هل الحد من الأسلحة النووية محض خيال؟
الثلاثاء / 21 / شعبان / 1444 هـ - 22:05 - الثلاثاء 14 مارس 2023 22:05
ترجمة - أحمد شافعي -
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الشهر الماضي، أن بلاده سوف تعلق مشاركتها في آخر اتفاقية متبقية مع الولايات المتحدة للحد من الأسلحة النووية، فدقَّ أجراسَ إنذار خاملة منذ فترة طويلة. أصبحت القوات النووية الأمريكية في حالة تأهب قصوى، واندفع الناس إلى إعادة تعبئة الملاجئ النووية، واختفى من أرفف متاجر البقالة ورق المراحيض والحليب المجفف...أو ذلك على الأقل ما راود أحلام الرئيس بوتين، في ضوء وهمه بإرجاع روسيا إلى عزة أيام حافة الهاوية في الحرب الباردة.
غير أن إعلان الرئيس بوتين قوبل على نطاق واسع بالتفسير اللائق بحقيقته، وهي أنه محض صليل سيوف غايته إقناع مواطنيه المذعنين بأن الحرب على أوكرانيا مسألة حياة أو موت بكونها صداما بين قوى عظمى. بدا أن أغلب الأمريكيين لم يلتفتوا كثيرا إلى الإعلان، ولعل كثيرين لم تكن لديهم إلا فكرة غامضة عن كنه اتفاقية (البداية الجديدة) المعروفة في صيغتها الرسمية بـ(المعاهدة الجديدة لتقليص الأسلحة الاستراتيجية). بل إن البعض ربما فوجئوا بوجود أي اتفاقيات باقية بين الولايات المتحدة وروسيا حتى يمكن تمزيقها.
وبرغم ما قد نجد من رضا في أن ننكر على الرئيس بوتين سعادة إثارة ذعر الغرب، فقد كانت خطوته تلك تذكرة سافرة بأن خطر الحرب النووية لم يزل ماثلا، وربما منتشرا، وأنه لا يجب الاستخفاف به واستبعاده.
بعد أكثر من ثلاثين سنة على نهاية الحرب الباردة، لا يرد خطر الإبادة النووية ضمن أعظم مخاوف الشعب الأمريكي. لوهلة بعد الحادي عشر من سبتمبر، سيطر الإرهاب العالمي على العقل العام باعتباره الخطر الأشد إلحاحا. ووفق استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في 2022، تعد الهجمات السيبرانية الآن الخطر العالمي الكبير، تليها المعلومات الكاذبة، والصين، وروسيا، والاقتصاد العالمي، والأمراض المعدية، وتغير المناخ. وقد قال لي حفيدي، وهو طالب جامعي، إن أقرانه لا يرون الحرب النووية العالمية خطرا حقيقيا اليوم.
غير أنه حتى ترسانتان من الأسلحة النووية الروسية والأمريكية وقد تقلصا بشدة لم تزلا كافيتين للقضاء على أغلب العالم، والصين تضغط بقوة لتصبح ثالث قوة نووية عظمى، وستة بلدان أخرى على الأقل ـ منها كوريا الشمالية شديدة الاستبدادية ـ لديها أسلحة نووية (والبقية هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل والهند وباكستان).
بل إن تعقيد العالم اليوم قد أنتج ما يشبه الحنين إلى زمن كانت فيه قوتان عظميان اثنتان فقط تتعاملان مع استقرار كان قائما على الدمار المتبادل الأكيد. لكن يصعب الشعور بالحنين إلى وقت شهد مطالبة الرئيس جون كينيدي للأمريكيين جميعا بتجهيز ملاجئ نووية («البداية الآن») وكانت الكوابيس النووية مادة لأفلام رائجة.
صحيح أنه كانت هناك مخاوف عند انهيار الاتحاد السوفييتي بأن يستتبع ذلك «عصر نووي ثان» شنيع تتكاثر فيه الأسلحة النووية بلا رقيب ويقع إرهاب نووي، لكن الحقيقة هي أنه منذ نهاية الحرب الباردة، لم تحصل على قنبلة نووية غير كوريا الشمالية، وكان برنامجها النووي قد بدأ قبل فترة طويلة من نهاية الاتحاد السوفييتي. في المقابل، تخلت جنوب أفريقيا عن برنامجها النووي في عام 1989 وقامت ثلاثة بلدان من ورثة أسلحة الاتحاد السوفييتي النووية ـ هي أوكرانيا وبيلاروسيا وكازخستان ـ بالتخلي عنها (ولعلها الآن تأسف على ذلك).
