إلى أي مدى تصنع الكتابات العمانية معرفة بعمان وثقافتها؟
معرفة البلدان من خلال الأدب
الأربعاء / 1 / شعبان / 1444 هـ - 13:52 - الأربعاء 22 فبراير 2023 13:52
مثلما تعرفنا على حضارات الشعوب الأخرى وثقافاتها من دون أن تطأها أقدامنا أو نحتك بها على امتداد أزمنتها واختلاف عصورها، فتعرفنا مثلا على الشعوب اللاتينية وثقافتها وعاداتها من خلال الأدب اللاتيني، وعلى تاريخ الدولة العثمانية وتركيا من خلال أورهان باموق وعزيز نيسين وألف شافاق، أو ثقافات الشعوب الشرق آسيوية من خلال كتّاب من الهند واليابان مثل كاواباتا وهاروكي موراكامي، أو الروس وحضارتهم وثقافاتهم من خلال الكشف الذي قدمه لنا الأدب الروسي، فضلا عن بلدان أخرى لم تخطر على البال فأمكننا الأدب من الاقتراب منها فعرفناها كمن يكتشف قطع البازل التي تكمل خريطة العالم. سألنا هذه المرة ما يلي: إلى أي مدى تصنع الكتابات العمانية معرفة بعمان وتمد جسورا للاقتراب من ثقافتها؟
المعرفة صناعة
يقول الكاتب والروائي العماني محمد اليحيائي مع إشارته إلى أن الإجابة عن سؤال هذا الملف تحتاج إلى مختبر نقاش وإلى اختبار تجارب وعينات بسبب (المدى المفتوح) في السؤال فيما (صناعة المعرفة) مغلقة: «الأدب والكتابة عموما مدخل مهم إلى معرفة البلدان، جغرافيتها، وتاريخها، وشعوبها وثقافاتها؛ لغاتها، وطعامها وأزيائها وموسيقاها الخ، والنص الأدبي، أكثر من النصوص والكتابات الأخرى، التاريخية والاجتماعية، يُعبّر بصدق، عن سيرورة المجتمع وتحولاته، وعبر ذلك التعبير الصادق، تتمظهر صورة المكان والناس، بتفاصيلها الحقيقية، وتلك المستترة أو المسكوت عنها، ليس لأنها رديئة إنما لأنها لا تتوافق والتصورات المسبقة عن الذات -من قبل الذات والآخر معا، ولهذا السبب تبدو بعض نصوص الأدب (الرواية على وجه الخصوص) خادشة للصورة المتوافق عليها، والمتوافق على تصديرها، بصرف النظر عن حقيقتها».
وأضاف: «الأدب لا يُقدم صورة واحدة عن المكان (البلد أو المجتمع) أو لا يقدم الصورة التي يرغب البلد أو المجتمع تقديمها وتصديرها عنه بالضرورة، أو لا يقدم الصورة التي استقرت في أذهان الناس بفعل الميديا والخطابات الرسمية المُكرسة، لكنه يقدم صور متعددة، بتعدد المجتمع وتنوعه. النص الأدبي، بهذا المعنى هو إحدى المرايا التي ترى فيها الأوطان والمجتمعات نفسها، دون كثير رتوش وتجميل، وهي الصورة التي تُدهش المتلقي وتدفعه، ربما، إلى زيارة المكان للالتقاء بالتفاصيل، ولمعرفتها أكثر. بعض النصوص الأدبية التي تبدو، في لحظة ولادتها، صادمة للمجتمع، وتُثير الرفض، بل والاحتجاج، تتحول مع الزمن إلى تاريخ لتلك المجتمعات وعلامة من علامات إرثها الأدبي الإنساني، بل والجذب السياحي، جيمس جويس مثالا؛ لم يتقبل المجتمع الدبلني نصوصه، فقضى حياته ومات بعيدا عن مدينته، هو اليوم أحد رموز أيرلندا، ومحل احتفاء، وعلامة من علامات الجذب (السياحي) لمدينة دبلن».
وقال: «يجب ألا نقع في الوهم؛ النص وحده ليس قادرا على التعريف بالأوطان والمجتمعات، بصرف النظر عن قوة النص وقدرته وبلاغته، أو أن قدرة النص محدودة، ما لم يتم التعامل مع الأدب، والفنون الإبداعية عموما، بوصفها قيمة حضارية، وعملة صالحة للتداول عبر الزمن، وما لم تُستثمر نجاحات الكتّاب (وهي نجاحات فردية) وتُحوّل إلى رمزية وطنية».
وأضاف: «في السنوات الأخيرة، قدمت جوخة الحارثي عُمان إلى العالم عبر روايتها (سيدات القمر) التي حصلت على واحدة من أبرز الجوائز الأدبية العالمية (مان بوكر)، وجوخة هي أول كاتب عربي (وليس فقط كاتبة) كما روج البعض، تتوج بهذه الجائزة المرموقة، وتُرجمت روايتها وقرأت بلغات عديدة حول العالم، وأزعم أن القيمة التي قدمتها جوخة الحارثي من خلال (سيدات القمر) من معرفة عن عُمان، تتجاوز كثيرا ما حاولت المؤسسة الرسمية تقديمه عبر عشرات السنوات، والكثير من الأموال. لكن السؤال؛ هل استُثمر هذا النجاح أو كيف استثمر ليتحول إلى قيمة تاريخية؟
حوّلت الدولة الكولومبية قرية (ماكوندو) التي أنتجتها مخيلة جابرييل جارسيا ماركيز في (مائة عام من العزلة) إلى قرية حقيقية وأصبحت وجهة سياحية.
