أعمدة

الأجورافوبيا وعلاقتها بالمكان والأدب

 
لطالما انشغلتُ بالتأمل في قدرة المكان على تشكيلنا، ليس هذا فحسب، بل حتى إمكانية أن نهرب أو نتمرد على قواعد مضغوطة مسبقًا كما لو أننا نأتي مع كتيب تعليمات ليس خاصًّا بنا، هل يمكن أن نتحرّر في لحظة ما ونرى أنفسنا من الخارج؟ وهل هذا مجدٍ وقادر على مساعدتنا بالفعل لكي نتعايش مع المصير الذي نجد أنفسنا نحياه، منقادون إليه؟ إلا أن الكتابة عن أكثر التجارب الشخصية وتقاطعها مع المكان والظروف المحيطة بنا ليس أمرًا سهلًا بطبيعة الحال، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالاضطرابات النفسية، إذ إن مسبباتها لم تحسم حتى يومنا هذا، فهل هي أسباب بيولوجية أكثر منها متعلقة بالظروف والنشأة وما إلى ذلك؟ ما زال هذا لغزًا للأسف الشديد. لكننا مع ذلك نحاول التلاقي مع عجزنا والتعبير عنه. هذا ما فعله الكاتب المصري مينا ناجي في كتابه «٣٣: عن الفقد والرهاب»، الصادر عن دار المرايا المصرية نهاية عام 2021.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، الأول يكتب فيها ناجي شذرات يومية بعد وفاة أمه، الحدث الذي هز حياته وغيّرها ربما للأبد. أمه التي يهديها عدم خوفه عليها من الفيروس الذي انتشر بعد غيابها، مشيرًا إلى جائحة كورونا، متأملًا في الأطلال اليومية التي تؤجج وحشته الخالصة بموتها، متتبعًا خطى رولان بارت في يومياته العظيمة التي رفض وخجل من أن يقرأها أحد فيحسبها أدبًا، ذلك أنها مثّلت له ما هو أكثر من ذلك، (ما الذي يكون أكثر من الأدب؟) في رثاء أمه، عبر «يوميات الحداد «26 أكتوبر 1977 - 15 سبتمبر 1979» والتي وجدتُ ناجي قد تمكن من اجتراح ما يخصه، مستعيرًا نموذج بارت، ليقدم لنا الاثنين أدبًا لا يمكن تجاوزه بسهولة عن فقدان الأم. أما الفصل الثاني فهو عن الرهاب الذي شُخص به ناجي وهو الأجورافوبيا وهو بحسب تعريفه له في الكتاب «القلق الحاد من الوجود في بيئة غير آمنة أو في مواقف لا يمكن أو من الصعب الهروب منها». أما الفصل الأخير وهو قصير جدًا فقد أعاد نشر مقالة كتب فيها عن كافكا وعلاقته به. قررت أن أكتب في هذه المقالة عن الجزء الثاني من الكتاب الذي عنونه ناجي بـ«الأجورافوبيا والكتابة»، وافتتحه بمقولة جيمس جويس «التاريخ كابوس أحاول الإفاقة منه».

عودة للمقدمة التي بدأت بها هذه المقالة، يربط ناجي بين الأجورافوبيا وانتمائه للمسيحيين الأقباط المصريين، إذ إن وجودهم في المجال العام «يكون في شكل تكتلات مترابطة محددة الموقع والفعالية» بل إنه كان ينتمي لأقلية داخل أقلية أصغر إذ كان مينا ناجي كاثوليكيًّا وهم أقلية مقارنة بالأرثوذوكسيتين. ويكتب قائلًا عن ذلك «العامل الهوياتي الديني هنا، ببعده السياسي والاجتماعي عنصر فعال في تكوين شكل الأعراض النفسية، فالشعور في العمق أن هذا المكان ليس مكانك يجعلك تلجأ إلى الاحتماء في مكان تحدده لنفسك، أو تحدده لك البيئة المحيطة، وتتحرك بحذر وحيطة، إن لم يكن بخوف خارجه. بالإضافة لعوامل أخرى مثل الجندر فالدراسات تشير إلى اختلاف في أعداد المصابين بهذا الاضطراب بين الرجال والنساء، أما العامل الثالث فهو الطبيعة المدينية والمناطقية مع الطبقة الاجتماعية.

فالطبقة المتوسطة تحديدًا لم تطور أساليب للتعامل مع المدينة، فالتلوث والضجيج والتحرش والصعوبات الاقتصادية والأزمات السياسية، التي نحا الأثرياء نفسهم عنها عبر المجمعات المغلقة التي تحتوي بكاملها على كل عناصر الرفاهية، وقدرة الطبقات الدنيا على صناعة طرق مغايرة للتعامل مع هذه الضغوط، فتكون النتيجة في العادة أن تلجأ الطبقة المتوسطة بـ«الاحتماء دائما بالأماكن المغلقة، خارجًا مثل المطاعم والكافيهات والمقاهي والمولات داخلًا، بالبيوت والمنازل الشخصية والأسرية مستخدمين وسائل الانتقال الخاصة التي تطلب بالهاتف، معتمدين في مجالي الدراسة والعمل على مدارس ومعاهد وجامعات وشركات خاصة في أجورافوبيا طبقيّة تتحاشى بضغط مادي مُعتبر الاحتكاك بالأماكن العامة المفتوحة والشوارع المشلولة والمواصلات العامة، بلا علاقة حقيقيّة بما يسمى المجال العام المشترك غير التجنب والاحتماء، أو استعارة أسلحة دفاعيّة كادعاء تملك الوسائط والنفوذ (من الطبقات الأعلى) أو الأداء البلطجي الشوارعي (من الطبقات الأدنى)».

