أفكار وآراء

مسؤولية النخبة في عالمنا العربي

في ظل شيوع التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وثورة المعلومات التي تتدفق لحظة بعد أخرى، في عوالم أصبحت أكثر تواصلًا، لم يعد من المناسب أن تظل بعض الشعوب تعاني من افتقاد الوعي بأهمية الحوار باعتباره الوسيلة العملية لكي يعم السلام والأمن الاجتماعي ونشر ثقافة المحبة والتسامح ووضع خطط وبرامج تستهدف التنمية في كل المجالات للارتفاع بمستوى الناس في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

إذا كانت الحكومات مسؤولة عن وضع القواعد التشريعية والقانونية وتهيئة المناخ نحو تنمية مستدامة، فإن المجتمع الأهلي تقع عليه مسؤولية كبيرة، ليس في مجال الاقتصاد فقط وإنما في العمل نحو مزيد من ثقافة الوعي والمعرفة والانفتاح على المجتمع، من خلال حوارات متواصلة تستهدف المشاركة الكاملة مع الحكومات للتخفيف من حجم الضغوط على المؤسسات الحكومية، ولعل التجارب الأوروبية تعد مثالا عمليًا، حيث كان المجتمع المدني هو القاطرة الأهم لكل النجاحات التي تحققت في مختلف مناحي الحياة، ولعل أهمها وأكثرها تأثيرًا هو الوعي، ولما كانت المنظمات الأهلية والمدنية في عالمنا العربي تعد ظاهرة حديثة، لكن من الملاحظ أن معظم أنشطتها عُنيت بالقضايا الاقتصادية، وهو دور لا يمكن التقليل من أهميته، لكن تبقى القضايا الثقافية والاجتماعية والفكرية هي القضايا الأهم في مجالات التعليم والثقافة والفن، وهي قضايا لا تنهض المجتمعات بدونها لأنها تستهدف الوعي والمعرفة، باعتبارها الوسيلة التي تعمل على بناء إنسان مؤهل للانخراط في كل مناحي الحي، وإذا كانت مسؤولية الحكومات هي في تشييد المدارس والجامعات وإقامة المكتبات ودور العرض المسرحي والسينمائي، وتهيئة المناخ الذي يحقق هذه الأهداف، فإن على المجتمع المدني أفرادًا وجماعات مسؤولية الاستفادة من هذا المناخ لكي يُكمل ما تعجز عنه الدول في تحقيقه، فضلا عن المسكوت عنه في قضايا الفكر، وهي المهمة التي على المجتمع الأهلي أن ينهض بها.

إذا كان من الصعب الفصل بين الأنشطة الثقافية والتعليمية والاجتماعية باعتبارها قضية واحدة، فإنها مسؤولية لا يمكن أن تقوم بها المؤسسات الحكومية وحدها، وإنما هي مسؤولية مجتمعية يتولاها المجتمع بكل مؤسساته العامة والخاصة في ظل حوار متواصل ينشد النهوض بالمجتمع وخصوصًا في مجال الفكر المنغلق، الذي لا يرى إلا رأيا واحدا مما أدخل بعض مجتمعاتنا في متاهات من الجمود والتخلف وأفقدنا الكثير من روح التسامح وانخراط قطاعات مجتمعاتنا في متاهات فكرية تحت أوهام ومفاهيم حالت دون التحاقنا بركب الحضارة المعاصرة.

كل النهضات الكبرى في العالم لم تبدأ بقرارات حكومية، وإنما كان المجتمع هو الجامعة الكبيرة التي أسست لأفكار اقتصادية واجتماعية وسياسية كانت السبب الأهم لنهوض المجتمعات الأوروبية، لذا حصدت هذه المجتمعات ثمار ما أنجزه المفكرون والعلماء، وهي تجارب نستطيع الإفادة منها، وخصوصًا فيما تحقق من ثورات علمية وإنسانية أصبحت متاحة يمكن الاستفادة منها في أزمان قصيرة للغاية، وما علينا إلا إن نأخذ من هذه التجارب ما يتناسب وواقعنا المعاصر، لكي نصنع حلولا من تجاربنا الخاصة يُراعى فيها واقعنا الثقافي والاجتماعي في عصر لا تعترف فيه الدول إلا بالتجارب الناجحة في شتى مناحي الحياة.