عندما يُعرف كاتب أو فنان يُعرف المكان الذي ينتمي إليه، لكن المعرفة صناعة».
الطابع الخاص
قال الروائي العماني زهران القاسمي: «المتتبع إلى التجارب الروائية في عمان يجد أن كل تجربة لها خصوصيتها في تتبع مفردات المكان العماني من القرى وحتى المدينة، الحارات والعادات، الملابس والمناسبات، كثير من المفردات التي تعطي للقارئ طابعا ذات خصوصية لا توجد إلا في بلدان عمان».
وأضاف: «المتتبع للتجربة الروائية لكثير من كتابنا يجدها لم تخرج عن نطاق المكان الجغرافي أو تنطلق منه، شخصيات لها علاقة زمنيا ومكانيا، لذلك تحمل في داخلها كل ما يتعلق بالمجتمع من مفردات مجتمعية من العادات والتقاليد.
نجد هذا في روايات مثل «سيدات القمر» و«نارنجة» لجوخة الحارثي التي تنطلق من القرية العمانية، في «الباغ» و«دلشاد» لبشرى خلفان، لروايات هدى حمد وعبدالعزيز الفارسي والروائيين الآخرين».
وقال: «القارئ لهذه الأعمال والذي لا يمت بصلة لعمان لا شك أنه يستطيع أن يكتشف هذه الخصوصية التي تعرّف الآخر بعمان.
الأفلاج والجبال، القرى الصغيرة بتفاصيلها، مسقط بحاراتها، وجوه البشر وأحلامهم ويومياتهم وعلاقاتهم مع المحيط الذين يعيشون فيه كل هذا ملاحظ من خلال الكتابات بمختلفها للروائيين العمانيين، هذا ما لمسته من خلال القراءات النقدية التي كتبت عن كثير من هذه الأعمال، وهذا دليل كبير على أنها تحمل في طياتها ملامحنا كعمانيين وملامح المكان أيضا».
علاقة مكان وزمان
تقول الدكتورة عائشة الدرمكي: «لا يمكن أن ينفلت الأدب من ربقة المكان والواقع الذي ينشأ ضمنه، فالنص الأدبي أيا كان نوعه لا ينشأ من فكر المبدع فقط، بل من ثقافته ومن ثقافة مجتمعه وقدرته على تشكيل الواقع ضمن مخيال الواقع الممكن الذي يعيشه ضمنيا، ولهذا فإن العلاقة بين الكاتب والنص هي علاقة مكان وزمان وفكر مجتمعي، يكتشف من خلالها القارئ عوالم تلك الأمكنة ويُنشئ من خلالها علاقات بينه وبين الإنسان الذي يقرأه في النص، فيدخل في مجموعة من الممكنات التي ينسجها باعتبارها حقيقة ضمن مفاهيم الميثاق الذي يعقده القارئ مع الكاتب -حسب رؤية إيكو- بأن ما يقرأه هو حقيقة حتى وإن كان تخيليلا. ولهذا فإن الأدب في عُمان قدَّم كغيره من الآدب رسالته الإبداعية، فعبَّر عن المكان والزمان وفقا لهذا الميثاق؛ فما يقدِمه الكاتب العماني من أدب يتمركز ضمن التحولات الاجتماعية بشكل خاص، متخذا من الحفر في المكان، وتغيرات الأزمنة حقلا فسيحا للسرد، فتبدو النصوص مجالا كليا يتواءم مع التاريخ الفكري في عُمان، ويتعالق مع الاستبدالات التي يمكن أن تكون متوقعة ضمن تلك التحولات، في محاولة للابتعاد عن منزلق التطابق اعتمادًا على المخيال».
وأضافت: «ما كتبه سعود المظفر، وعلي المعمري، وما يكتبه زهران القاسمي، وبشرى خلفان، وشريفة التوبي، وبدرية الشحي وهدى حمد، وسليمان المعمري، ويحيى سلام، وجوخة الحارثي ومحمود الرحبي وغيرهم، يكشف المجتمع العماني في تحولاته وعلاقاته مع ما حوله ومن حوله، كما يُظهر الصراعات التي تمر بها الشخصيات التي تعيش ضمن هذه البيئة حتى وإن كانت متخيلة، ولعل ترجمة النص الأدبي والرواية بشكل خاص في السنوات الأخيرة وبلغات متعددة، أتاحت للرواية في عُمان الوصول إلى العالم، فتعرَّف القارئ غير العربي خاصة على تلك الخصوصية الفكرية التي تتميَّز بها عُمان من خلال تعاطفه مع الشخصيات والغوص في تفاصيل المكان الذي برع الكاتب العماني في وصفه، وعلى الصعيد الشخصي أذكر أن العديد من الأصدقاء قد تواصلوا معي يريدون زيارة مناطق محددة في عُمان بسبب سحر النص الروائي أو الحدث السردي الذي تخيَّله الكاتب فسبكه في إبداع صدَّقه القارئ.»
وخلصت بالقول: «إن العلاقة بين النص والقارئ تتَّخذ اليوم أشكالا كثيرة، وسحر النص الأدبي في عُمان يأخذ توجهات جعلت العديد من الباحثين في مصر والجزائر والمغرب بشكل خاص يدرسون العديد منها كما حدث في دراسات اتخذت من نصوص حسن المطروشي، وسعيد الصقلاوي، وسعيدة خاطر، وشريفة التوبي، وعزيزة الطائي وغيرهم مدونات للدراسة في أطروحات الماجستير والدكتوراة، وهذا أمر مهم يكشف وصول النص وتحققه من ناحية، وقرب هذا النص من القارئ الذي يجد في عوالمه قدرة إبداعية تربطه بالمكان العماني».
