أفكار وآراء

بوتين يراهن على نفاد صبر الغرب

ترجمة ـ أحمد شافعي -

كانت الصورة مذهلة، والتفاصيل البصرية مثالية: زعيم محارب يخطب في الأمة من قاعة عريقة، وأشعة الشمس تعبر الزجاج الملون لتكلله بهالة. ومع ذلك بقي فيها خطأ. ذلك أن فلوديمير زيلينسكي لم يكن يقوّي عزم شعبه الذي قد نغفر له فقدان العزيمة بعد عام من الحرب والحرمان والألم. بل لقد كان في وستمنستر ليهدئ أعصاب الساسة البريطانيين ـ ثم الأوروبيين ـ ليضمن ألا يتخلوا عن قتال كلَّفهم قدرا أقل بكثير. كان مطلبه الرسمي هو الطائرات المقاتلة ـ إذ قال «أعطونا أجنحة» ـ لكن كان له غرض أعمّ. فقد كانت الغاية من رحلته الخاطفة إلى لندن وباريس وبروكسل هي ضمان ألا ينفد صبر الغرب، وألا يبدأ بعد مرور سنة من غزو بوتين لأوكرانيا في النظر إلى ساعته، والبحث عن مخرج قريب.

غريب أن يكون الأمر على هذا النحو. فالأوكرانيون هم الذين يحتملون المعاناة، وهم الذين تجري على أرضهم مرة أخرى حرب خنادق من النوع الذي افترض كثيرون أنه بات في ذمة التاريخ فلا تمكن مشاهدته إلا في الإنتاجات المعادة من نتفليكس. والأوكرانيون هم الذين يعيشون على الأرض، في شبكات من الأنفاق والمخابئ دون الأرضية على طول الجبهة الممتدة لألف وخمسمائة كيلومتر، ومع ذلك فإن الخوف من هدوء الجبهة الغربية هو الذي يشغل زيلينسكي.

وبوسعكم أن تدركوا السبب. صحيح أن الدعاوى التي تطالب كييف بالموافقة على هدنة فورية ومفاوضات مع موسكو لم تزل هامشية بعض الشيء في الوقت الراهن. فقد وقع على عاتق مطرب بينك فلويد الرئيسي السابق روجر ووترز أن يعرض تلك القضية على الأمم المتحدة هذا الأسبوع، ولم تنل قليلا من موقفه بوصفه داعية ضد الحرب محايدا بين المتقاتلين إلا حقيقة أنه تكلم بوصفه ضيفا مدعوا من قبل الوفد الروسي وأنه وصف الروايات الموثقة لجرائم الحرب الروسية بأنها «أكاذيب أكاذيب أكاذيب».

لكن آخرين لا يسهل غض الطرف عنهم بدأوا أيضا ينقرون المائدة بأصابعهم، مذكرين زيلينسكي بأن جميع الصراعات تنتهي في الأخير إلى المحادثات وأن عليه من ثم أن يبدأ الآن في التفكير بشكل عملي، ومن هؤلاء من لا يقل عن وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر.

سواء أجاء ذلك من يسار الروك أم من يمين المؤسسة، فإنه يبدو أشبه بموقف إنساني عقلاني: فمن ذا الذي يمكن أن يعارض الإنهاء الفوري لهذه الحرب المريعة؟ لكنه دعوة فارغة. وذلك لسبب أساسي، هو أن الشروط ببساطة غير متحققة من أجل أن يتفاوض الجانبان الآن. في مقالة في بروسبكت لجوناثان باول الذي قام بدور حاسم في التوسط لاتفاقية الجمعة الطيبة التي تبلغ من العمر 25 عاما هذا الربيع، يقول إن «مفاوضات السلام الناجحة عادة ما تستوجب كلا من مأزق مؤلم متبادل (وهذا مفهوم محدد في الدبلوماسية) وقيادة لدى كلا الطرفين مستعدة للمخاطرة السياسية من أجل السلام. ولا يتوافر أي من الشرطين في الوقت الراهن» في حالة أوكرانيا.

في أيرلندا الشمالية، لم يكن بوسع أي من الحكومة البريطانية أو الجيش الشعبي الأيرلندي أن يرى طريقا لنصر عسكري: فكان ذلك مأزقا جعل المفاوضات ممكنة. لكن باول كتب أن «كلا من أوكرانيا وروسيا لم تزلا تعتقدان أن بوسعهما تحقيق أهدافهما عسكريا».