سواء أكان للأمريكين مبرر في عدم القلق كثيرا على القنبلة أم لم يكن لهم، فهذه مسألة أخرى. لا يعتقد بهذا جون ولفستال، كبير مستشاري مجموعة جلوبال زيرو التي تدافع عن إلغاء الأسلحة النووية، وزميل مركز الأمن الأمريكي الجديد. قال إن «أغلب هذا ليس أكثر من أمر ذاتي. في الستينيات والسبعينيات كنا نعتقد بأن الروس سوف يبدأون ما لم نكن على أهبة الاستعداد. وهم كانوا على يقين من أننا سوف نبدأ». ومع تراجع ذلك الخوف، تراجع أيضا الوعي بالخطر دائم الحضور، بحسب ما قال جون ولفستال. «في السابق، كان على جميع أعضاء مجلس الشيوخ أن يعرفوا اللغة التقنية الخاصة بالأسلحة النووية. اليوم لا يكاد يوجد خمسة منهم يفهمون القضية».
غير أن ضوابط الأسلحة النووية مطلوبة اليوم كما كانت في أي وقت مضى، وليس فقط مع موسكو. لقد اعترف الرئيس بوتين بشكل غير مباشر أنه عندما قال في 21 فبراير إن روسيا سوف تعلق مشاركتها في (المعاهدة الجديدة)، قد أضاف بسرعة أن روسيا سوف تواصل احترام قيود المعاهدة على الرؤوس النووية وأنظمة الإطلاق. فقد كان يعرف أن البديل يمكن أن يكون سباق تسلح جديدا لا تضاهي فيه روسيا قدرات أمريكا الاقتصادية والتكنولوجية. في الواقع، أدى إعلان بوتين إلى تمديد تعليق عمليات تفتيش المواقع التي بدأت أثناء الوباء.
وهذا أمر خطير. لكن، على الأقل، لم يزل يبقى مبدأ حصر الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية (بـ 1550 رأسا لكل بلد من البلدين) والصواريخ والغواصات والقاذفات الثقيلة التي يتم إطلاقها بها.
وحتى لو أن ساعة يوم القيامة لم تقترب من منتصف الليل، فإن الوقت لم يزل ينفد. فـ(المعاهدة الجديدة) تنتهي في غضون ثلاث سنوات. ومن الصعب أن نتخيل مفاوضات بشأن معاهدة جديدة طالما أن الحرب في أوكرانيا مستمرة. في الوقت نفسه، تتقدم الصين في محاولة واضحة لمضاهاة الترسانتين الأمريكية والروسية بحلول عام 2035. وقد رفضت بكين، حتى الآن، أي جهود للتفاوض بشأن حدود قصوى مع الولايات المتحدة، برغم انضمامها مع الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وبلاد أخرى في يناير 2022 في إعلان أن «الحرب النووية لا يمكن أن تنتهي بنصر ولا يجب أن تخاض أصلا».
حتى لو أمكن حمل روسيا والصين إلى طاولة المفاوضات، فسوف تلزم للأطراف طريقة جديدة لتحديد عدد القنابل التي تحتاج إليها كل دولة لردع الدولتين الأخريين.
في الوقت نفسه، قد تدفع ترسانة الصين المتنامية الهند إلى بناء ترسانة خاصة بها، وهو ما قد يدفع باكستان إلى فعل الشيء نفسه. وعلى جبهات أخرى، يقال إن إيران تتقدم بثبات في برنامجها النووي منذ قيام الرئيس السابق دونالد ترامب بانسحابه الطائش من الاتفاق النووي الإيراني. وما من اتصالات مع كوريا الشمالية التي أبدت استعدادها في الماضي للتفاوض بشأن قيود على برنامجها النووي.
في ظل أن الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على علاقات واشنطن مع روسيا والصين والهند وجزء كبير من الجنوب العالمي، قد تبدو السيطرة على الأسلحة مضيعة للوقت. ولكن عصر السيطرة على التسلح بدأ أصلا عندما وصلت العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى مستوى خطير بعد أزمة الصواريخ الكوبية. فقد يكون صليل سيوف الرئيس بوتين هو الإشارة إلى أن حرب أوكرانيا أخذتنا إلى تلك النقطة مرة أخرى.