استحضار المكان العماني
من جانبه يقول الشاعر والباحث د. خالد بن علي المعمري إن الكتابات العمانية تحاول لا سيما الرواية منها، أن تُقدّم ملمحاً ولو بسيطاً عن ثقافة عُمان وهُويتها، وتقديمه للقارئ في إطار سردي متخيّل، لعلمنا أنّ الكتابة في أساسها رؤية ومشروع وتعبير عن الواقع والمكان بلغة منتقاة.
وكما نجد الاشتغال بارزاً على تقديم صورة واضحة لعمان عند الشعراء من خلال استحضار الأمكنة والثقافة والهُوية والشخصية التاريخية نجده أيضا عند كتاب السرد بصورة أعمق؛ فهم يستحضرون المكان العماني بكل قيمه وحياة أهله وثقافتهم. ولعلّني أقدّم في استحضار المكان هنا روايات عدّة منها رواية (الطواف حيث الجمر) لبدرية الشحية التي استحضرت ثقافة الناس في الجبل الأخضر وعاداتهم وشكّلت من الجبل هُوية مكانية عمانية يقوم عليها السرد، وكذلك رواية (تغريبة القافر) لزهران القاسمي وهي إحدى الروايات المتأهلة لجائزة البوكر حيث عملت على تقديم حياة العماني في الجبال ورحلته الطويلة في قفر الماء وطلبه.
ويضيف المعمري: لا ننسى أيضا رواية (سيدات القمر) لجوخة الحارثي التي كانت مزيجاً من عادات وثقافة وتاريخ مكاني عماني مشترك قدّمته الرواية في تمازج يجمع الماضي بالحاضر، وكون الرواية فازت بجائزة عالمية وتُرجمت إلى لغاتٍ عدة فهذا في حدّ ذاته يقدم صورة واضحة عن عمان ومجتمعها للقارئ في خارج عمان، وهي رواية قامت أساساً على الصورة المكانية لعمان في ثقافتها وأخبارها وحكاياتها وأنموذج حياتها بين فترتين زمنيتين مخلفتين.
ويقول د.خالد المعمري: ولعل القارئ من خارج عمان يقف على ملامح المكان العماني وتاريخه المستعاد في الكتابة الروائية بقراءة روايتي بشرى خلفان: (الباغ)، و(دلشاد) وهما أنموذجان مهمان في حضور الهُوية المكانية واستعادة المكان بكل وضوح بتناول الحكايات والقصص التي دارت في أمكنة متفرقة بمسقط أو خارج مسقط. لقد استطاعت بشرى توظيف المكان العماني جيداً بربطه بالحوادث التاريخية التي شهدها التاريخ العماني ومحاولة المساءلة له من خلال الشخصيات الواردة في الروايتين. ويضيف: إنّ صورة مسقط على سبيل المثال في الروايتين أثارت فضولا لدى القارئ في التعرف عليها مكاناً واقعياً وتاريخاً قائماً يدل على مكانة المنطقة، ولعل هذه الفكرة هي التي تبنّتها مؤسسة بيت الزبير في التعريف بالمكان العماني/ مسقط من خلال المزج بين المكان الواقعي وربطه بالحكايات المكانية في الروايتين وذلك بالقيام بجولة مكانية للتعرف على هذه الأمكنة، تقود القراء فيه الروائية نفسها للتعريف بالمكان، وكم ستكون الفكرة أكبر شمولية لو استهدفت القراء من خارج عمان أيضا.
وبالإضافة إلى استحضار المكان العماني وحياة الإنسان العماني في السرد، فإني، والحديث ما زال للدكتور خالد المعمري، أجد أن الرواية العمانية استطاعت إيجاد هوية عمانية من خلال استحضار الحكاية العمانية الشفهية منها، وعليه فإن الروائي يقدّم صورة أخرى عن الثقافة في تكوينها وتشكّلها. إن الحكايات الشعبية حاضرة بقوة في السرد العماني، لا سيما الرواية منها، فنجد حكايات السحرة والمغيّبين الواردة في التراث الشعبي العماني حاضرة في رواية (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي ورواية (درب المسحورة) لمحمود الرحبي، نجد فيهما اشتغالا على شخصية الساحر، وعلى حكايات البسطاء من الناس المؤمنين بهذه الحكايات، كما نجد عودة المغيَّب من رحلة السحر إلى الحياة الواقعية.
ويختتم المعمري حديثه بالقول: أمثلة كثيرة يمكن من خلالها الوقوف على حضور عمان في الكتابة الروائية، وهنا نرى أن الكاتب العماني يحاول فعلا تقديم صورة واضحة لبلده في كتابته الروائية يمكن أن يقف عليها القارئ من خارج عمان، فهي تشكّل مشروعاً ثقافياً سياحياً للسلطنة لو حاول القارئ من خلاله البحث عن صورته الواقعية إزاء الصورة الفنية في السرد.
