ملاحظات حول الولع بالذكاء
الأربعاء / 2 / رجب / 1444 هـ - 22:26 - الأربعاء 25 يناير 2023 22:26
(1)
هناك خرافة تدعي أن الإنسان لا يستخدم سوى عشرة بالمائة من قدراته العقلية، وأن بإمكانه عبر تعلم وإجادة بعض التقنيات تحرير التسعين بالمائة المتبقية، وبهذا يوظف أي واحد منا دماغه بكامل إمكانياته كأي عبقري محتفى به. خرافة العشرة بالمائة هذه تُهمل واقع أن جل وظائف الدماغ مكرسة للعمليات غير الواعية كالاستتباب الداخلي، وتنظيم عمليات الجسد (مثل التنفس). لم يقتصر استثمار هذه الخرافة على أفلام الخيال العلمي مثل (2011) Limitless. بل واستثمرت أيضا بلا هوادة في مواد المساعدة الذاتية من كتب ومحاضرات. شيوعها ينبع من كونها تُغازل رغبة دفينة في داخل أكثرنا: الرغبة بأن نكون أذكى.
دعونا نتحدث اليوم عن الولع بالذكاء (حتى لا أقول العبقرية). لا يكاد الواحد منا ينخرط في عمل فكري -كالتحضير لاختبار أو كتابة بحث، أو حتى كتابة مقالة أسبوعية- حتى تأخذه خيالاته إلى مكانٍ مشتهى. مكان أنت فيه معزز بذكاء وذاكرة وقدرات عقلية هائلة؛ كأن تقرأ كتابًا مرة وتحفظه غيبا؛ لتسترجعه أو تقتبس منه لاحقا، والأهم ليكون جزءا من قاعدة معرفتك. أو أن ترى أنماطا فيما يراه غيرك فوضى وعشوائية. أو أن تُنهي كتابة ورقة في ظرف ساعات، لتستمتع ببقية يومك. نظريا، قدرات مثل هذه ستسهل عليك حياتك، ستمنحك فرصا أفضل، وهي أيضا -اعترفت بهذا لنفسك أم لم تعرف- ستجعلك في موضع قوة. فحدة بديهتك ستضمن فوزك بأي جدال أو مفاوضة أو مواجهة. والفرص التي ستثبت أنك الأكفأ والأكثر أحقية بها ستضمن حصولك على شيء من الثروة والسلطة.
أرى أصدقاء كثيرين من حولي يتركون -في فعل انتحاري تماما- مشاريعهم في منتصفها، ليس خوفا من التلقي، أو حكم الآخرين عليهم، فهذا حتى لا يخطر ببالهم، بل لشعورهم أنهم «ميديوكرز».
يقف هذا الشعور عائقا أمام رفاههم: أن ينغمسوا في شيء، وأن يُقدر ما ينجزونه.
أشعر أن من واجبنا تجاه بعضنا أن نبحث عن مقاربات لنُدمقرط الإبداع. حتى لا يكون ثمة بعد مكان لأسئلة من نوع «هل أنا جيد بما يكفي لفعل هذا؟» كما أن علينا أن نُجابه شعورنا الحدسي بأن «علينا أن نستحق الأشياء»، وأن نُعلي من قدر المتعة: ما دمت تستمتع بإنتاج أي فن فافعل. وعلينا كمُتلقين بالمقابل لا أن نقف موقف الناقد منك، بل موقف المتذوق المؤازر، أن نُركز على ما يُعجبنا، على ما تنجح في تقديمه. هناك اعتقاد دوغمائي أن ممارسة الفن من حق نخبة نصفها بالموهوبة. وحدها النخبة تستحق أن نقطع التذاكر لرؤية ما تنتج. لا يبدو أننا قادرون على الفكاك من التقاليد الطبقية، وما تعلمناه بطرق مباشرة وغير مباشرة عبر نظام الجدارة الذي نحن جزء منه. ما نحتاج إليه عوضا عن ذلك هو رؤية متسامحة تجاه ما يُنتج.
(2)
ماذا لو كان المتحذلق حاذقا؟
في فيلمه البديع «Certified Copy» إنتاج (2010) يُثير المخرج الإيراني عباس كيارستمي هذا السؤال (ضمن أسئلة أخرى) حول علاقات القوة بين الجنسين (بالإضافة لسؤال الفيلم الرئيسي حول الأصالة). انطباعي أن كيارستمي لم يكن يُحاول أن يكون صحيحا أو منصفا، إنه يستكشف معنا عبر فيلمه التوتر بين طرفين يختبران يومهما معا، بكل ما في هذا الجمع من تقارب، إعجاب، وخيبات.
يحكي الفيلم جولة الكاتب الإنجليزي جيمس (قام بالدور وليام شيميل) مع مالكة محل تُحف تُدعى إيلي (قامت بالدور حبيبة الكل جولييت بينوش) التي تأخذه في رحلة عبر تسكانة - إيطاليا، بعد أن يُنهي الكاتب الجلسة الرامية إلى الترويج لكتابه الجديد. يجوب الاثنان تسكانة شاربين القهوة، زائرين متاحفها ومعالمها. يتصاعد الفيلم عندما يلعب الاثنان دور زوجين. يأخذنا هذا التعارف في رحلة مثيرة لاكتشافهما، واكتشاف رؤيتهما (غير المتوافقة بالضرورة) للعالم والعلاقات.
