التطبيع..!
السبت / 4 / شعبان / 1444 هـ - 20:12 - السبت 25 فبراير 2023 20:12
يوما بعد يوم يزداد مستقبل الحكاية الفلسطينية غموضا، تكهنات واحتمالات ونهايات مفتوحة على المجهول في ظل غمز ولمز حول خطوات تطبيعية قادمة مع الاحتلال أكثر جرأة من سابقاتها، وقد تأتي مغلفة بمفاهيم وعناوين ثقافية مطاطة تستوعب الملاك والشيطان معا، وأحيانا ذات صبغة إنسانية وحضارية براقة رائجة في سوق الكتابة والنشر هذه الأيام؛ كالتسامح وحوار الأديان ونسيان الماضي والتطلع لمستقبل مشترك.
تأتي هذه التطورات مع ارتفاع نبرة الحديث عن عدم جدوى المقاطعة إلى حد التبرير للتطبيع بل واستباق الأحداث لعد مكاسبه السياسية والاقتصادية المرجوة لصالح البلد المطبّع! وإذا ما سلمنا اعتيادا بأن أي قرار سياسي يصدر عن أي دولة سيأتي في الغالب مسبوقا أو متبوعا بتبريرات ذات صيغة جاهزة (غامضة ومثيرة للريبة في كثير من الأحيان) يجري تمريرها إلى الرأي العام عبر أجهزة الدعاية والإعلام التقليدية؛ فإن الغريب في الأمر هو أن تتكفل بهذا التبرير الأعمى صفحات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي! ليس هذا السلوك بجديد على أية حال، ولكن عندما يمارس الفرد هذا النوع من التبرير، بل والدعاية لقرار تطبيعي يمس قضية جوهرية وأساسية كالقضية الفلسطينية، فيجب أن ننتبه في هذه اللحظة إلى وجود شرخ خطير في الرأي العام حول قضية لطالما اعتبرناها واحدة من أهم القضايا القومية المُجمع عليها شعبيا على الأقل، دون أن يعني هذا الإجماع مصادرةً لرأي أي أحد، ولكن ينبغي أن نذكر في الوقت نفسه بأن القضايا القومية العليا لا بدَّ أن تصان كمُلكية عامة لا يجوز العبث بها وتحويلها إلى مسألة وجهات نظر غير مسؤولة أو واعية باللحظة التاريخية. وربما تكون السخرية الهستيرية هي آخر ملاذات العقل للنجاة من هذه الفوضى التي تجعل المرء يخشى من أن نشهد يوما يخرج فيه طلبة الجامعات الإسرائيلية في مظاهرات تندد بتطبيع دولتهم مع الأنظمة العربية بحجة أنها أنظمة غير ديمقراطية مثلا... من يستبعد ذلك؟!
ما يزيد المشهد برمته التباسا هو غموض الحاضر الفلسطيني نفسه، فما يحدث في الأرض المحتلة شيء وما يحدث في مطبخ السياسة الدولية ودواهيها شيء آخر؛ الأمر الذي يعكس إلى حد بعيد هيمنة الاحتلال ودوره في تغييب وعزل مجريات أحداث الساعة وتطوراتها في الداخل عن التأثير في السياق العام للمجتمع الدولي. فالاستباحة اليومية التي يتعرض لها الدم الفلسطيني في الداخل لم تعد كافية حتى لتدفع بالجامعة العربية أو الأمم المتحدة من أجل اجتماع طارئ. أما نحن كشهود صامتين على الكارثة فلطالما ذهبنا لتقصي هذا الحاضر المحاصر من مصادره الخطأ: تارةً من قرارات الدول العربية وتصريحات وزراء خارجيتها الذين لم يعودوا يرون القضية الفلسطينية إلا كخلاف عقاري مع دولة الاحتلال، وتارة أخرى - في عز اليأس من المواقف العربية الرسمية - نتوسل الرجاء من بيت الداء نفسه: الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأبرز والراعي الرسمي لشركة الاستعمار الجديد «إسرائيل»! يحدث كل هذا في الوقت الذي يُعرب فيه دم الشعب الفلسطيني عن نفسه بوضوح الشمس خارج كل الشعارات المزيفة، حيث تتبلور الحقائق الحَرفية والمباشرة على أرض الصراع الشرسة، لا في هواء المسمم بلغة السياسة العقيمة.