وشخصية بوتين نفسها تزيد الأمور تعقيدا. فليس من الواضح أن الحسابات التقليدية القائمة على سياسة العصا والجزرة تفلح معه. فلو لجأت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون إلى التراجع عن التصعيد، فإن سلوك بوتين السابق يشير إلى أنه سوف يعد ذلك علامة ضعف فيزيد من ضغطه. لكن إذا رأت كييف وداعموها أن يزيدوا التصعيد، فالسجل نفسه يشير إلى رد فعل مماثل: سيشعر أنه مرغم على الظهور قويا ومن ثم يرد الضرب. ولا العدد الهائل من الخسائر في جانبه يمثل أي ضغط على بوتين، ففي ضوء القمع لكل معارضة داخلية في روسيا، لا يكاد حزن الشعب يمثل له أدنى اعتبار. ومن دواعي سروره أن يبعث شبابه إلى مفرمة اللحم.

وشاهدوا الحلقة الثالثة من سلسلة بي بي سي الوثائقية الجديدة الآسرة «بوتين ضد الغرب» من إخراج نورما بيرسي ليتضح لكم أكثر مما هو واضح أن السبل التقليدية لا تنطبق هنا. إذ يحكي زيلينسكي لبيرسي عن طلباته المتكررة للانضمام إلى الناتو: ظل الحلف يرفضه خشية استعداء بوتين. واستمرت دول أوروبية عديدة في هذا الحذر في بقية التعاملات مع بوتين، لاجئة إلى اللين حتى في بدايات 2022، راجية ألا تستفزه فيغزو أوكرانيا. وكان ذلك كله عبثا، وغزا بوتين برغم كل شيء.

مع ذلك، لنفترض إمكانية التغلب على ذلك كله، وأن بالإمكان بطريقة أو بأخرى حمل بوتين وزيلينسكي على الاتفاق على هدنة فورية. لن ينتهي العناء بهذا. وتأملوا لوهلة مصير تلك الأماكن التي غزاها بوتين وستبقى في أيدي روسيا بموجب هدنة تجمد الخريطة القائمة. فكروا للحظة في ما جرى بالفعل في تلك الأماكن، في مذبحة ماريوبول، وغرف التعذيب في إيزيوم، والترحيل الجماعي للأوكرانيين إلى روسيا بما في ذلك من نقل مئات الآلاف من الأطفال لمواجهة التبني القسري و«الترويس». هذه الجرائم لن تنتهي إذا ما تم التوصل إلى هدنة. بل إنها سوف تستمر، ولن يطرأ عليها من تغيير إلا أن روسيا ستكون أطلق يدا.

ومن يصدق أن بوتين سوف يكتفي بذلك؟ وعلى أي أرضية يمكن أن يثق أوكراني بأن الرئيس الروسي سيرضى باغتنام المكاسب التي ظفر بها ويترك الأمر عند ذلك؟ على المرء أن يتجاهل كل شيء جرى خلال العقدين الماضيين. الأرجح أن بوتين سوف يعد الهدنة ببساطة فترة توقف يحتشد فيها من أجل الخطوة التالية. فهو في نهاية المطاف لا يسعى إلى محض تعديل للحدود: فقد قال بوضوح إنه يعد محض وجود دولة أوكرانية مستقلة إهانة لروسيا. يقول فاديم بريستايكو وزير خارجية أوكرانيا السابق لبيرسي: «لا يمكن مساومته. بوتين لا يحتاج إلى شيء منا. ما من مكافأة، ما من مبنى، أو مدينة، أو مغنم. هو يريد ألا نكون موجودين».

وفي أي صراع بالطبع يقول الأعداء إن خصومهم ذوو شر فريد أو أنهم لا يحتكمون إلى المنطق. وفي كثير من الأحيان يكون هذا التقدير خاطئا. لكن في بعض الأحيان يواجه العالم خطرا من نوع مغاير. فدكتاتورية بوتين داخل الحدود الروسية وتوسعه الإقليمي المتكرر إلى ما وراء هذه الحدود ـ سواء في جورجيا سنة 2008، أم في القرم سنة 2014، أم في بقية أوكرانيا سنة 2022 ـ تنم عن رجل عازم على إحياء أشباح كانت تستولي على أوربا في منتصف القرن الماضي. ولقد لعب هذه اللعبة طويلا، وهو يلعبها الآن مرة أخرى، مراهنا على أنه أقدر منا استيعاب الموت والخراب، وأننا نخاف ذلك أكثر مما يخافه، حتى لو لم يكن الذين يموتون منا. هو يؤمن أن لديه قوة أكبر، وصبرا أكبر، وليس من المبالغة في شيء القول بأن مصير أوروبا نفسه يعتمد على إثبات أنه على خطأ.

جوناثان فريدلاند صحفي بريطاني يكتب عمودًا أسبوعيًا لصحيفة الجارديان

عن صحيفة الجارديان