يبدو لنا أول الأمر أن إيلي تُريد أن تكون محل إعجاب جيمس (الذي تُقدره). ورغم أنه يبدو غير مبالٍ بها بل وحتى بغيضا obnoxious بعض الشيء -أو ربما لهذا تحديدا- تهتم بأن تُريه من المكان -من نفسها أيضا- ما يُعجبه. لكن إعجابه يُوجّه -عوضا عن ذلك- إلى الأخت (غير الحاضرة) والتي تتسلى إيلي بالحكاية عنها وعن زوجها «البسيط». تُريد إيلي أن تكون محل الإعجاب لكن دون استماتة نرى ذلك من صراحتها المفرطة والآسرة في الوقت نفسه، والتي تدفعها إلى نقض كل ما يُمكن أن يُرى -على نحو سطحي- أنه يجمعهما، وكأنها تبحث تحت السطح وخلف القشور عن رابط إنساني أوثق.
عودة إلى سؤالنا الرئيسي، جيمس إنسان حاذق بلا شك، وهو يُقدم رؤية حساسة ومنفتحة للأشياء. هل يُبرر له هذا ويغفر -ولو بعض الشيء- حذلقته التي تصل إلى الحط -غير المقصود على الأغلب- من رفيقته؟ إننا -كبشر- نُعلي من قيم الصدق، والأمانة في قول رأينا في الأشياء كما نفكر بها، لكن هل يجب أن يكون ذلك اعتبارنا الأول؟ وأين مكان اللطف من هذا كله؟
تقع علينا جميعا مسؤولية أن نُشعر الآخر بالارتياح (أن نعتني بأنفسنا وبالآخرين)، هذه المسؤولية تعلو على قيمة الصدق -برأيي على الأقل. للأذكياء قدرة على التنمر الفكري، وعليه فإن مسؤوليتهم أكبر تجاه الآخرين. وربما يكون علينا أيضا مراجعة ولعنا بالعباقرة (د.هاوس مثالا) الذين يحطون من كل من يُحيط بهم، وكأن تفوقهم الفكري يشفع لهم عدم اللطف. تُمتعنا مشاهدة هذا النوع من الشخصيات في المسلسلات والأفلام. وأتساءل إن كان هذا الهوس بهم نابع من رغبة في أن نكون في مكانهم. هذا أمر يستحق المراجعة بالتأكيد.
هناك خرافة تدعي أن الإنسان لا يستخدم سوى عشرة بالمائة من قدراته العقلية، وأن بإمكانه عبر تعلم وإجادة بعض التقنيات تحرير التسعين بالمائة المتبقية، وبهذا يوظف أي واحد منا دماغه بكامل إمكانياته كأي عبقري محتفى به. خرافة العشرة بالمائة هذه تُهمل واقع أن جل وظائف الدماغ مكرسة للعمليات غير الواعية كالاستتباب الداخلي، وتنظيم عمليات الجسد (مثل التنفس). لم يقتصر استثمار هذه الخرافة على أفلام الخيال العلمي مثل (2011) Limitless. بل واستثمرت أيضا بلا هوادة في مواد المساعدة الذاتية من كتب ومحاضرات. شيوعها ينبع من كونها تُغازل رغبة دفينة في داخل أكثرنا: الرغبة بأن نكون أذكى.
دعونا نتحدث اليوم عن الولع بالذكاء (حتى لا أقول العبقرية). لا يكاد الواحد منا ينخرط في عمل فكري -كالتحضير لاختبار أو كتابة بحث، أو حتى كتابة مقالة أسبوعية- حتى تأخذه خيالاته إلى مكانٍ مشتهى. مكان أنت فيه معزز بذكاء وذاكرة وقدرات عقلية هائلة؛ كأن تقرأ كتابًا مرة وتحفظه غيبا؛ لتسترجعه أو تقتبس منه لاحقا، والأهم ليكون جزءا من قاعدة معرفتك. أو أن ترى أنماطا فيما يراه غيرك فوضى وعشوائية. أو أن تُنهي كتابة ورقة في ظرف ساعات، لتستمتع ببقية يومك. نظريا، قدرات مثل هذه ستسهل عليك حياتك، ستمنحك فرصا أفضل، وهي أيضا -اعترفت بهذا لنفسك أم لم تعرف- ستجعلك في موضع قوة. فحدة بديهتك ستضمن فوزك بأي جدال أو مفاوضة أو مواجهة. والفرص التي ستثبت أنك الأكفأ والأكثر أحقية بها ستضمن حصولك على شيء من الثروة والسلطة.
أرى أصدقاء كثيرين من حولي يتركون -في فعل انتحاري تماما- مشاريعهم في منتصفها، ليس خوفا من التلقي، أو حكم الآخرين عليهم، فهذا حتى لا يخطر ببالهم، بل لشعورهم أنهم «ميديوكرز».
