أفكار وآراء

البطل وصناعة التاريخ

لم تكن الثقافة ترفًا في تاريخ الشعوب، بل كل الحضارات الكبرى في العالم كان قوامها الثقافة منذ فجر التاريخ، بل كان قوامها النهضات الكبرى في هذا العالم الفسيح، يستوي في ذلك الحضارات الآسيوية والأوروبية والعربية، لكن من الملاحظ أن أشخاصًا بذواتهم قد حملوا على عاتقهم مسؤولية صناعة التاريخ حينما نجحوا في إحداث تغييرات جوهرية في حياة الشعوب، الكثير من هؤلاء واجهوا مصاعب جمة سواء من حكامهم أو من شعوبهم، ولكنهم تمكنوا في النهاية من أن يشيعوا بين الناس العديد من القضايا الكبرى الفنية والفكرية في كل مناحي الحياة، وفي كل المجالات التي طرقوها كان التاريخ والفلسفة وعلوم الرياضيات بمثابة القاعدة الصلبة التي أسست لكل الحضارات التي خدمت البشرية.

منذ فجر النهضة الأوروبية الحديثة قوبل هؤلاء العلماء بمواجهات ضارية من كل رجال الدين، وكبار الساسة، وكان من بينهم دانتي، وميكافيللي، وتوماس مور، ولورنزو فالا، وصولا إلى المؤرخ والفيلسوف توماس كارليل (1795-1881م)، الذي تخرج من جامعة أدنبرة وقد تخصص في الرياضيات؛ لذا شغل وظائف إدارية لكنه لم يقنع بتخصصه حينما عاد إلى الجامعة شغوفًا بدراسة الجيولوجيا، لكن المعارف الفكرية قد استهوته وخصوصًا الفلسفة، التي رأى أن المدرسة الألمانية لها السبق في هذا المجال، وهو ما دفعه إلى تعلم اللغة الألمانية التي كان يعتز بمثقفيها، بعدها أمضى عمره مستفرقًا في التأليف والترجمة، وقد تأثر كثيرًا بالشاعر الألماني 'شيللر'، وكتب ترجمة بديعة عن أعماله وحياته، كما كتب العديد من السير الذاتية والفكرية لكبار المؤرخين وفلاسفة العالم، من قبيل 'مونتين'، و'ومونتسكيو'، و'وجوته'، 'وفولتير'، بعدها أصبح محاضرًا في كبرى الجامعات البريطانية، والألمانية، والفرنسية، في قضايا الفكر والفلسفة والتاريخ.

كان توماس كارليل على قناعة بدور البطل في صناعة التاريخ، والبطل عنده ليس القائد العسكري الذي يبهر العالم بانتصاراته وإنما البطل الحقيقي هو المفكر والفيلسوف والعالم الذي ينفذ إلى القلوب والعقول. وفي هذا السياق كتب أعمالا عظيمة عن الثورة الفرنسية، كما كتب أعمالا أخرى من قبيل: 'الماضي والحاضر'، و'فلسفة الملابس'، و'تاريخ فردريك ملك بروسيا'، ولعل أشهر ما كتبه هو عمله الذي أثار عناية الكتاب والمؤرخين: 'الأبطال'، وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربية المرحوم 'محمد السباعي' (1881 – 1931م).

كتاب الأبطال ليس عن مشاهير الرجال الذين قدموا خدمات جليلة للبشرية فقط، وإنما هو عبارة عن مجموعة من محاضرات ألقاها في العديد من جامعات العالم، كل محاضرة تبدأ وتنتهي بقضية قوامها البطل الذي صنعها وفي كل ما كتب راح يتتبع دور الأبطال الذين اصطفاهم الله لكي يؤدوا دورًا في خدمة البشرية. وما تاريخ العالم إلا تاريخ هؤلاء الأبطال جميعًا، لم يغفل توماس كارليل دور الدين في حياة الشعوب بل اعتبره هو الأخطر على الإطلاق بما يحمله من قيم إنسانية وأخلاقية، والأهم أن يتحول الدين إلى سلوك حضاري وأخلاقي، ويؤمن توماس كارليل بأن كل أمة لها بطلها منذ عصر 'أودين' الذي كان يعبده قدماء السويد والنرويج، وصولا إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

