أفكار وآراء

ماذا يعني لنا أن نثق بالعلم؟

المحرك الأساسي لكتابة هذا المقال، هو الاطلاع عل المقال المنشور بـ«جريدة عمان» بتاريخ (14 فبراير 2013) بعنوان إعادة بناء الثقة في العلوم لكاتبه نيكولاس ب ديركس. الذي يقترح التواصل -بشكل أساسي- وسيلة لإعادة بناء الثقة بين الناس عموما (باعتبارهم أصحاب مصلحة في أي مشروع علمي) والعلم. وباعتبار ديركس مدير أكاديمية نيويورك للعلوم، لم ينسَ الإشارة إلى أن الأكاديمية ملتزمة بسد فجوة المعرفة عبر الحوارات الساعية لتوجيه العملية العلمية، ومناقشة آثار المعارف والتكنولوجيا الجديدة على المجتمع.

يبدو أن الدعاوى المركزة على إعادة بناء الثقة في العلم تركز على جعل المؤسسة العلمية أكثر انفتاحا وديمقراطية. ما يعني إتاحة الفرصة أمام العامة للمساهمة -مثلا- في اختيار مواضيع الدراسة، وقضايا البحث، مع الوضع بعين الاعتبار وجود ممثلين -ما أمكن- لكل الفئات، ليس للأجيال الموجودة على وجه الأرض حاليا فحسب، بل ومراعاة مصالح وحقوق الأجيال القادمة أيضا.

ما يتم التشديد عليه غالبا في مثل هذه الأطروحات، هو كيف أن العلم وسيلتنا الأنجع للمعرفة، مع التغاضي أحيانا عن حقيقة أن السوق هو الموجه الأساسي للأبحاث العلمية. لا الفضول المعرفي، ولا المناقشات مع العامة على الأغلب. حتى مثل هذه الحوارات مع العامة إن حصلت، فإنها تأتي في الأساس بدافع تسويقي: «هل ترون كيف نتحدث عن الذكاء الاصطناعي؟ إذا ما أردتم تعلم فنونه تعالوا أو أرسلوا أولادكم إلينا»، وإن كانت شركة تقنية، فالرسالة الحقيقية التي تريد بعثها هي: «نحن نعرف ما لن تستطيعوا الإلمام به في حياتكم، إن كنتم صناع قرار في مؤسساتكم، وإن كنتم لا تريدون الدفع بالمؤسسات التي تشرفون عليها خارج السباق التقني الذي هو الحاضر والمستقبل، فاستعينوا بنا». كيف يُمكن التحدث بصدق عن آثار الذكاء الاجتماعي، إذا كان التسلح التكنولوجي ليس خيارا حتى تُستخدم الكثير من الحلول التقنية مع معرفة آثارها السلبية المحتملة، بل وعيوبها، فقط لأن البقاء خارج «السباق» ليس خيارا؟

أمر آخر، إذا كانت المؤسسة العلمية تخضع في برامجها لمعادلات العرض والطلب، ما الذي يجعل العلم يشغل- في تفكيرنا- مرتبة أعلى مما عداه من الممارسات الإنسانية؟ ما الذي يجعلنا نطمئن إلى أن ما تنتجه المؤسسة العلمية موثوق بعد، أو محايد (بمعنى أنه لا يبتغي إثبات أمر ما علميا خدمة لمصالح ممولي البحث)؟

في سلطنة عمان لا يبدو أن الثقة في العلم قضية تهتم باستطلاعها وقياسها الجهات المسؤولة عن تنفيذ استطلاعات الرأي. وهو أمر مفهوم إلى حد ما. فلا تظهر في عُمان -ليس على السطح على أي حال، وليس على نحو قابل للملاحظة- الأفكار المتعلقة بمعاداة اللقاحات مثلا. قد يكون لمثل هذه الأفكار معتنقوها، وقد يكون العاملون في المجال الصحي على تماس مباشر بهذا النوع من التحديات على نحو يومي، لكن ربما ليس على نحو إشكالي يؤهله لأن يُعدّ ظاهرة، كما هو الحال في دول أخرى، ليس على حد علمي على الأقل. وهذا بحد ذاته ليس دليلا على هيمنة الثقة بالعلم بين العامة، وإنما على التسليم والانصياع وعدم المُساءلة. الأمر الذي هو نافع في الأزمات (مثل جائحة كورونا) من وجهة نظر صناع القرار على الأقل، ولكنه ليس نافعًا بالضرورة كسلوك عام تجاه كل ما يواجهه المرأ، أو يُفرض عليه، إذ أن قدرا من المقاومة من المساءلة المعقولة مطلوب دائما.

هذا فيما يتعلق بقضية رفض تلقي اللقاحات (رفض تطعيم الأبناء ضد أمراض مهددة للحياة قضية أخرى لا مكان لها في نقاش اليوم). أما بخصوص القضية الأخرى ألا وهي التشكيك بالتغير المناخي، التي غالبا ما تأخذ موقعها ضمن الأمثلة المفضلة للأكاديميين المدللة على انحسار الثقة في العلم، فيبدو أنها خارج اهتمام الرأي العام العماني بالكامل. وهو أمر مفهوم كون أي خطوات فعّالة نحو حماية البيئة لابد أن تأتي من الأعلى. ولأن الشباب منشغلون بقضايا مُلحّة مثل العمل، والحريات الشخصية. وعليه فلا تُقدم قضية التغير المناخي كقضية طارئة، هذا إن كان ثمة أي ضغط ناعم يُمكن أن يُشكل. أقول إنه لا يمكن التوصل إلى رأي انطباعي حول القضية لأنها لا تلقى بعد الاهتمام الكافي، وبالتالي فحالة الاستقطاب التي تجعل القضايا ملاحظة منعدمة في هذه الحالة.

يُمكن مع ذلك دراسة أمثلة أكثر خصوصية وملائمة للسياق العماني إذا ما تملكنا الفضول حول مدى ثقة العامة بالعلم. مثل اللجوء لأنواع الطب البديل، ودراسة ما إذا كان هذا المجال في صعود أو في تراجع. مع عدم إهمال العوامل المؤثرة الأخرى طبعا، مثل دور الحكومة في التضييق على مثل هذه الأعمال التجارية، أو تصنيفها على أنها احتيال.

في السياق نفسه، لا يمكن إغفال أمر مهم، وهو تلقي العلوم الحديثة باعتبارها مادة مستوردة. فالتوتر بين المؤسسة العلمية، والعامة، توتر متعلق بالتأثير السياسي أيضا، ويُصبح متعلقا -على نحو ملتبس ومفاجئ- بقضايا الهوية، والخصوصية. فأنت لا تتحدث عن عالِمٍ عماني ينتج اللقاح، وعن متلقٍ عماني له. إنما عن دول ذات قوة ونفوذ سياسي، تنتج العلم، وأمم تستهلكه. تتداخل هنا موضوعات نبذ المركزية الأوروبية في المعرفة، وموضوعات الثقة في العلم. وهذا موضوع آخر يستحق النقاش في مقالات قادمة.