تاريخ أئمة البوسعيد.. هدية الشيخ سلطان إلى معرض مسقط
السبت / 11 / شعبان / 1444 هـ - 19:56 - السبت 4 مارس 2023 19:56
في كل عام يقدم الشيخ سلطان القاسمي إلى المكتبة العربية عملًا علميًا أو أكثر، وجميعها كتابات متنوعة ما بين التاريخ والأدب والمسرح والرواية والجغرافية، فضلًا عن عنايته بالفنون التشكيلية، وهو ما جعل من الشارقة واحة للوعي والمعرفة، وفي معرض مسقط الدولي هذا العام فاجأنا الشيخ بعمل تاريخي بديع «تاريخ أئمة البوسعيد ١٧٤٩-١٨٥٦»، وقد أهداني سموه منذ عدة أيام نسخة من هذا الكتاب الذي يؤرخ لدولة البوسعيد، خلال قرن حينما كانت تموج المنطقة بصراعات سياسية واقتصادية جعلت من منطقة الخليج العربي واحدة من أهم المناطق التي جذبت اهتمام الدول الكبرى.
رغم ما كُتب عن تاريخ الخليج من المؤرخين والساسة، لكن جاء كتاب الشيخ سلطان معتمدًا على وثائق متنوعة أجنبية وعربية، وقد تناول فترة زمنية راحت تتشكل فيها ملامح الدولة الوطنية العمانية التي يعد أحمد بن سعيد المؤسس الحقيقي لها، بعد أن كانت عُمان قد دخلت في فوضى كادت أن تعصف باستقلالها، بعد أن انقسمت القبائل مع نهاية عصر اليعاربة مما أغرى فارس على احتلال معظم السواحل العمانية، كما عزمت شركة الهند الشرقية البريطانية على إقامة مركز لها في مسقط، وهو ما اعترض عليه أحمد بن سعيد والي صحار وقتئذ، بعد أن استشعر الخطر على وطنه، وفي ظل هذه الفوضى التي ضربت عمان، أجمع العمانيون على اختيار أحمد بن سعيد إماما على عمان يونيو ١٧٤٩، وراح يخوض حربا ضارية على مختلف السواحل العمانية لإزاحة الفرس عن وطنه، في الوقت الذي كانت فيه البرتغال تلفظ أنفاسها بعد أن أرهقتها الحروب مع اليعاربة.
لقد تناول الشيخ سلطان حقائق تاريخية حول قدرة أحمد بن سعيد على إدارة الصراع ونجاحه في استقطاب الكثير من القبائل، وقدرته على إقامة علاقات تجارية مع الدول الأوروبية جعلت من مسقط المركز التجاري الأهم في منطقة الخليج، بينما كانت شركة الهند الشرقية البريطانية والبرتغال يتراجع دورهما مع دخول قوى أخرى صاعدة «الهولنديين»، وقد استطاع أحمد بن سعيد إقامة علاقات تجارية معهم جعلت من مسقط أهم ميناء للتجارة الهولندية.
الجديد في هذا العمل العلمي المهم هو نجاح الإمام أحمد بن سعيد في إدارة الصراع، بعد أن حظي بدعم من القبائل العمانية، لذا راح يتفرغ لبناء الأسطول وتنشيط حركة التجارة في الموانئ العمانية، وعلى حد تعبير المؤرخ العماني السالمي «كان الرجل صاحب همة عالية وجرأة وإقدام، وقد أراح الرعية». ولعل العناية بمصالح الناس كانت في مقدمة العوامل التي أكسبته شرعية في توليه منصب الإمامة.
أعتقد أن ما كشفت عنه الوثائق التي اعتمد عليها الشيخ سلطان تعد دليلًا قويًا على قدرة أحمد بن سعيد على التعامل مع الهولنديين بشكل خاص، حينما راحت سفنهم تتدفق على ميناء مسقط الذي أصبح نقطة ارتكاز لكل طرق التجارة، لذا ازدهرت الحياة الاقتصادية وقد قدرت عائدات مسقط من الجمارك وقتئذ بحوالي مليون روبية، كما كان الإمام يحصل على ٦٪، من صادرات التمور والصمغ والعقاقير وجلود الحيوانات، وكلما ازدادت دخول الجمارك راح الإمام يستورد أحدث السفن الكبيرة منها والصغيرة، وازداد حجم أسطول مسقط إلى درجة لم تستطع فارس أو أية قوى غربية أن تنافس الأسطول العماني، وهو ما ضاعف من شعبية الإمام أحمد بن سعيد والتفاف القبائل من حوله، وقد حظي باحترام العالم حينما أتاح الحرية الدينية، التي سمحت لأصحاب مختلف الديانات بأن يمارسوا طقوسهم بحرية كاملة، إضافة إلى مقدرته على حماية ممتلكات الأجانب.
