعناه الذي قال به كثير من علمائنا الكبار، من قبيل الفقيه الأندلسي أبي إسحاق الشاطبي (المتوفي عام ٧٩٠م)، الذي قدم رؤية متكاملة للإسلام عقيدة وشريعة، من خلال كتابه القيم (الموافقات) الذي لم يرجع إليه معظم من يخرجون علينا صباح مساء عبر القنوات الفضائية، لقد كان فهم (الشاطبي) للغة العربية هو الدرس الأول لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد عُني بالشريعة ليس باعتبارها مجرد تكاليف تخضع لأمزجة البعض ورؤيتهم المتواضعة، بل استهدف مصالح الدين والدنيا معا، تأكيدا على ما أجمع عليه العلماء الثقاة من أهمية حماية الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وهي جميعها تعد أسس المصالح المرعية في كل دين، ولا يخلو باب من أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وجنايات - إلخ، إلا بالحرص على رعاية المصالح التي استهدفها الشرع الكريم.
لقد غاب عن الخائضين في علوم الشريعة مقاصدها الحقيقية في كل مناحي الحياة، إعمارا ومحبة وتسامحا بين كل البشر، بصرف النظر عن أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم، وهي أمور لا يمكن فهمها إلا بفهم واع بمقاصد الشريعة، وهو مالا يتحقق إلا بالمعرفة الكاملة بنصوصها، ولهذا عُني (الشاطبي) بعلم الاستنباط بركنيه، علم لسان العرب وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها، وعلى نفس الطريق مضى الإمام الشاطبي إلى كل ما يمس حياة الناس إعمارا ونماءً ووعيًا.
إن ما كتبه الإمام (الشاطبي) في كتابه الأشهر (الموافقات) بأجزائه الأربعة، يعد تعبيرا حقيقيًا عن الإسلام، فقد ألم بكل مقاصد الشريعة ووقف على مصادر التشريع، وهو ما كان الشيخ محمد عبده ينصح به طلابه، ويجعل من شروط إجازة بعضهم للفتوى أن يكونوا على معرفة كافية بفقه الإمام الشاطبي، وخصوصًا في علم (المقاصد)، كما كان الإمام مالك في مقدمة المتبحرين في هذا العلم، حينما قال بسد الذرائع والأخذ بالمصلحة الأقوى الراجحة على المصلحة الأضعف (المرجوحة).
ما أحوجنا إلى التريث عن سيل الفتاوى التي أهان بعضها الدين، حينما راح البعض يوظفه توظيفًا سياسيًا بعيدا عن مقاصده الحقيقية، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أول من نبهنا إلى أهمية إعمال العقل وتقدير المصلحة، حينما سئل عليه الصلاة والسلام في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال، فأجاب عليه الصلاة والسلام بإجابات مختلفة كل إجابة منها لو حُملت على إطلاقها لحق القضاء فيما بينها، بينما كل إجابة جاءت وفق سياقها وظروف السائل وبيئته الاجتماعية ودرجة فهمه- إلخ.
لعل أخطر الأمور التي أهملناها في حياتنا الاجتماعية والتعليمية، هو تغييب العقل في كل أمور الحياة، ومن المؤسف ونحن في القرن الحادي والعشرين أن يذهب البعض إلى افتعال خصومات ومعارك حول قضايا فكرية حُسمت منذ نهايات القرن التاسع عشر لصالح العقل والعلم، لدرجة أن رجلًا اشتهر في الفضائيات بخطابه الداعي إلى القتل حينما يقول: (إن أزمة المسلمين تكمن في تقاعسهم عن الجهاد والغزو لأن ذلك من أصول الإسلام ولو قمنا كل عام بغزوة أو اثنتين لبلاد الكفار وأخذنا أموالهم وسبينا نساءهم وأسرنا رجالهم لحققنا من وراء ذلك خيرًا وفيرا). لا فض فوه، لقد حان زمن الغزو بينما نحن في زمن امتلك فيه الإنسان ناصية الحياة في الأرض والسماء، بالعلم الذي يتقدم بشكل لا يعرفه أنصار الجهل.
نحن في حاجة ليس إلى كتابات المستنيرين من فقهائنا فقط، بل والمبدعين من مفكرينا وعلمائنا في شتى مناحي العلوم والمعارف، لعلنا نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.