ارباك الواقعية الفوتوغرافية
من جانبه يقول الروائي محمود الرحبي صاحب رواية «درب المسحورة» التي غاصت في عمق الميثلوجيا العمانية: يساهم السرد بنوعيه القصصي والروائي في المعرفة بجوانب مجهولة من التاريخ والجغرافيا. ولأن الرواية نشأت في الأصل لهذا الغرض وهو التعريف بالقيم في قالب مشوق ساخر كما حدث مع الرواية التأسيسية «الدون كيشوتي» التي كتبها سرفانتس ليقطع مع روايات الرومنس التي كانت سائدة في زمنه وهي روايات جامدة تعلي من قيم مثالية لم يعد لها أساس من الواقع. الرواية (أرضية) وذلك بطبيعتها الواقعية التي تعكس البيئة التي يدور عالم السرد فيها. ويرى الرحبي أنه من الضرورة أن لكل رواية فضاء تدور فيه، وهذا الفضاء هو الحيز الذي اختاره الكاتب ليبني أحداث عالمه المتخيل. ولكنه فضاء واقعي بناسه وتفاصيل معيشه مع الفرق أن الأحداث لن تكون حقيقية بالضرورة بل هي ضمن لعبة التخييل. ولكن هذه اللعبة يمكنها أن تتم في أرض محددة ومعينة كما هو الحال في روايات الواقعية السحرية التي تميزت بها أمريكا الجنوبية.لا يتقيد كثيرا الكاتب هناك ببلده بقدر ما يجعل فضاء بلدان أمريكا اللاتينية كلها ضمن لعبته السردية، خير مثال على ذلك النوبلي ماريو بارغاس يوسا، الذي كتب عن البرازيل والدومنيك وغيرها فضلا عن موطنه البيرو، وبذلك ساهم في توسيع رقعته التخيلية لتعريفنا بالبيئات المتنوعة لتلك المناطق التي تجمعها طبائع متقاربة.
ويقول محمود الرحبي: في عُمان تمتح القصة والرواية في الغالب من بيئتها وإن تنوعت فإنه في إطار تنوع هذه البيئة من صحاري وأودية وسهول وأسواق. شخصيا لدي في الرواية محاولات تتلمس البيئة العمانية دون أن تتقيد بها حرفيا. ربما تحاول أن تنتزع كيانها من خلال التنوع أكثر من أن تفعل ذلك من خلال التشابه. فهناك تشابه للبيئة العمانية ولكن هذا في ظني في الظاهر فقط، لأن التنوع هو ما يهم أن نجده وهو عادة مندس وليلي ومتواري، وإن لم نحصل عليه ككتاب سرد علينا أن نتخيله وإلا سارت أعمالنا في طريق واحد.
ويضيف: في رواية «فراشات الروحاني» مثلا ابتكرت بيئة خاصة ولا أعرف مدى التوفيق في ذلك. لا أستطيع الالتزام طوبوغرافيا بأي مكان ولا أظن هذا دور الرواية بقدر ما هو دور الأنثروبولوجيا. أي أنه دور علمي بالأساس، مع إمكانية أن تستفيد منه الرواية إلى الدرجة التي يمكنها في أحيان كثيرة أن توثق بيئة متكاملة توثيقا صحيحا كما حدث مثلا مع القاهرة في روايات نجيب محفوظ، رغم أني لا أتهم محفوظ بذلك كما فعل النقد كثيرا، يكفي مثلا أن اقرأ رواية «زقاق المدق» لأربك الواقعية الفوتوغرافية التي طالما وسم بها هذا الكاتب الكبير.
الاحتكاك الثقافي
يبدأ الدكتور حمود الدغيشي مداخلته في هذا الاستطلاع بطرح السؤال الآتي: كيف يمكن لمعرفة ما أنْ تجعل من شعب، يسكن الحجارة والكهوف، على مرأى من العالم كله؟! قبل أن يجيب بالقول: إذا كانت الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات معرفة رحالة بلا ملامح ثابتة أو أصل هوياتي فإنه من المحقق أن هذه المعرفة علامة حية وبارزة حتى يومنا هذا على الاحتكاك الثقافي بين الشعوب قاطبة، وإنه من المحقق أيضا أن عبارة باتريك دولابان المشهورة «الموت من البرد» لا تخرج عن فكرة المعرفة الرحالة؛ كي تستمر في الحياة، وأن المعرفة القابعة بين جدران الكهوف تموت في الظلام؛ وإذا قـدر لها العيش فإنها تقتات من بعضها بعضا، لتخرج في صورة باهتة مكررة؛ ذلك أن المعرفة متجددة بما تحتضنه من أفكار جديدة قادمة إليها، وكلما زاد انفتاحها على العالم زاد فيضها المعرفي، ومدت العالم الآخر بما تحمله من معرفة وثقافة خاصة بالشعب والمجتمع.
ويضيف الدغيشي: ولكن قد لا تصدق العبارة الأخيرة على المعرفة العمانية؛ إذ إنها لم تكن في أحسن أحوالها، وهي معرفة تأخر وصولها إلى العالم، وانفتاحها على الآخر، فضلا عن ضآلة مشاربها المعرفية بسبب هذا الانقطاع عن الآخر. لم يكن الاحتكاك المعرفي ليحدث إلا بعد النهضة الحديثة بأكثر من عقد، حيث انفتاح عمان على العالم الخارجي، وراح العماني يجول في العالم؛ بحثا عن ثقافة جديدة يغذي بها مشربه المعرفي اليتيم الذي ورثه من حمْل سنين عجاف. لقد كانت الرحلة في طبيعتها المعرفية وعْرة حاول القلم لعماني أنْ يمهد منعرج الطرق بما انفتح عليه من مشارب معرفية جديدة عدلتْ من قلمه، وطورتْ من لغته التي يواجه بها العالم الجديد، وينقل من خلالها أفكاره وهواجسه، وثقافة بلد متجذر في التاريخ بأساطيره وعاداته وتقاليده، وحكاية شعب ومجتمع كان له حضوره ذات عهد مع أقدم الحضارات في التاريخ البشري. وفي ظل التقدم النهضوي الذي تشهده البلاد كان على الثقافة العمانية بأقلامها أنْ تتقدم هي الأخرى، وتمد جسورا شتى وتسعى إلى تعريف نفسها للآخر، فليس هناك جسر أكثر قوة من القلم، وحميمية أكثر حفرا من الكلمة. لقد أدرك الكاتب العماني أن المعرفة المنفتحة هي التي تقي الشعوب شدة البرد، وأنه عليه أنْ يصل إلى الآخر كما وصل الآخر إليه، فانفتحت التجارب العمانية على العالم الخارجي، وأصبح الكتاب العماني بتنوع مشاربه المعرفية له حضوره البارز في ملتقيات الآخر، فتعرف على الثقافة العمانية بتعددها وتنوعها؛ سواء أكان في الأدب؛ من شعر ورواية وقصة أم في الفكر أم في المسرح.. وكانت رواية «سيدات القمر» للروائية جوخة الحارثي التي توجت بجائزة عالمية ثمرة هذا النضال المعرفي.