نجح الإمام أحمد بن سعيد في التأسيس لدولة وطنية، وقد تمكن بمهارة فائقة أن يقضي على الفوضى في زنجبار وممباسا، وهو ما مكنه من فتح أفق جديدة لحركة التجارة من البصرة إلى المحيط الهندي، كما استطاع بجهد فائق حسم صراعه مع القواسم، والاتفاق على إقامة علاقات تعاون وصداقة، لذا راحت عمان تتبوأ مكانتها نحو إقامة دولة وطنية حديثة، رغم بعض المشاكل التي كان يواجهها مع بقايا اليعاربة، الذين رفضوا الصلح، وقد توجه بنفسه إلى مفاوضتهم، لكنهم أبوا إلا أن يعيدوا دولتهم، وهو ما دفعه إلى الزحف بجيشه نحو سمائل التي كان يتحصن فيها البعض، بينما البعض الآخر قد حاصر نزوى، وقد واجههم جميعا وحاول الرجل التفاوض معهم، إلا أنه أمام إصرارهم على خوض المعارك وشيوع الفوضى اضطر إلى الدخول في مواجهة حُسمت لصالحه.
استطاع القاسمي بهذا العمل العلمي أن يترك الوثائق تعبر عن الحقائق، وخصوصًا في مقدرة الإمام أحمد بن سعيد على تكوين دولة وطنية حديثة، قائمة على شيوع الأمن ودعم الاقتصاد، وهي المعادلة الصعبة التي أسست للدولة الجديدة، وهي ما تزال باقية حتى اليوم.
لم يُقدر للإمام أحمد بن سعيد أن يجني ثمار ما بذل من جهد في بناء الدولة الجديدة، فقد تفاقمت الصراعات، وتكالبت عليه القوى الداخلية والخارجية، وخصوصًا بعد دخول الدعوة السلفية إلى بعض أجزاء من بلاده، وتراجع دور القوى الكبرى، لكن كان الإمام أحمد بن سعيد على قدر كبير من المسؤولية، إلا أن القوى المناوئة له كانت فوق طاقته، ولعل أخطرها تلك الصراعات القبلية والأطماع الخارجية، بعد أن راحت الحركة الوهابية تتطلع إلى عمان، وقد أضافت إلى أطماعها الدينية طابعًا سياسيًا، ولجأ بعض العمانيين إلى الوهابيين الذين تمكنوا من إخضاع منطقة البريمي والظاهرة، وقد اهتزت عمان كلها لهذا الخطر الداهم.
توفي الإمام أحمد بن سعيد في ديسمبر ١٧٨٣، وكان الوطن مهددًا من الداخل والخارج، ورغم ذلك فقد كتب لنفسه صفحة مجيدة في تاريخ عمان، باعتباره المؤسس الحقيقي للدولة العمانية الحديثة، وفي سبيلها خاض حروبًا ضارية، لكنه كان مصرا على أن يحافظ على عمان، سواء بحدودها التاريخية أو بما أضيف إليها من مناطق أفريقية.
ما كتبه الشيخ سلطان في هذا الكتاب الشيق يصعب عرضه في مقال منفرد، خصوصًا وقد تجاوز الكتاب عصر أحمد بن سعيد، وصولًا إلى عام ١٨٥٦، وهي حقبة تاريخية مرت فيها عمان بأحداث هائلة يمكن أن نستكملها في مقال آخر.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
رغم ما كُتب عن تاريخ الخليج من المؤرخين والساسة، لكن جاء كتاب الشيخ سلطان معتمدًا على وثائق متنوعة أجنبية وعربية، وقد تناول فترة زمنية راحت تتشكل فيها ملامح الدولة الوطنية العمانية التي يعد أحمد بن سعيد المؤسس الحقيقي لها، بعد أن كانت عُمان قد دخلت في فوضى كادت أن تعصف باستقلالها، بعد أن انقسمت القبائل مع نهاية عصر اليعاربة مما أغرى فارس على احتلال معظم السواحل العمانية، كما عزمت شركة الهند الشرقية البريطانية على إقامة مركز لها في مسقط، وهو ما اعترض عليه أحمد بن سعيد والي صحار وقتئذ، بعد أن استشعر الخطر على وطنه، وفي ظل هذه الفوضى التي ضربت عمان، أجمع العمانيون على اختيار أحمد بن سعيد إماما على عمان يونيو ١٧٤٩، وراح يخوض حربا ضارية على مختلف السواحل العمانية لإزاحة الفرس عن وطنه، في الوقت الذي كانت فيه البرتغال تلفظ أنفاسها بعد أن أرهقتها الحروب مع اليعاربة.
لقد تناول الشيخ سلطان حقائق تاريخية حول قدرة أحمد بن سعيد على إدارة الصراع ونجاحه في استقطاب الكثير من القبائل، وقدرته على إقامة علاقات تجارية مع الدول الأوروبية جعلت من مسقط المركز التجاري الأهم في منطقة الخليج، بينما كانت شركة الهند الشرقية البريطانية والبرتغال يتراجع دورهما مع دخول قوى أخرى صاعدة «الهولنديين»، وقد استطاع أحمد بن سعيد إقامة علاقات تجارية معهم جعلت من مسقط أهم ميناء للتجارة الهولندية.
