أفكار وآراء

عن الاكتئاب المرتبط بالمعرفة

قديما قال أرسطو: «إن العباقرة جميعا مكتئبون»، وهو قول قد استند إليه شوبنهاور في تدعيم رؤيته عن العبقرية التي يلازمها الاكتئاب؛ لأن العبقرية مقترنة دائما بحالة من فيض الفهم والمعرفة، ولكن زيادة المعرفة ليست حلا للتخلص من معاناة الوجود الإنساني وبؤسه، بل العكس هو الصحيح: فكلما ازدادت المعرفة ازداد الشقاء الإنساني. ولهذا قال المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيمِ بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

ولهذا أيضا قال هيراقليطس: «إن الحمير تفضل التبن على التبر»، فكلاهما أصفر اللون، ولكن الحمير سوف تتجه بطبيعتها إلى التبن؛ لأنها لا تدرك قيمة التبر. ومن هنا قال شوبنهاور: «إذا نظر حمار في مرآة، فلا تتوقعن أن ينطبع في المرآة وجه ملاك». ومن هنا أيضًا يمكن أن نفهم مغزى قول السيد المسيح عليه السلام: «لا تطرحوا دُرَرَكم قُدَّام الخنازير».

وما دام أن مناط ارتباط الاكتئاب بالعبقرية هو ارتقاء المعرفة والفهم بشكل مفرط؛ فإن نقص هذه المعرفة والفهم يلازمه نقص في الاكتئاب والمعاناة النفسية، كما في حالة الحمير التي أتينا على ذكرها في الأمثلة السابقة، باعتبارها من الحيوانات الشهيرة الأقل حظا في المعرفة (وإن كانت تتميز بخصال أخرى جيدة). وعلى هذا، يمكننا القول إن الحيوانات الأكثر حظا من الفهم والمعرفة والشعور تعاني من الاكتئاب بصورة ملحوظة، ومنها الشمبانزي والكلب. ولقد عرفت حالة الاكتئاب عند الشمبانزي بشكل عياني مباشر في أثناء زياراتي المتكررة لحديقة الحيوان بالجيزة في فترة مبكرة من شبابي: كنت أتأمل حال الشمبانزي الوحيد الموجود في الحديقة، وقد كان يجلس في ركن من القفص الكبير واضعًا خدَّه على كف إحدى يديه في نوع الحزن على حاله الراهن الذي جعله حبيس قفص، يجلس فيه وحيدًا متأملًا هؤلاء البشر الذين يأتون لمشاهدته يوميًّا باعتباره نوعا معينا من الحيوانات! هؤلاء البشر-في عمومهم- لا يتأملونه ولا يتعرفون عليه حقًّا؛ لأنهم لا يهمهم شيئا سوى التعرف على هيئته الجسمانية باعتباره نوعا خاصا يقع على قمة الحيوانات العليا، ولا يعرفون أنه يمتاز بالإدراك والفهم، بل يمتاز بعمق الشعور الذي قد يفتقر إليه كثير منهم: فهو يشتاق إلى الحرية، وإلى الحياة الطبيعية، وإلى الحاجة إلى الحب والتناسل. بعد سنوات قليلة لم أعد أرى هذا الحيوان المتطور، وقيل لي يومئذ أنه قد مات مبكرًا في عمر الشباب! وهناك قصص موثوقة لا حصر لها فيما يتعلق باكتئاب الكلاب، خاصةً تلك التي تكون أصيلة، وهي قوة تتعاظم في أنواع مخصوصة منها، على رأسها «الجيرمان شيبرد» الذي تفوق قدرته على الفهم قدرة بعض البشر، وتفوق قدرته على الشعور والإحساس قدرات معظم البشر، وتفوق مقدرته على الإخلاص والوفاء مقدرة كل البشر!، وهذا ما فصلت قوله وإيضاحه في سيرتي الذاتية الفلسفية بعنوان «الخاطرات»، في فصل بعنوان «كلبي الحبيب... وداعا إلى حين»؛ فليرجع إلى ذلك من يشاء.

الاكتئاب يتخذ صورا أكثر تعقيدا في حالة البشر. يتبدى نوع خاص من الاكتئاب في حالة العباقرة ممن يمتازون بقدرة فائقة على الفهم والإحساس والشعور؛ في حين أن هذه القدرة تكون محدودة لدى عموم الناس؛ ولذلك تكون لديهم قدرة على اجتناب الألم النفسي والتحرر منه بدرجات متفاوتة، ما لم يكن هذا بسبب علة عضوية. وقد أفاض شوبنهاور في وصف الاكتئاب الشائع عند العباقرة، وهو يرى أن العبقرية تكمن في إفراط غير اعتيادي في الذهن، ولكن هذا الذهن يكون مكرسًّا بكليته في خدمة الإنسانية وفيما يتعلق بمجمل الوجود؛ بينما العقل العادي يكون مكرسًّا في خدمة الفرد. ولذلك فإن المعرفة عند العبقري لا تكون مكرسة في خدمة مصالحه الشخصية ورغباته الخاصة كما هو الحال لدى عموم الناس، أو حتى لدى الفنانين العاديين الذين يمتهنون الفن: فمثل هؤلاء ينتجون الفن من أجل إرضاء رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم الشخصية، ومن أجل تملق المعاصرين لهم، ولذلك فإن فنهم يكون مجرد وسيلة، بينما الفن عند العبقري يكون غاية في حد ذاته. ولهذا السبب، فإن العبقري غالبا ما ينسى نفسه، ويَغفل عن السعي إلى تحقيق مصالحه الخاصة؛ ومن ثم فإنه يعيش حياة بائسة.

وربما يكون شوبنهاور هو أهم من تحدث باستفاضة عن الصلة بين العبقرية والاكتئاب، ومع ذلك فإن هناك كبارًا في عصره قد لاحظوا تلك الصلة، حتى إن الشاعر العظيم جوته قد صرح بذلك في مقطع من أبياته الشعرية؛ إذ يقول:

بيتُ الشعر رقيق مثل قوس قزح

يُرسَم فحسب على خلفية قاتمة،

فعبقرية الشاعر تستطيب

المِزَاج الكئيب

ولكننا عندما نتأمل أحوال البشر في حياتنا المعاصرة نجد أن حالة الاكتئاب والشقاء لم تعد مقصورة على العباقرة وأصحاب المعرفة من المثقفين ثقافة حقيقية، بل إنها تمتد إلى عموم البشر، وليس فقط أولئك البشر الذين يعيشون حياة بائسة في البلدان الفقيرة المتخلفة؛ ربما لأن البشر في عالمنا الراهن لم يعودوا يعيشون الحياة الفطرية البسيطة. ومع ذلك يظل ارتباط الاكتئاب بالمعرفة حقيقة لا يمكن إنكارها. ومن هنا يمكن أن نفهم مغزى الدعاء الشهير الذي كانت تقوله الأم المصرية لأبنائها فيما مضى: «روح يا ابني، ربنا يكفيك شر الفكر»، وهو ما يعني ببساطة أن الفكر تهلكة؛ لأنه يُودي إلى الهم والاكتئاب، وربما إلى الجنون اللطيف الذي تحدث عنه قديما هوراس. ومع ذلك، فإن الفكر رغم مآسيه، يظل هو مناط نهضة الأمم والشعوب.