بينما يستذكر العالم هذه الأيام مرور عقدين من الزمن على الغزو الأمريكي ـ البريطاني على العراق، من المستحيل تجاهل حجم الدمار الهائل الذي أحدثه ذلك الغزو في العراق وفي المنطقة بأسرها. روجت أمريكا الحرب على العراق باعتبارها تدخلا ضروريا لإزالة أسلحة الدمار الشامل من بين يدي «صدام حسين»، لكن سرعان ما اكتشف العالم بأسره أن الأمر لم يكن إلا خدعة وعذرا لتمرير حرب مدمرة لا داعي لها أبدا، وانزلقت أمريكا بلد «الديمقراطية» كما تصف نفسها في مستنقع عميق من العنف والموت والفوضى تركت كلها ندوبا دائمة على العراق، وعلى الشعب العراقي والعربي، وعلى جميع شعوب الشرق الأوسط.

في الأيام الأولى للحرب، واجهت القوات الأمريكية مقاومة قليلة أثناء تقدمها نحو بغداد، لكن الانتصار الذي صاحب سقوط نظام صدام حسين لم يدم طويلا، قاوم العراقيون الاحتلال بشجاعة، وكبدوا المحتل الكثير من الخسائر، ولا يمكن للجيش الأمريكي أن ينسى ما واجهه في الفلوجة على سبيل المثال، لكن في السنوات التي تلت ذلك، أصبح العراق ساحة معركة لمجموعة متنوعة من الفصائل، بما في ذلك الميليشيات الطائفية والمسلحون الأجانب المدعومون من دول مختلفة، وانزلق العراق في دوامة من العنف أودت بحياة مئات الآلاف من الناس وشردت ملايين آخرين.

ومع حجم الألم الكبير الذي تستدعيه الذاكرة، ويستدعيه هذا الحديث المكثف في وسائل الإعلام عن تلك الحرب الظالمة، إلا أن الخسائر البشرية ليست وحدها ما خسره العراق في تلك الحرب وما تلاها من سنوات العنف، فقد حطمت الحرب النسيج الاجتماعي في العراق، وأذكت الصراع الطائفي إلى اليوم، وذلك صدع لا يمكن أن ينمحي خلال العقود القريبة وفق ما تكشفه قراءات المشهد الآني.

كانت أمريكا تقول للعالم: إنها ستجلب الديمقراطية إلى العراق بعد أن تُسقط «الديكتاتورية»، لكنّ الغزو تحول إلى احتلال نصّبت خلاله الولايات المتحدة الأمريكية حاكما أمريكيا على العراق هو بول بريمر.. استمر الاحتلال أكثر من ثماني سنوات ومحملًا بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك استخدام التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء، والاعتقال التعسفي للمدنيين العراقيين، ويكفي اليوم التذكير فقط باسم معتقل «أبو غريب» لترتسم أمامك صور التعذيب البشع الذي كانت تمارسه «الديمقراطية» الأمريكية.. كان ذلك يحدث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وما زالت تلك الانتهاكات وآثارها تسيطر على العراقيين لكنها ستبقى أيضا تطارد الأمريكيين، وتذكرهم بحقيقة الديمقراطية التي يسوقونها للبلدان الأخرى، كما ستبقى صور مغادرتهم المفاجئة لأفغانستان.

لا تقتصر الدروس المستفادة من تلك الحرب على التداعيات التي شهدها الصراع داخل العراق، بل هناك تداعيات مهمة على المجتمع الدولي الأوسع، والطريقة التي يمكن أن يجري بها التعامل مع قضايا الأمن والدبلوماسية العالميين، ومن أهم تلك الدروس أن التدخل العسكري غالبا ما يكون أداة فظة وغير فعالة لتحقيق أهداف سياسية، فعلى الرغم من الإنفاق الهائل للموارد والخسائر الفادحة في الأرواح، لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها في العراق، بدلا من ذلك، عملت الحرب على زعزعة استقرار المنطقة، وشجعت الجماعات المتطرفة، وكرست الصورة الذهنية التي رُسمت لأمريكا وبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط.

درس آخر من حرب العراق هو أن استخدام القوة يجب أن يكون مصحوبا باستراتيجية واضحة ومتماسكة لتحقيق سلام دائم، ففي حالة العراق، سمح عدم وجود خطة شاملة لإعادة الإعمار، وتحقيق الاستقرار في فترة ما بعد الحرب بانتشار الفوضى والعنف، وتحول العراق إلى ساحة لصناعة مجموعات إرهابية بسبب الظلم والقهر الذي شعر به الناس هناك، بعد أن شاهدوا بلدهم وهو ينهب ويحرق ويدمر دون أن يتحقق أي وعد من الوعود الأمريكية حتى وعد «الاستقرار» و«الديمقراطية».

أخيرا، وبعد كل هذه السنوات فإن حرب العراق يمكن أن تكون تحذيرا مهما حول أهمية عدم تفرد دولة بعينها في اتخاذ قرار حرب بحجم الحرب على العراق دون مسوّغ دفاعي أو غطاء أممي.

بينما نتأمل في الذكرى العشرين لحرب العراق، من المهم أن نتذكر الدروس التي علمتنا إياها تلك الحرب الظالمة وفي مقدمتها أن القوة العسكرية ليست دائما الرد المناسب على التحديات الجيوسياسية المعقدة، ويجب أن نكون مستعدين للانخراط في دبلوماسية صعبة ومستدامة؛ لتحقيق سلام دائم.