المعرفة صناعة
يقول الكاتب والروائي العماني محمد اليحيائي مع إشارته إلى أن الإجابة عن سؤال هذا الملف تحتاج إلى مختبر نقاش وإلى اختبار تجارب وعينات بسبب (المدى المفتوح) في السؤال فيما (صناعة المعرفة) مغلقة: «الأدب والكتابة عموما مدخل مهم إلى معرفة البلدان، جغرافيتها، وتاريخها، وشعوبها وثقافاتها؛ لغاتها، وطعامها وأزيائها وموسيقاها الخ، والنص الأدبي، أكثر من النصوص والكتابات الأخرى، التاريخية والاجتماعية، يُعبّر بصدق، عن سيرورة المجتمع وتحولاته، وعبر ذلك التعبير الصادق، تتمظهر صورة المكان والناس، بتفاصيلها الحقيقية، وتلك المستترة أو المسكوت عنها، ليس لأنها رديئة إنما لأنها لا تتوافق والتصورات المسبقة عن الذات -من قبل الذات والآخر معا، ولهذا السبب تبدو بعض نصوص الأدب (الرواية على وجه الخصوص) خادشة للصورة المتوافق عليها، والمتوافق على تصديرها، بصرف النظر عن حقيقتها».
وأضاف: «الأدب لا يُقدم صورة واحدة عن المكان (البلد أو المجتمع) أو لا يقدم الصورة التي يرغب البلد أو المجتمع تقديمها وتصديرها عنه بالضرورة، أو لا يقدم الصورة التي استقرت في أذهان الناس بفعل الميديا والخطابات الرسمية المُكرسة، لكنه يقدم صور متعددة، بتعدد المجتمع وتنوعه. النص الأدبي، بهذا المعنى هو إحدى المرايا التي ترى فيها الأوطان والمجتمعات نفسها، دون كثير رتوش وتجميل، وهي الصورة التي تُدهش المتلقي وتدفعه، ربما، إلى زيارة المكان للالتقاء بالتفاصيل، ولمعرفتها أكثر. بعض النصوص الأدبية التي تبدو، في لحظة ولادتها، صادمة للمجتمع، وتُثير الرفض، بل والاحتجاج، تتحول مع الزمن إلى تاريخ لتلك المجتمعات وعلامة من علامات إرثها الأدبي الإنساني، بل والجذب السياحي، جيمس جويس مثالا؛ لم يتقبل المجتمع الدبلني نصوصه، فقضى حياته ومات بعيدا عن مدينته، هو اليوم أحد رموز أيرلندا، ومحل احتفاء، وعلامة من علامات الجذب (السياحي) لمدينة دبلن».
وقال: «يجب ألا نقع في الوهم؛ النص وحده ليس قادرا على التعريف بالأوطان والمجتمعات، بصرف النظر عن قوة النص وقدرته وبلاغته، أو أن قدرة النص محدودة، ما لم يتم التعامل مع الأدب، والفنون الإبداعية عموما، بوصفها قيمة حضارية، وعملة صالحة للتداول عبر الزمن، وما لم تُستثمر نجاحات الكتّاب (وهي نجاحات فردية) وتُحوّل إلى رمزية وطنية».
وأضاف: «في السنوات الأخيرة، قدمت جوخة الحارثي عُمان إلى العالم عبر روايتها (سيدات القمر) التي حصلت على واحدة من أبرز الجوائز الأدبية العالمية (مان بوكر)، وجوخة هي أول كاتب عربي (وليس فقط كاتبة) كما روج البعض، تتوج بهذه الجائزة المرموقة، وتُرجمت روايتها وقرأت بلغات عديدة حول العالم، وأزعم أن القيمة التي قدمتها جوخة الحارثي من خلال (سيدات القمر) من معرفة عن عُمان، تتجاوز كثيرا ما حاولت المؤسسة الرسمية تقديمه عبر عشرات السنوات، والكثير من الأموال. لكن السؤال؛ هل استُثمر هذا النجاح أو كيف استثمر ليتحول إلى قيمة تاريخية؟
حوّلت الدولة الكولومبية قرية (ماكوندو) التي أنتجتها مخيلة جابرييل جارسيا ماركيز في (مائة عام من العزلة) إلى قرية حقيقية وأصبحت وجهة سياحية.
عندما يُعرف كاتب أو فنان يُعرف المكان الذي ينتمي إليه، لكن المعرفة صناعة».
الطابع الخاص
قال الروائي العماني زهران القاسمي: «المتتبع إلى التجارب الروائية في عمان يجد أن كل تجربة لها خصوصيتها في تتبع مفردات المكان العماني من القرى وحتى المدينة، الحارات والعادات، الملابس والمناسبات، كثير من المفردات التي تعطي للقارئ طابعا ذات خصوصية لا توجد إلا في بلدان عمان».
وأضاف: «المتتبع للتجربة الروائية لكثير من كتابنا يجدها لم تخرج عن نطاق المكان الجغرافي أو تنطلق منه، شخصيات لها علاقة زمنيا ومكانيا، لذلك تحمل في داخلها كل ما يتعلق بالمجتمع من مفردات مجتمعية من العادات والتقاليد.