يقف هذا الشعور عائقا أمام رفاههم: أن ينغمسوا في شيء، وأن يُقدر ما ينجزونه.
أشعر أن من واجبنا تجاه بعضنا أن نبحث عن مقاربات لنُدمقرط الإبداع. حتى لا يكون ثمة بعد مكان لأسئلة من نوع «هل أنا جيد بما يكفي لفعل هذا؟» كما أن علينا أن نُجابه شعورنا الحدسي بأن «علينا أن نستحق الأشياء»، وأن نُعلي من قدر المتعة: ما دمت تستمتع بإنتاج أي فن فافعل. وعلينا كمُتلقين بالمقابل لا أن نقف موقف الناقد منك، بل موقف المتذوق المؤازر، أن نُركز على ما يُعجبنا، على ما تنجح في تقديمه. هناك اعتقاد دوغمائي أن ممارسة الفن من حق نخبة نصفها بالموهوبة. وحدها النخبة تستحق أن نقطع التذاكر لرؤية ما تنتج. لا يبدو أننا قادرون على الفكاك من التقاليد الطبقية، وما تعلمناه بطرق مباشرة وغير مباشرة عبر نظام الجدارة الذي نحن جزء منه. ما نحتاج إليه عوضا عن ذلك هو رؤية متسامحة تجاه ما يُنتج.
(2)
ماذا لو كان المتحذلق حاذقا؟
في فيلمه البديع «Certified Copy» إنتاج (2010) يُثير المخرج الإيراني عباس كيارستمي هذا السؤال (ضمن أسئلة أخرى) حول علاقات القوة بين الجنسين (بالإضافة لسؤال الفيلم الرئيسي حول الأصالة). انطباعي أن كيارستمي لم يكن يُحاول أن يكون صحيحا أو منصفا، إنه يستكشف معنا عبر فيلمه التوتر بين طرفين يختبران يومهما معا، بكل ما في هذا الجمع من تقارب، إعجاب، وخيبات.
يحكي الفيلم جولة الكاتب الإنجليزي جيمس (قام بالدور وليام شيميل) مع مالكة محل تُحف تُدعى إيلي (قامت بالدور حبيبة الكل جولييت بينوش) التي تأخذه في رحلة عبر تسكانة - إيطاليا، بعد أن يُنهي الكاتب الجلسة الرامية إلى الترويج لكتابه الجديد. يجوب الاثنان تسكانة شاربين القهوة، زائرين متاحفها ومعالمها. يتصاعد الفيلم عندما يلعب الاثنان دور زوجين. يأخذنا هذا التعارف في رحلة مثيرة لاكتشافهما، واكتشاف رؤيتهما (غير المتوافقة بالضرورة) للعالم والعلاقات.
يبدو لنا أول الأمر أن إيلي تُريد أن تكون محل إعجاب جيمس (الذي تُقدره). ورغم أنه يبدو غير مبالٍ بها بل وحتى بغيضا obnoxious بعض الشيء -أو ربما لهذا تحديدا- تهتم بأن تُريه من المكان -من نفسها أيضا- ما يُعجبه. لكن إعجابه يُوجّه -عوضا عن ذلك- إلى الأخت (غير الحاضرة) والتي تتسلى إيلي بالحكاية عنها وعن زوجها «البسيط». تُريد إيلي أن تكون محل الإعجاب لكن دون استماتة نرى ذلك من صراحتها المفرطة والآسرة في الوقت نفسه، والتي تدفعها إلى نقض كل ما يُمكن أن يُرى -على نحو سطحي- أنه يجمعهما، وكأنها تبحث تحت السطح وخلف القشور عن رابط إنساني أوثق.
عودة إلى سؤالنا الرئيسي، جيمس إنسان حاذق بلا شك، وهو يُقدم رؤية حساسة ومنفتحة للأشياء. هل يُبرر له هذا ويغفر -ولو بعض الشيء- حذلقته التي تصل إلى الحط -غير المقصود على الأغلب- من رفيقته؟ إننا -كبشر- نُعلي من قيم الصدق، والأمانة في قول رأينا في الأشياء كما نفكر بها، لكن هل يجب أن يكون ذلك اعتبارنا الأول؟ وأين مكان اللطف من هذا كله؟
تقع علينا جميعا مسؤولية أن نُشعر الآخر بالارتياح (أن نعتني بأنفسنا وبالآخرين)، هذه المسؤولية تعلو على قيمة الصدق -برأيي على الأقل. للأذكياء قدرة على التنمر الفكري، وعليه فإن مسؤوليتهم أكبر تجاه الآخرين. وربما يكون علينا أيضا مراجعة ولعنا بالعباقرة (د.هاوس مثالا) الذين يحطون من كل من يُحيط بهم، وكأن تفوقهم الفكري يشفع لهم عدم اللطف. تُمتعنا مشاهدة هذا النوع من الشخصيات في المسلسلات والأفلام. وأتساءل إن كان هذا الهوس بهم نابع من رغبة في أن نكون في مكانهم. هذا أمر يستحق المراجعة بالتأكيد.