سيرجي شميمان عضو مجلس تحرير نيويورك تايمز
«خدمة نيويورك تايمز»
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الشهر الماضي، أن بلاده سوف تعلق مشاركتها في آخر اتفاقية متبقية مع الولايات المتحدة للحد من الأسلحة النووية، فدقَّ أجراسَ إنذار خاملة منذ فترة طويلة. أصبحت القوات النووية الأمريكية في حالة تأهب قصوى، واندفع الناس إلى إعادة تعبئة الملاجئ النووية، واختفى من أرفف متاجر البقالة ورق المراحيض والحليب المجفف...أو ذلك على الأقل ما راود أحلام الرئيس بوتين، في ضوء وهمه بإرجاع روسيا إلى عزة أيام حافة الهاوية في الحرب الباردة.
غير أن إعلان الرئيس بوتين قوبل على نطاق واسع بالتفسير اللائق بحقيقته، وهي أنه محض صليل سيوف غايته إقناع مواطنيه المذعنين بأن الحرب على أوكرانيا مسألة حياة أو موت بكونها صداما بين قوى عظمى. بدا أن أغلب الأمريكيين لم يلتفتوا كثيرا إلى الإعلان، ولعل كثيرين لم تكن لديهم إلا فكرة غامضة عن كنه اتفاقية (البداية الجديدة) المعروفة في صيغتها الرسمية بـ(المعاهدة الجديدة لتقليص الأسلحة الاستراتيجية). بل إن البعض ربما فوجئوا بوجود أي اتفاقيات باقية بين الولايات المتحدة وروسيا حتى يمكن تمزيقها.
وبرغم ما قد نجد من رضا في أن ننكر على الرئيس بوتين سعادة إثارة ذعر الغرب، فقد كانت خطوته تلك تذكرة سافرة بأن خطر الحرب النووية لم يزل ماثلا، وربما منتشرا، وأنه لا يجب الاستخفاف به واستبعاده.
بعد أكثر من ثلاثين سنة على نهاية الحرب الباردة، لا يرد خطر الإبادة النووية ضمن أعظم مخاوف الشعب الأمريكي. لوهلة بعد الحادي عشر من سبتمبر، سيطر الإرهاب العالمي على العقل العام باعتباره الخطر الأشد إلحاحا. ووفق استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في 2022، تعد الهجمات السيبرانية الآن الخطر العالمي الكبير، تليها المعلومات الكاذبة، والصين، وروسيا، والاقتصاد العالمي، والأمراض المعدية، وتغير المناخ. وقد قال لي حفيدي، وهو طالب جامعي، إن أقرانه لا يرون الحرب النووية العالمية خطرا حقيقيا اليوم.
غير أنه حتى ترسانتان من الأسلحة النووية الروسية والأمريكية وقد تقلصا بشدة لم تزلا كافيتين للقضاء على أغلب العالم، والصين تضغط بقوة لتصبح ثالث قوة نووية عظمى، وستة بلدان أخرى على الأقل ـ منها كوريا الشمالية شديدة الاستبدادية ـ لديها أسلحة نووية (والبقية هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل والهند وباكستان).
بل إن تعقيد العالم اليوم قد أنتج ما يشبه الحنين إلى زمن كانت فيه قوتان عظميان اثنتان فقط تتعاملان مع استقرار كان قائما على الدمار المتبادل الأكيد. لكن يصعب الشعور بالحنين إلى وقت شهد مطالبة الرئيس جون كينيدي للأمريكيين جميعا بتجهيز ملاجئ نووية («البداية الآن») وكانت الكوابيس النووية مادة لأفلام رائجة.
صحيح أنه كانت هناك مخاوف عند انهيار الاتحاد السوفييتي بأن يستتبع ذلك «عصر نووي ثان» شنيع تتكاثر فيه الأسلحة النووية بلا رقيب ويقع إرهاب نووي، لكن الحقيقة هي أنه منذ نهاية الحرب الباردة، لم تحصل على قنبلة نووية غير كوريا الشمالية، وكان برنامجها النووي قد بدأ قبل فترة طويلة من نهاية الاتحاد السوفييتي. في المقابل، تخلت جنوب أفريقيا عن برنامجها النووي في عام 1989 وقامت ثلاثة بلدان من ورثة أسلحة الاتحاد السوفييتي النووية ـ هي أوكرانيا وبيلاروسيا وكازخستان ـ بالتخلي عنها (ولعلها الآن تأسف على ذلك).