نجد هذا في روايات مثل «سيدات القمر» و«نارنجة» لجوخة الحارثي التي تنطلق من القرية العمانية، في «الباغ» و«دلشاد» لبشرى خلفان، لروايات هدى حمد وعبدالعزيز الفارسي والروائيين الآخرين».
وقال: «القارئ لهذه الأعمال والذي لا يمت بصلة لعمان لا شك أنه يستطيع أن يكتشف هذه الخصوصية التي تعرّف الآخر بعمان.
الأفلاج والجبال، القرى الصغيرة بتفاصيلها، مسقط بحاراتها، وجوه البشر وأحلامهم ويومياتهم وعلاقاتهم مع المحيط الذين يعيشون فيه كل هذا ملاحظ من خلال الكتابات بمختلفها للروائيين العمانيين، هذا ما لمسته من خلال القراءات النقدية التي كتبت عن كثير من هذه الأعمال، وهذا دليل كبير على أنها تحمل في طياتها ملامحنا كعمانيين وملامح المكان أيضا».
علاقة مكان وزمان
تقول الدكتورة عائشة الدرمكي: «لا يمكن أن ينفلت الأدب من ربقة المكان والواقع الذي ينشأ ضمنه، فالنص الأدبي أيا كان نوعه لا ينشأ من فكر المبدع فقط، بل من ثقافته ومن ثقافة مجتمعه وقدرته على تشكيل الواقع ضمن مخيال الواقع الممكن الذي يعيشه ضمنيا، ولهذا فإن العلاقة بين الكاتب والنص هي علاقة مكان وزمان وفكر مجتمعي، يكتشف من خلالها القارئ عوالم تلك الأمكنة ويُنشئ من خلالها علاقات بينه وبين الإنسان الذي يقرأه في النص، فيدخل في مجموعة من الممكنات التي ينسجها باعتبارها حقيقة ضمن مفاهيم الميثاق الذي يعقده القارئ مع الكاتب -حسب رؤية إيكو- بأن ما يقرأه هو حقيقة حتى وإن كان تخيليلا. ولهذا فإن الأدب في عُمان قدَّم كغيره من الآدب رسالته الإبداعية، فعبَّر عن المكان والزمان وفقا لهذا الميثاق؛ فما يقدِمه الكاتب العماني من أدب يتمركز ضمن التحولات الاجتماعية بشكل خاص، متخذا من الحفر في المكان، وتغيرات الأزمنة حقلا فسيحا للسرد، فتبدو النصوص مجالا كليا يتواءم مع التاريخ الفكري في عُمان، ويتعالق مع الاستبدالات التي يمكن أن تكون متوقعة ضمن تلك التحولات، في محاولة للابتعاد عن منزلق التطابق اعتمادًا على المخيال».
وأضافت: «ما كتبه سعود المظفر، وعلي المعمري، وما يكتبه زهران القاسمي، وبشرى خلفان، وشريفة التوبي، وبدرية الشحي وهدى حمد، وسليمان المعمري، ويحيى سلام، وجوخة الحارثي ومحمود الرحبي وغيرهم، يكشف المجتمع العماني في تحولاته وعلاقاته مع ما حوله ومن حوله، كما يُظهر الصراعات التي تمر بها الشخصيات التي تعيش ضمن هذه البيئة حتى وإن كانت متخيلة، ولعل ترجمة النص الأدبي والرواية بشكل خاص في السنوات الأخيرة وبلغات متعددة، أتاحت للرواية في عُمان الوصول إلى العالم، فتعرَّف القارئ غير العربي خاصة على تلك الخصوصية الفكرية التي تتميَّز بها عُمان من خلال تعاطفه مع الشخصيات والغوص في تفاصيل المكان الذي برع الكاتب العماني في وصفه، وعلى الصعيد الشخصي أذكر أن العديد من الأصدقاء قد تواصلوا معي يريدون زيارة مناطق محددة في عُمان بسبب سحر النص الروائي أو الحدث السردي الذي تخيَّله الكاتب فسبكه في إبداع صدَّقه القارئ.»
وخلصت بالقول: «إن العلاقة بين النص والقارئ تتَّخذ اليوم أشكالا كثيرة، وسحر النص الأدبي في عُمان يأخذ توجهات جعلت العديد من الباحثين في مصر والجزائر والمغرب بشكل خاص يدرسون العديد منها كما حدث في دراسات اتخذت من نصوص حسن المطروشي، وسعيد الصقلاوي، وسعيدة خاطر، وشريفة التوبي، وعزيزة الطائي وغيرهم مدونات للدراسة في أطروحات الماجستير والدكتوراة، وهذا أمر مهم يكشف وصول النص وتحققه من ناحية، وقرب هذا النص من القارئ الذي يجد في عوالمه قدرة إبداعية تربطه بالمكان العماني».
استحضار المكان العماني
من جانبه يقول الشاعر والباحث د. خالد بن علي المعمري إن الكتابات العمانية تحاول لا سيما الرواية منها، أن تُقدّم ملمحاً ولو بسيطاً عن ثقافة عُمان وهُويتها، وتقديمه للقارئ في إطار سردي متخيّل، لعلمنا أنّ الكتابة في أساسها رؤية ومشروع وتعبير عن الواقع والمكان بلغة منتقاة.