هل ستفاجئنا أي خطوة عربية جديدة نحو التطبيع؟ لا، لا أظن، فلم يعد بوسعنا بعد الآن أن نتفاجأ أكثر. ليس هذا انهزاما وما هو بإحباط، بل هي أبلغ إشراقات اليأس حين يتحول اليأس إلى حصانة ناجعة من لسعات الأمل الواهم، حين يتحول اليأس إلى أمل مضاد. والآن، وقبل أن تتضاعف الخيبات أكثر في المستقبل القريب، يجب أن نعترف بأننا أخطأنا حين بحثنا عن فلسطين خارج فلسطين والفلسطينيين، وعلى العروبة الجديدة أن تغفر لنا هجرتنا الجماعية نحو هذا اليأس الضروري الذي بتنا في أمس الحاجة إليه لنعود بحرية أكبر إلى الأسئلة الأولى، لنمحو ما كدَّسناه من الكلام المراق عن فلسطين بعد مدريد وكامب ديفيد وأوسلو وواشطن، ولنكتب عنها للمرة الأولى اشتقاقا من معجم النكبة الدموي، لا من معجم الاستسلام والتطبيع المشبع بالوهم والتأويل الذي لم يعوّد أقلامنا إلا على كيفية التلاعب بالألفاظ.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
تأتي هذه التطورات مع ارتفاع نبرة الحديث عن عدم جدوى المقاطعة إلى حد التبرير للتطبيع بل واستباق الأحداث لعد مكاسبه السياسية والاقتصادية المرجوة لصالح البلد المطبّع! وإذا ما سلمنا اعتيادا بأن أي قرار سياسي يصدر عن أي دولة سيأتي في الغالب مسبوقا أو متبوعا بتبريرات ذات صيغة جاهزة (غامضة ومثيرة للريبة في كثير من الأحيان) يجري تمريرها إلى الرأي العام عبر أجهزة الدعاية والإعلام التقليدية؛ فإن الغريب في الأمر هو أن تتكفل بهذا التبرير الأعمى صفحات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي! ليس هذا السلوك بجديد على أية حال، ولكن عندما يمارس الفرد هذا النوع من التبرير، بل والدعاية لقرار تطبيعي يمس قضية جوهرية وأساسية كالقضية الفلسطينية، فيجب أن ننتبه في هذه اللحظة إلى وجود شرخ خطير في الرأي العام حول قضية لطالما اعتبرناها واحدة من أهم القضايا القومية المُجمع عليها شعبيا على الأقل، دون أن يعني هذا الإجماع مصادرةً لرأي أي أحد، ولكن ينبغي أن نذكر في الوقت نفسه بأن القضايا القومية العليا لا بدَّ أن تصان كمُلكية عامة لا يجوز العبث بها وتحويلها إلى مسألة وجهات نظر غير مسؤولة أو واعية باللحظة التاريخية. وربما تكون السخرية الهستيرية هي آخر ملاذات العقل للنجاة من هذه الفوضى التي تجعل المرء يخشى من أن نشهد يوما يخرج فيه طلبة الجامعات الإسرائيلية في مظاهرات تندد بتطبيع دولتهم مع الأنظمة العربية بحجة أنها أنظمة غير ديمقراطية مثلا... من يستبعد ذلك؟!
ما يزيد المشهد برمته التباسا هو غموض الحاضر الفلسطيني نفسه، فما يحدث في الأرض المحتلة شيء وما يحدث في مطبخ السياسة الدولية ودواهيها شيء آخر؛ الأمر الذي يعكس إلى حد بعيد هيمنة الاحتلال ودوره في تغييب وعزل مجريات أحداث الساعة وتطوراتها في الداخل عن التأثير في السياق العام للمجتمع الدولي. فالاستباحة اليومية التي يتعرض لها الدم الفلسطيني في الداخل لم تعد كافية حتى لتدفع بالجامعة العربية أو الأمم المتحدة من أجل اجتماع طارئ. أما نحن كشهود صامتين على الكارثة فلطالما ذهبنا لتقصي هذا الحاضر المحاصر من مصادره الخطأ: تارةً من قرارات الدول العربية وتصريحات وزراء خارجيتها الذين لم يعودوا يرون القضية الفلسطينية إلا كخلاف عقاري مع دولة الاحتلال، وتارة أخرى - في عز اليأس من المواقف العربية الرسمية - نتوسل الرجاء من بيت الداء نفسه: الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأبرز والراعي الرسمي لشركة الاستعمار الجديد «إسرائيل»! يحدث كل هذا في الوقت الذي يُعرب فيه دم الشعب الفلسطيني عن نفسه بوضوح الشمس خارج كل الشعارات المزيفة، حيث تتبلور الحقائق الحَرفية والمباشرة على أرض الصراع الشرسة، لا في هواء المسمم بلغة السياسة العقيمة.
هل ستفاجئنا أي خطوة عربية جديدة نحو التطبيع؟ لا، لا أظن، فلم يعد بوسعنا بعد الآن أن نتفاجأ أكثر. ليس هذا انهزاما وما هو بإحباط، بل هي أبلغ إشراقات اليأس حين يتحول اليأس إلى حصانة ناجعة من لسعات الأمل الواهم، حين يتحول اليأس إلى أمل مضاد. والآن، وقبل أن تتضاعف الخيبات أكثر في المستقبل القريب، يجب أن نعترف بأننا أخطأنا حين بحثنا عن فلسطين خارج فلسطين والفلسطينيين، وعلى العروبة الجديدة أن تغفر لنا هجرتنا الجماعية نحو هذا اليأس الضروري الذي بتنا في أمس الحاجة إليه لنعود بحرية أكبر إلى الأسئلة الأولى، لنمحو ما كدَّسناه من الكلام المراق عن فلسطين بعد مدريد وكامب ديفيد وأوسلو وواشطن، ولنكتب عنها للمرة الأولى اشتقاقا من معجم النكبة الدموي، لا من معجم الاستسلام والتطبيع المشبع بالوهم والتأويل الذي لم يعوّد أقلامنا إلا على كيفية التلاعب بالألفاظ.
سالم الرحبي شاعر وكاتب