سواء أكان للأمريكين مبرر في عدم القلق كثيرا على القنبلة أم لم يكن لهم، فهذه مسألة أخرى. لا يعتقد بهذا جون ولفستال، كبير مستشاري مجموعة جلوبال زيرو التي تدافع عن إلغاء الأسلحة النووية، وزميل مركز الأمن الأمريكي الجديد. قال إن «أغلب هذا ليس أكثر من أمر ذاتي. في الستينيات والسبعينيات كنا نعتقد بأن الروس سوف يبدأون ما لم نكن على أهبة الاستعداد. وهم كانوا على يقين من أننا سوف نبدأ». ومع تراجع ذلك الخوف، تراجع أيضا الوعي بالخطر دائم الحضور، بحسب ما قال جون ولفستال. «في السابق، كان على جميع أعضاء مجلس الشيوخ أن يعرفوا اللغة التقنية الخاصة بالأسلحة النووية. اليوم لا يكاد يوجد خمسة منهم يفهمون القضية».
غير أن ضوابط الأسلحة النووية مطلوبة اليوم كما كانت في أي وقت مضى، وليس فقط مع موسكو. لقد اعترف الرئيس بوتين بشكل غير مباشر أنه عندما قال في 21 فبراير إن روسيا سوف تعلق مشاركتها في (المعاهدة الجديدة)، قد أضاف بسرعة أن روسيا سوف تواصل احترام قيود المعاهدة على الرؤوس النووية وأنظمة الإطلاق. فقد كان يعرف أن البديل يمكن أن يكون سباق تسلح جديدا لا تضاهي فيه روسيا قدرات أمريكا الاقتصادية والتكنولوجية. في الواقع، أدى إعلان بوتين إلى تمديد تعليق عمليات تفتيش المواقع التي بدأت أثناء الوباء.
وهذا أمر خطير. لكن، على الأقل، لم يزل يبقى مبدأ حصر الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية (بـ 1550 رأسا لكل بلد من البلدين) والصواريخ والغواصات والقاذفات الثقيلة التي يتم إطلاقها بها.
وحتى لو أن ساعة يوم القيامة لم تقترب من منتصف الليل، فإن الوقت لم يزل ينفد. فـ(المعاهدة الجديدة) تنتهي في غضون ثلاث سنوات. ومن الصعب أن نتخيل مفاوضات بشأن معاهدة جديدة طالما أن الحرب في أوكرانيا مستمرة. في الوقت نفسه، تتقدم الصين في محاولة واضحة لمضاهاة الترسانتين الأمريكية والروسية بحلول عام 2035. وقد رفضت بكين، حتى الآن، أي جهود للتفاوض بشأن حدود قصوى مع الولايات المتحدة، برغم انضمامها مع الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وبلاد أخرى في يناير 2022 في إعلان أن «الحرب النووية لا يمكن أن تنتهي بنصر ولا يجب أن تخاض أصلا».
حتى لو أمكن حمل روسيا والصين إلى طاولة المفاوضات، فسوف تلزم للأطراف طريقة جديدة لتحديد عدد القنابل التي تحتاج إليها كل دولة لردع الدولتين الأخريين.
في الوقت نفسه، قد تدفع ترسانة الصين المتنامية الهند إلى بناء ترسانة خاصة بها، وهو ما قد يدفع باكستان إلى فعل الشيء نفسه. وعلى جبهات أخرى، يقال إن إيران تتقدم بثبات في برنامجها النووي منذ قيام الرئيس السابق دونالد ترامب بانسحابه الطائش من الاتفاق النووي الإيراني. وما من اتصالات مع كوريا الشمالية التي أبدت استعدادها في الماضي للتفاوض بشأن قيود على برنامجها النووي.
في ظل أن الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على علاقات واشنطن مع روسيا والصين والهند وجزء كبير من الجنوب العالمي، قد تبدو السيطرة على الأسلحة مضيعة للوقت. ولكن عصر السيطرة على التسلح بدأ أصلا عندما وصلت العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى مستوى خطير بعد أزمة الصواريخ الكوبية. فقد يكون صليل سيوف الرئيس بوتين هو الإشارة إلى أن حرب أوكرانيا أخذتنا إلى تلك النقطة مرة أخرى.
سيرجي شميمان عضو مجلس تحرير نيويورك تايمز
«خدمة نيويورك تايمز»