الجديد في هذا العمل العلمي المهم هو نجاح الإمام أحمد بن سعيد في إدارة الصراع، بعد أن حظي بدعم من القبائل العمانية، لذا راح يتفرغ لبناء الأسطول وتنشيط حركة التجارة في الموانئ العمانية، وعلى حد تعبير المؤرخ العماني السالمي «كان الرجل صاحب همة عالية وجرأة وإقدام، وقد أراح الرعية». ولعل العناية بمصالح الناس كانت في مقدمة العوامل التي أكسبته شرعية في توليه منصب الإمامة.
أعتقد أن ما كشفت عنه الوثائق التي اعتمد عليها الشيخ سلطان تعد دليلًا قويًا على قدرة أحمد بن سعيد على التعامل مع الهولنديين بشكل خاص، حينما راحت سفنهم تتدفق على ميناء مسقط الذي أصبح نقطة ارتكاز لكل طرق التجارة، لذا ازدهرت الحياة الاقتصادية وقد قدرت عائدات مسقط من الجمارك وقتئذ بحوالي مليون روبية، كما كان الإمام يحصل على ٦٪، من صادرات التمور والصمغ والعقاقير وجلود الحيوانات، وكلما ازدادت دخول الجمارك راح الإمام يستورد أحدث السفن الكبيرة منها والصغيرة، وازداد حجم أسطول مسقط إلى درجة لم تستطع فارس أو أية قوى غربية أن تنافس الأسطول العماني، وهو ما ضاعف من شعبية الإمام أحمد بن سعيد والتفاف القبائل من حوله، وقد حظي باحترام العالم حينما أتاح الحرية الدينية، التي سمحت لأصحاب مختلف الديانات بأن يمارسوا طقوسهم بحرية كاملة، إضافة إلى مقدرته على حماية ممتلكات الأجانب.
نجح الإمام أحمد بن سعيد في التأسيس لدولة وطنية، وقد تمكن بمهارة فائقة أن يقضي على الفوضى في زنجبار وممباسا، وهو ما مكنه من فتح أفق جديدة لحركة التجارة من البصرة إلى المحيط الهندي، كما استطاع بجهد فائق حسم صراعه مع القواسم، والاتفاق على إقامة علاقات تعاون وصداقة، لذا راحت عمان تتبوأ مكانتها نحو إقامة دولة وطنية حديثة، رغم بعض المشاكل التي كان يواجهها مع بقايا اليعاربة، الذين رفضوا الصلح، وقد توجه بنفسه إلى مفاوضتهم، لكنهم أبوا إلا أن يعيدوا دولتهم، وهو ما دفعه إلى الزحف بجيشه نحو سمائل التي كان يتحصن فيها البعض، بينما البعض الآخر قد حاصر نزوى، وقد واجههم جميعا وحاول الرجل التفاوض معهم، إلا أنه أمام إصرارهم على خوض المعارك وشيوع الفوضى اضطر إلى الدخول في مواجهة حُسمت لصالحه.
استطاع القاسمي بهذا العمل العلمي أن يترك الوثائق تعبر عن الحقائق، وخصوصًا في مقدرة الإمام أحمد بن سعيد على تكوين دولة وطنية حديثة، قائمة على شيوع الأمن ودعم الاقتصاد، وهي المعادلة الصعبة التي أسست للدولة الجديدة، وهي ما تزال باقية حتى اليوم.
لم يُقدر للإمام أحمد بن سعيد أن يجني ثمار ما بذل من جهد في بناء الدولة الجديدة، فقد تفاقمت الصراعات، وتكالبت عليه القوى الداخلية والخارجية، وخصوصًا بعد دخول الدعوة السلفية إلى بعض أجزاء من بلاده، وتراجع دور القوى الكبرى، لكن كان الإمام أحمد بن سعيد على قدر كبير من المسؤولية، إلا أن القوى المناوئة له كانت فوق طاقته، ولعل أخطرها تلك الصراعات القبلية والأطماع الخارجية، بعد أن راحت الحركة الوهابية تتطلع إلى عمان، وقد أضافت إلى أطماعها الدينية طابعًا سياسيًا، ولجأ بعض العمانيين إلى الوهابيين الذين تمكنوا من إخضاع منطقة البريمي والظاهرة، وقد اهتزت عمان كلها لهذا الخطر الداهم.
توفي الإمام أحمد بن سعيد في ديسمبر ١٧٨٣، وكان الوطن مهددًا من الداخل والخارج، ورغم ذلك فقد كتب لنفسه صفحة مجيدة في تاريخ عمان، باعتباره المؤسس الحقيقي للدولة العمانية الحديثة، وفي سبيلها خاض حروبًا ضارية، لكنه كان مصرا على أن يحافظ على عمان، سواء بحدودها التاريخية أو بما أضيف إليها من مناطق أفريقية.
ما كتبه الشيخ سلطان في هذا الكتاب الشيق يصعب عرضه في مقال منفرد، خصوصًا وقد تجاوز الكتاب عصر أحمد بن سعيد، وصولًا إلى عام ١٨٥٦، وهي حقبة تاريخية مرت فيها عمان بأحداث هائلة يمكن أن نستكملها في مقال آخر.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.