إذن فإن علاقة مينا ناجي بالقاهرة لطالما كانت محدودة فهو لا يعرف الكثير من أماكنها بل يمكن أن يعد المرات القليلة التي تواجد فيها في «وسط البلد» وهو المكان الأشهر تقريبًا في القاهرة! كما أنه وجد نفسه عالقًا في القاهرة دون فاصل أو فرصة للرحيل على حد تعبيره، الأمر الذي جعله وبشكل تلقائي ينفر منها ويكون مشاعر سلبية تجاهها.

وبعد الحديث عن العلاج النفسي والأعراض الملازمة لهذا النوع من الرهاب الذي يعاني منه مينا ناجي، تحدث عن علاقته بالأدب والكتابة وخلاصه بهما فهو يقول: «الأدب كان وما زال بالنسبة إليَّ جنونًا مقنّنًا حافظ على سلامتي العقليّة. فماذا كنتُ سأفعل، دون الأدب، مع الاختيارات العبثيّة، أحلام الهوة السوداء، المنافسات، الصبر المتطاول، انفلات الفصول، النظام المزيف للأفكار، اهتياج الخطر، إذا استخدمت تعبيرات أندريه بريتون في مانيفستو السوريالية الأول» ويكتب أيضًا:

«تعاملت مع لقب (شاعر) و(كاتب) كشخصيات أتقمصها، قناع أضعه لكي يشجعني على المضي قدمًا: استمرار هذا القناع الكاتب دون غيره يأتي، بجانب كونه القناع الأمثل في احتواء الخبرات والتجارب التي عشتها وهضمها والاستفادة منها، من كوني أردت أن أعيش حيوات عديدة، تحت ضغط الشعور الدائم أني أفوّت فرصة العيش كما حاول أن يشرح كفافيس في قصيدته «المدينة»؛ فحياة واحدة لا تكفي، وبالذات حياتي الفعليّة. والأقنعة يمكن أن تعوِّض لو ارتديتها بقناعة كافية، بالضبط كما يلعب الأطفال ويأخذون اللعب بجدية تامة».

أذهلتني فكرة القناع هذه، بدا كما لو أنني وجدتُ ضالتي، ماذا لو أعتبر أمل الكاتبة، ليست هي أمل التي تعرف نفسها؟ ماذا لو سلكتُ هذه الطريقة لكي أختبر تجارب أعرف أن انطوائي مثلًا أو أنواع أخرى من الرهاب التي أعيش معها قد تحول دون ذلك. ثم إن الكتابة الوعاء الأفضل بالنسبة للتجارب التي أعيشها بالفعل، يبدو الأمر كما لو أنه مشروع مستقل عن ذاتي المتشظية، أستطيع أن أوجد فيه كاملة للمرة الأولى ربما. وبهذا تكون الكتابة بغرض «شرح أشياء فعلتها وفعل أشياء لم أقدر على فعلها، التفسير والتعويض».

لقد أضفى الأدب الجمالية للأجورافوبيا التي يعاني منها ناجي وذلك «بإعطائها سردية، صوت داخل نسق يقال ويحكى وينقل بدلًا من كونها شيئًا واقعيًّا جاثمًا»، مؤلمًا وشخصيًّا، مغلقًا وأخرس، وينتج لها معنى عبر إعادة التأويل، بالنظر إليها من زاوية أخرى، وعبر إعادة التخيل والإيضاح وفرض الاتساق» على طريق كامو في روايته الطاعون عندما كتب: «إن الرعب يبدو له أخف حملًا مما لو عاش فيه وحده»، وبهذا فهو يجرب في الأدب ليعيش هذه الحالة من التضامن مع آخرين، رغم أنه لا يثق تمامًا بأنه لا يفشل في ذلك فيقتبس لبيكيت «جربتَ دومًا. فشلتَ دومًا. حاول مجددًا. أفشل مجددًا. أفشل أفضل»، مكرسًا انتماءه لليسار وفهمه هذا عن الأدب ليختم تجربته بأجمل ما يمكن أن يكتب: «هناك هَوْل الحياة وثِقَلها، لكن يرافقهما الجمال الأخَّاذ المتفتِّح. هناك تعزية قادمة من التفهُّم والمُشاركة، حيث تبزغ وسط الاضطراب والجزع والأسى تلك السَّكينة المهيبة، المتضامنة، والواثقة».