أعتقد أن ما قال به توماس كارليل يحتاج إلى كثير من المراجعات وخصوصًا عن مقولته: 'إن التاريخ هو صناعة الأبطال فقط'، وهو قول تجاوزه المؤرخون والفلاسفة حينما أجمعوا على أن التاريخ صناعة جهد مشترك بين كل البشر وأن الأفكار المبتكرة قد تكون صناعة أفراد حكامًا، أو فلاسفة، أو محكومين، لكن العبرة بإعمال هذه الأفكار وإحالتها إلى صناعة حضارية وهو جهد مشترك من كل القوى المجتمعية في السياسة، والاقتصاد، والفكر، وكل مناحي الحياة. لكن توماس كارليل يؤكد على أن صناعة الحضارة وازدهارها يتوقف على دور الفرد باعتباره البطل الحقيقي وهي ثقافة احتفى بها الفرنسيون الذين أحاطوه بكل مشاعر التقدير والاحترام عندما عاد إلى باريس بعد رحلة طويلة جاوز فيها الرابعة والثمانين من عمره وخرج الفرنسيون لاستقباله تقديرًا لبطولته في محاربة الضلال والظلم.

أعتقد أن البطل الحقيقي هو كل شخص يأخذ بيد مجتمعه إلى الحقيقة في شتى مناحي الحياة، وخلال مراحل التاريخ حينما ارتبطت المجتمعات بأشخاص بذواتهم عظموا من شأن أوطانهم: مفكرون، علماء، عسكريون، مبتكرون، وقد راح توماس كارليل يستعرض نماذج من هؤلاء ابتداءً من العصور الوثنية وصولا إلى المفكرين في العصر الحديث.

لقد خص توماس كارليل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بفصل كامل من هذا الكتاب، وفي هذا الفصل عُني بالمثل العليا في الإسلام ورد على كثير مما كتبه فولتير من نقد للإسلام، لكن كتابات توماس كارليل قد جعلت الكثيرين من معاصريه يعيدون النظر فيما كان قد استقر في وجدانهم عن الإسلام وعلى حد قول مترجم الكتاب 'محمد السباعي': ' لو أقام له المسلمون تمثالا في كل بلد، وزينوا باسمه جدران المساجد وخطب المنابر لما أدوا حقه دفاعًا عن الإسلام'.

في المحاضرة التي خص بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، يعترف الرجل بأن الخطأ التاريخي في سير الأبطال عبر التاريخ حينما يعتبر الناس أن البطل بمثابة إله وهو خطأ فاحش، أما وقد تكشفت الحقائق، وقُرئت الكتب والمخطوطات، فقد أصبح من العار على أي فرد متدين من أبناء هذا العصر (القرن التاسع عشر الميلادي) أن يعتقد بأن دين الإسلام كذب وأن محمدًا مخادع، كلها أقوال سخيفة مخجلة لأن الرسالة التي جاء بها الرسول محمد عاش بها ومات عليها مئات الملايين من الناس، وهو ما لا يُعد أكذوبة أو خدعة.

إن الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتًا، وما محمد إلا رسول مبعوث من الأبدية برسالة إلى الناس ورسالته ليست مأخوذة من رجل غيره بل هي لُب الحقيقة التي هبطت إليه من السماء، لذا راح يردد أقوالا من القرآن تأكيدًا على حجية الإسلام. وما رسالة محمد إلا قطعة من الحياة أضاءت العالم أجمع.

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. كيف يتحقق ذلك لرجل واحد ضد العالم أجمع ؟، إن الحقيقة تسود العالم بقوتها الروحية والأخلاقية ولا مكان فيها لسيف أو مدفع.

ما أحوجنا إلى إعادة قراءة هذا الكتاب، وإعادة نشره لكي يتبين الحق من الباطل.