وكما نجد الاشتغال بارزاً على تقديم صورة واضحة لعمان عند الشعراء من خلال استحضار الأمكنة والثقافة والهُوية والشخصية التاريخية نجده أيضا عند كتاب السرد بصورة أعمق؛ فهم يستحضرون المكان العماني بكل قيمه وحياة أهله وثقافتهم. ولعلّني أقدّم في استحضار المكان هنا روايات عدّة منها رواية (الطواف حيث الجمر) لبدرية الشحية التي استحضرت ثقافة الناس في الجبل الأخضر وعاداتهم وشكّلت من الجبل هُوية مكانية عمانية يقوم عليها السرد، وكذلك رواية (تغريبة القافر) لزهران القاسمي وهي إحدى الروايات المتأهلة لجائزة البوكر حيث عملت على تقديم حياة العماني في الجبال ورحلته الطويلة في قفر الماء وطلبه.
ويضيف المعمري: لا ننسى أيضا رواية (سيدات القمر) لجوخة الحارثي التي كانت مزيجاً من عادات وثقافة وتاريخ مكاني عماني مشترك قدّمته الرواية في تمازج يجمع الماضي بالحاضر، وكون الرواية فازت بجائزة عالمية وتُرجمت إلى لغاتٍ عدة فهذا في حدّ ذاته يقدم صورة واضحة عن عمان ومجتمعها للقارئ في خارج عمان، وهي رواية قامت أساساً على الصورة المكانية لعمان في ثقافتها وأخبارها وحكاياتها وأنموذج حياتها بين فترتين زمنيتين مخلفتين.
ويقول د.خالد المعمري: ولعل القارئ من خارج عمان يقف على ملامح المكان العماني وتاريخه المستعاد في الكتابة الروائية بقراءة روايتي بشرى خلفان: (الباغ)، و(دلشاد) وهما أنموذجان مهمان في حضور الهُوية المكانية واستعادة المكان بكل وضوح بتناول الحكايات والقصص التي دارت في أمكنة متفرقة بمسقط أو خارج مسقط. لقد استطاعت بشرى توظيف المكان العماني جيداً بربطه بالحوادث التاريخية التي شهدها التاريخ العماني ومحاولة المساءلة له من خلال الشخصيات الواردة في الروايتين. ويضيف: إنّ صورة مسقط على سبيل المثال في الروايتين أثارت فضولا لدى القارئ في التعرف عليها مكاناً واقعياً وتاريخاً قائماً يدل على مكانة المنطقة، ولعل هذه الفكرة هي التي تبنّتها مؤسسة بيت الزبير في التعريف بالمكان العماني/ مسقط من خلال المزج بين المكان الواقعي وربطه بالحكايات المكانية في الروايتين وذلك بالقيام بجولة مكانية للتعرف على هذه الأمكنة، تقود القراء فيه الروائية نفسها للتعريف بالمكان، وكم ستكون الفكرة أكبر شمولية لو استهدفت القراء من خارج عمان أيضا.
وبالإضافة إلى استحضار المكان العماني وحياة الإنسان العماني في السرد، فإني، والحديث ما زال للدكتور خالد المعمري، أجد أن الرواية العمانية استطاعت إيجاد هوية عمانية من خلال استحضار الحكاية العمانية الشفهية منها، وعليه فإن الروائي يقدّم صورة أخرى عن الثقافة في تكوينها وتشكّلها. إن الحكايات الشعبية حاضرة بقوة في السرد العماني، لا سيما الرواية منها، فنجد حكايات السحرة والمغيّبين الواردة في التراث الشعبي العماني حاضرة في رواية (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي ورواية (درب المسحورة) لمحمود الرحبي، نجد فيهما اشتغالا على شخصية الساحر، وعلى حكايات البسطاء من الناس المؤمنين بهذه الحكايات، كما نجد عودة المغيَّب من رحلة السحر إلى الحياة الواقعية.
ويختتم المعمري حديثه بالقول: أمثلة كثيرة يمكن من خلالها الوقوف على حضور عمان في الكتابة الروائية، وهنا نرى أن الكاتب العماني يحاول فعلا تقديم صورة واضحة لبلده في كتابته الروائية يمكن أن يقف عليها القارئ من خارج عمان، فهي تشكّل مشروعاً ثقافياً سياحياً للسلطنة لو حاول القارئ من خلاله البحث عن صورته الواقعية إزاء الصورة الفنية في السرد.
ارباك الواقعية الفوتوغرافية
من جانبه يقول الروائي محمود الرحبي صاحب رواية «درب المسحورة» التي غاصت في عمق الميثلوجيا العمانية: يساهم السرد بنوعيه القصصي والروائي في المعرفة بجوانب مجهولة من التاريخ والجغرافيا. ولأن الرواية نشأت في الأصل لهذا الغرض وهو التعريف بالقيم في قالب مشوق ساخر كما حدث مع الرواية التأسيسية «الدون كيشوتي» التي كتبها سرفانتس ليقطع مع روايات الرومنس التي كانت سائدة في زمنه وهي روايات جامدة تعلي من قيم مثالية لم يعد لها أساس من الواقع. الرواية (أرضية) وذلك بطبيعتها الواقعية التي تعكس البيئة التي يدور عالم السرد فيها. ويرى الرحبي أنه من الضرورة أن لكل رواية فضاء تدور فيه، وهذا الفضاء هو الحيز الذي اختاره الكاتب ليبني أحداث عالمه المتخيل. ولكنه فضاء واقعي بناسه وتفاصيل معيشه مع الفرق أن الأحداث لن تكون حقيقية بالضرورة بل هي ضمن لعبة التخييل. ولكن هذه اللعبة يمكنها أن تتم في أرض محددة ومعينة كما هو الحال في روايات الواقعية السحرية التي تميزت بها أمريكا الجنوبية.لا يتقيد كثيرا الكاتب هناك ببلده بقدر ما يجعل فضاء بلدان أمريكا اللاتينية كلها ضمن لعبته السردية، خير مثال على ذلك النوبلي ماريو بارغاس يوسا، الذي كتب عن البرازيل والدومنيك وغيرها فضلا عن موطنه البيرو، وبذلك ساهم في توسيع رقعته التخيلية لتعريفنا بالبيئات المتنوعة لتلك المناطق التي تجمعها طبائع متقاربة.