النهضة التي ننشدها لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل حوارات صحية متواصلة يشارك فيها المجتمع بكل أطيافه، وخصوصا تلك المفاهيم الاجتماعية والثقافية والفكرية التي أهملها التعليم والإعلام، وأصبح الكثير منها بمثابة تابوهات لا يمكن الاقتراب منها، والكثير منها أكسبه البعض درجة عالية من القداسة، لمجرد أنه ورد في أدبيات التراث، ومجرد الاقتراب منها يعد افتئاتا على قيم الدين، بينما الكثير منه يندرج تحت ما أسميه بالتراث العبء، الذي قال به البعض في أزمان سحيقة، ولمجتمعات بعيدة عن مجتمعنا ومشاكلنا، وهي قضية معقدة لا يجوز أن تظل ملكا لذوي الاختصاص في هذا المجال، وإنما هي قضايا تقع مسؤوليتها على المفكرين والساسة والمؤرخين وعلماء الاجتماع في ظل حوار يتسم بالعقلانية وإعمال المقاصد العامة للشريعة، لأن بعضها لم يعد مقبولًا في عصرنا، فما يقول به النص غالبا لا يجوز أن يتعارض مع العقل.

الكثير من قضايانا المعاصرة لا يمكن فصلها عن بعضها، الاقتصاد، السياسة، الفكر، التاريخ، كل علوم الحياة جميعها مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا، وكلها تبدأ وتنتهي بالعقل والحوار، والحوار هو وسيلتنا لكي نفهم ونتعلم ونتجاوز أمراضنا الفكرية، فكل الشرائع السماوية قد عُنيت بالإنسان، بل إن المعنى الحقيقي لوجود البشرية قائم على فكرة التواصل والتعاون والتراحم، بهدف إعمار الأرض خيرًا ونماءً وإسعاد البشرية وصونا لحياتها، بينما يقول نفرُ من بيننا بعكس ذلك تماما: فكيف يردد البعض منا في القرن الحادي والعشرين ما قال به ابن تيمية من أن الفكر والمنطق شقاء وكفر ؟

لم يعد من المناسب ونحن نعيش في عالم تتقاتل فيه الدول لأسباب چيوسياسية واقتصادية بينما في عالمنا العربي والإسلامي نتقاتل لأسباب أقحمنا فيها الدين بالسياسة وأهملنا العقل الذي حال دون تواصل المسلمين مع حضارتهم، وابتدعنا في الإسلام ما ليس فيه: فكيف يقتل الناس بعضهم بعضًا باسم الدين، ولا يشعر القاتلون بهول جريمتهم، بينما القاعدة الشرعية التي قال بها العقلاء من فقهائنا: إذا قال البعض برأي يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر.

لقد شاعت فيما بيننا أفكار أبعدتنا كثيرا عن مقاصد الإسلام، في غياب الجماعات الثقافية والفكرية التي آثرت السلامة. فكيف يروج البعض لمشروعية السلطة الدينية باعتبارها أصلا من أصول الإسلام ؟ بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قد أزال تلك السلطة، ولم يجعل لأحد سلطانا على عقيدة أحد، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مهيمنا ولا مسيطرا على إيمان أحد، وإنما كان مُبلغا فقط، وليس لمسلم على آخر إلا حق النصيحة والإرشاد، وليس من حق أحد مهما بلغ به العلم أن يتتبع عورات الناس، وليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية.

أعتقد أن الواجب على علمائنا ومفكرينا وأهل الرأي بيننا أن يتولوا مسؤولياتهم ليس في مجال الفكر الديني فقط وإنما في كل مناحي الحياة في العلم والاقتصاد والتعليم حتى تستقيم حياتنا ويعود الإسلام شريعة وعقيدة صالحا لكل زمان ومكان. ويبقى السؤال المهم: كيف تقدم الذين تقدموا وتخلف الذين تخلفوا ؟

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.