أفكار وآراء

بطولات دون جوائز

كثيرة هي الأعمال الفنية التي تؤرخ لكوارث، أو تدافع عن قضايا حقوقية، فثمة خط رفيع يفصل بين الأعمال النشاطية activism والأعمال الفنية.. دعونا اليوم نستكشف ونعبث بهذا الخط الرفيع.

يُصر البعض على أن الفن رسالة، هذا يعني أن له غرضا. هذا التقليد الذي صار يتداعى شيئا فشيئا. فبينما كان يُتوقع من الشعر أن ينقل الحكمة، أو يُخلّد الملاحم، أو على الأقل ينجح في لعبة لغوية مدهشة ما (كأن يكون مستحيل الحفظ، أو يُمكن قراءته من الأسفل إلى الأعلى دون المساس بالمعنى الذي يحيل إليه عبر قراءته من الأعلى للأسفل). هذه المطالب التي لطالما طُلبت من الفن، لم تعد حاضرة اليوم. حتى إن الكثيرين ينفرون من فكرة غرضية الفن، ومن أي عمل فني يتبنى مواقف، أو يُقدم نفسه على أنه فني-سياسي في الوقت نفسه.

لكن ثمة أعمال تتخذ من حدث تاريخي هائل مكانا لتقع فيه -أو تنطلق منه- الأحداث. لا يعني هذا بأي شكل أنها يُمكن أن تُوصف بأنها أعمال سياسية، كما لا يُمكن أن تُبرأ تماما.

أكتب هذا المقال وفي خلدي عملان فنيان محددان: الأول هو أغنية مشروع ليلى «بحر»، والثاني هو رواية أحمد عوني «جوائز للأبطال».

الحقيقة أنني لطالما استمعت إلى أغنية «بحر» -لسنوات- دون أن يتبادر إلى ذهني أي معنى سياسي أو نشاطي لها. وقبل أن أقول المزيد حولها لنتأمل معا كلمات المقطعين الأولين من الأغنية: «يا ليل احجبني حجبني بعتمتك/ يا ليل املأني قويني بعتمتك/ أخوي شاف السر شاف السر كان حيبوح/ أخوي جوا الموج جوا الموج عمبينوح/ والصيادين نائمين/ يا بحر رجعلي رجعلي أخوي/ الموج سرقلي خطفلي أخوي/ اخذته حد البحر خلي الموج يطهره/ أخذته حد البحر دبغت الموج بدمه/ والصيادين غافلين خامدين نائمين».

لم أتنبه إلى المعاني الأخرى المحتملة إلى أن لعبت مصادفة في التلفاز، وكنا قد كلفنا اليوتيوب بمهمة اختيار أغاني السهرة لنا. لعبت أغنية «بحر» بالفيديو كليب الذي يظهر فيه حامد سنو بسترة النجاة على مركب بدا أنه مؤهل ليكون أحد قوارب المهاجرين التي يخوضون عليها مقامرة الحياة. انتبهت لهذا عندما أشار أحد الأصدقاء إليه. ففكرت أنه معنى محتمل جدا للأغنية؛ أي إنه حمل أخاه إلى البحر ليبدأ مغامرته الجديدة، إلا أن البحر يخطفه، فيما ينام الصيادون غافلين عنه.

قبلها، كنتُ قد نظرت إليها من باب أنها حكاية عن بذل المستحيل من أجل شيء سري، تتبعه بإخلاص إلى أن يُهلكك: إلى أن تموت بينما يغفل عنك الصيادون.

من هنا يُمكن القول إن تعدد القراءات ميزة من الميزات التي تعلو بعمل ما لمنزلة الفن، أي إن العمل لا يكون مسطحا، ولا يكون حرفيا، بل متعدد الأبعاد، فيه ثراء وتعقيد قابل للتفسير، وتفسيره يعتمد على الزاوية التي تنظر إليه منها.

والآن لنتحدث قليلا عن رواية أحمد عوني «جوائز للأبطال». تقع هذه الرواية على هامش ثورة يناير 2011، لكن الحكاية تأخذ الصدر، مُزيحة الثورة بجلبتها بمآسيها وانتصاراتها لتكون مجرد خلفية تجري عليها الأحداث. يُمكن أن تُعد رواية عوني قيّمة تاريخيا من حيث أنها تُخلد تجربة الثورة، وأنها تتحدث تحديدا عن تجربة الشباب المتحدرين من عوائل بورجوازية ونافذة. لكن قيمتها الأساسية بالطبع هي في كونها قطعة أدبية ممتازة. يلعب عوني على فكرة أن البطولات موضوع حظ تعتمد على أين يُصادف أن تكون وعلى ماذا يُفعل بك أكثر من اعتمادها على ما تفعل. وكيف أن الثائر وهو يُقرر مصيره عبر النزول إلى الشوارع مُتحديا كل من يُمكن أن يُوجهوا إليه بنادقهم ويطيحوا به، أقول إن هذا الثائر إذا ما نجا وصار مع نفسه في نهاية اليوم، قد يسأل نفسه ببساطة: لكن لم هذا كله، وأليس الأجدى أن أترك هذا المكان الملعون وأبدأ حياتي في مكان آخر؟ في هذا العمل، تتجلى الثورة باعتبارها مجرد خيار -من مجموعة خيارات أخرى- بدا في تلك اللحظة أنها الأجدى. ينزع عوني عن تجربته الثورية أي قداسة. فهو الفتى الذي صار جزء منها لأنه صادف أن يكون أصدقاؤه فيها، وأنهم ينزلون إلى الميدان كل يوم، فينضم إليهم.

يُمكن بالطبع الجدال بأن أي فن يعكس تجربة شخصية للفنان فهو عمل سياسي بالتالي، كما تقترح النسوية. لكنها حتى مع هذا يُمكن أن تقرأ هذه الأعمال بأنها فنية بالدرجة الأولى وسياسية بدرجة أقل. بمعنى أنها لا تهتم بالقصة الكبيرة، بالأحداث الكبيرة، ما لم تكن تمس أبطال العمل على نحو مباشر. إنها لا تحاول أن تُمجد أو تنال من أو تُقصي أو تُعلي، إنها تقول ما لديها ببساطة، بصدق، وأصالة.

«جوائز للأبطال» وصف مناسب لرواية كهذه. وهو يُعيدني في الوقت نفسه إلى أبطال أغنية «بحر» الذين لا يحصدون الجوائز على بطولاتهم، بل يغوصون بـ«السر» إلى القاع، دون أي أمل في إعادتهم مهما صرخ إخوانهم في وجه البحر.