ويقول محمود الرحبي: في عُمان تمتح القصة والرواية في الغالب من بيئتها وإن تنوعت فإنه في إطار تنوع هذه البيئة من صحاري وأودية وسهول وأسواق. شخصيا لدي في الرواية محاولات تتلمس البيئة العمانية دون أن تتقيد بها حرفيا. ربما تحاول أن تنتزع كيانها من خلال التنوع أكثر من أن تفعل ذلك من خلال التشابه. فهناك تشابه للبيئة العمانية ولكن هذا في ظني في الظاهر فقط، لأن التنوع هو ما يهم أن نجده وهو عادة مندس وليلي ومتواري، وإن لم نحصل عليه ككتاب سرد علينا أن نتخيله وإلا سارت أعمالنا في طريق واحد.
ويضيف: في رواية «فراشات الروحاني» مثلا ابتكرت بيئة خاصة ولا أعرف مدى التوفيق في ذلك. لا أستطيع الالتزام طوبوغرافيا بأي مكان ولا أظن هذا دور الرواية بقدر ما هو دور الأنثروبولوجيا. أي أنه دور علمي بالأساس، مع إمكانية أن تستفيد منه الرواية إلى الدرجة التي يمكنها في أحيان كثيرة أن توثق بيئة متكاملة توثيقا صحيحا كما حدث مثلا مع القاهرة في روايات نجيب محفوظ، رغم أني لا أتهم محفوظ بذلك كما فعل النقد كثيرا، يكفي مثلا أن اقرأ رواية «زقاق المدق» لأربك الواقعية الفوتوغرافية التي طالما وسم بها هذا الكاتب الكبير.
الاحتكاك الثقافي
يبدأ الدكتور حمود الدغيشي مداخلته في هذا الاستطلاع بطرح السؤال الآتي: كيف يمكن لمعرفة ما أنْ تجعل من شعب، يسكن الحجارة والكهوف، على مرأى من العالم كله؟! قبل أن يجيب بالقول: إذا كانت الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات معرفة رحالة بلا ملامح ثابتة أو أصل هوياتي فإنه من المحقق أن هذه المعرفة علامة حية وبارزة حتى يومنا هذا على الاحتكاك الثقافي بين الشعوب قاطبة، وإنه من المحقق أيضا أن عبارة باتريك دولابان المشهورة «الموت من البرد» لا تخرج عن فكرة المعرفة الرحالة؛ كي تستمر في الحياة، وأن المعرفة القابعة بين جدران الكهوف تموت في الظلام؛ وإذا قـدر لها العيش فإنها تقتات من بعضها بعضا، لتخرج في صورة باهتة مكررة؛ ذلك أن المعرفة متجددة بما تحتضنه من أفكار جديدة قادمة إليها، وكلما زاد انفتاحها على العالم زاد فيضها المعرفي، ومدت العالم الآخر بما تحمله من معرفة وثقافة خاصة بالشعب والمجتمع.
ويضيف الدغيشي: ولكن قد لا تصدق العبارة الأخيرة على المعرفة العمانية؛ إذ إنها لم تكن في أحسن أحوالها، وهي معرفة تأخر وصولها إلى العالم، وانفتاحها على الآخر، فضلا عن ضآلة مشاربها المعرفية بسبب هذا الانقطاع عن الآخر. لم يكن الاحتكاك المعرفي ليحدث إلا بعد النهضة الحديثة بأكثر من عقد، حيث انفتاح عمان على العالم الخارجي، وراح العماني يجول في العالم؛ بحثا عن ثقافة جديدة يغذي بها مشربه المعرفي اليتيم الذي ورثه من حمْل سنين عجاف. لقد كانت الرحلة في طبيعتها المعرفية وعْرة حاول القلم لعماني أنْ يمهد منعرج الطرق بما انفتح عليه من مشارب معرفية جديدة عدلتْ من قلمه، وطورتْ من لغته التي يواجه بها العالم الجديد، وينقل من خلالها أفكاره وهواجسه، وثقافة بلد متجذر في التاريخ بأساطيره وعاداته وتقاليده، وحكاية شعب ومجتمع كان له حضوره ذات عهد مع أقدم الحضارات في التاريخ البشري. وفي ظل التقدم النهضوي الذي تشهده البلاد كان على الثقافة العمانية بأقلامها أنْ تتقدم هي الأخرى، وتمد جسورا شتى وتسعى إلى تعريف نفسها للآخر، فليس هناك جسر أكثر قوة من القلم، وحميمية أكثر حفرا من الكلمة. لقد أدرك الكاتب العماني أن المعرفة المنفتحة هي التي تقي الشعوب شدة البرد، وأنه عليه أنْ يصل إلى الآخر كما وصل الآخر إليه، فانفتحت التجارب العمانية على العالم الخارجي، وأصبح الكتاب العماني بتنوع مشاربه المعرفية له حضوره البارز في ملتقيات الآخر، فتعرف على الثقافة العمانية بتعددها وتنوعها؛ سواء أكان في الأدب؛ من شعر ورواية وقصة أم في الفكر أم في المسرح.. وكانت رواية «سيدات القمر» للروائية جوخة الحارثي التي توجت بجائزة عالمية ثمرة هذا النضال المعرفي.