أن تكون إنسانًا يعني أن تكون إنسانًا أعلى
الأربعاء / 2 / رجب / 1444 هـ - 19:05 - الأربعاء 25 يناير 2023 19:05
الإنسان الخارق هو عملية خلق الإنسان ذاتها:
يبدو أن مفهوم «تجاوز الإنسانية» أكثر تبريرًا من مفهوم «ما بعد الإنسانية» حيث تشير كلمة «تجاوز» إلى الحركة في مجال الإنساني وخارج حدوده. في الآن ذاته لا يوجد تناقض جوهري بين النزعة الإنسانية وتجاوز الإنسانية. في الحقيقة الإنسان تحديدًا مفطور على أن يكون أكبر أو أقل من ذاته، كما أنه مفطور على تجاوز حدود ذاته في كلا الاتجاهين. يصف المصطلحان «الإنسانية» و«تجاوز الإنسانية» العلاقة نفسها بين المرء ونفسه التي يكون فيها ذاتًا وموضوعًا. موضوع العلاقة التي يكون فيها الإنسان موضوعًا هو الإنسان المتجاوز للإنسانية، أو بعبارة أكثر شيوعًا: الإنسان الأعلى.
عندما أعلن نيتشه على لسان زرادشت عبودية الإنسان، فإنه أكد بدقة أن خلق الإنسان الأعلى هو عمل الإنسان، وأن الإنسان نفسه ليس سوى جسر ممتد بين القرد والإنسان الأعلى.
«وهكذا تحدث زرادشت للشعب: أنا أعلمكم عن الإنسان الأعلى؛ فالإنسان شيء يجب تجاوزه. ماذا فعلتم لتتجاوزوه؟ لقد خلقت جميع الكائنات حتى الآن شيئًا أسمى منها، فهل تريدون أن تكونوا انحسار هذه الموجة العظيمة وتعودوا إلى حالة الوحش بدلاً من تجاوز الإنسان؟ ما هو القرد بالنسبة للإنسان؟ مثير للسخرية أو الخزي المؤلم. ينطبق الشيء نفسه على الإنسان الأعلى: مثير للسخرية أو الخزي المؤلم».
أخطأ زرادشت في أمر واحد فقط: هل خلقت حقًا الكائنات كلها شيئًا أعلى منها؟ ماذا خلقت الأسماك والثعابين والغزلان؟ ماذا خلقت تحديدًا؟ وحده الإنسان هو القادر على خلق شيء أجمل وأكثر دوامًا منه. الإنسان الأعلى القادم، مهما كانت أفضليته الجسدية والفكرية، هو أيضًا من صنع الإنسان القادر على تجاوز نفسه. الإنسان هو الوحيد القادر على خلق الفن والتكنولوجيا والحضارة، وأخيرًا هو الوحيد القادر على خلق الأشكال الجديدة والمحتملة للحياة والعقل، كما أنه مفطور على تجاوز نفسه، وأن يكون جسرًا مؤديًا إلى هدف أعلى. في العظة النيتشوية عن الإنسان الأعلى لا يوجد في حقيقة الأمر شيء لا يمكن رده إلى خطاب عصر النهضة الشهير لجيوفاني بيكو ميراندولا (1463 -1494) عن كرامة الإنسان:
«قَبل الله الإنسان بوصفه صورة غير محددة بعد، ووضعه في قلب العالم وقال له: «لن نمنحك يا آدم مكانًا محددًا ولا صورة بعينها ولا التزامًا معينًا بحيث تحدد مكانك وشخصيتك وواجبك بحسب رغبتك الخاصة وقرارك. أما بقية الخلائق فتُحدَّد بحسب القوانين الموضوعة. لا تقيدك أي حدود، وستحدِّد صورتك بقرارك الخاص الذي أضعه فيك. يمكنك أن تولد من جديد في كائنات أقل ذكاء، كما يمكنك أن تولد من جديد بحسب مسعى روحك في كائنات إلهية أسمى».
إذا اقتطعنا من بيكو ميراندولا المكون الديني للنزعة الإنسانية سنصل بالضبط إلى الإنسان وفقًا لرؤية نيتشه الذي يشق طريقه صوب الإنسان الأعلى. يقول بيكو ميراندولا: «... يمكنك أن تولد من جديد بحسب مسعى روحك في كائنات إلهية أسمى» ويقول نيتشه: «خلقت جميع الكائنات حتى الآن شيئًا أسمى منها». ينطلق نيتشه إذن من الموضوع الإنساني ذاته، وكل ما في الأمر أنه يتناوله بصورة أقل دقة لأنه يشير إلى كل الكائنات بصورة غير محددة، بينما يقول ميراندولا أن الإنسان هو تحديدًا من يستطيع أن يولد من جديد ويُحوِّل نفسه إلى ما هو أسمى.
لكن في واقع الأمر لم يُزل العنصر الديني لـ «الكرامة الإنسانية» من نيتشه، بل على العكس؛ لقد صار أشد كثافة. وفقًا لبيكو ديلا ميراندولا وضع الله الإنسان في مركز العالم، ككائن أعلى، بينما وفقًا لنيتشه يحاول الإنسان بنفسه أن يصير كائنًا أعلى وأن يتجاوز نفسه ويكتسب سمات الله. يمثِّل ذلك الانقلاب ذاته ذا الطبيعة التجاوزية «الإلهية اللا متناهية»، والتي كانت جزءا لا يتجزأ من الإنسان خلال عصر النهضة، وتكشف الآن عن نفسها بوصفها «فوق بشرية»، وهذا ما يُطلق عليه جيل دولوز في كتابه عن ميشيل فوكو (في فصل «الإنسان وفوق الإنسان») الطية الفائقة.
هكذا يُعبِّر دولوز عن مفهوم فوكو «ما بعد الإنسانية» متضامنًا معه. في التكوين «الكلاسيكي» للقرنين السابع عشر والثامن عشر، في سبينوزا وليبنيز وباسكال الإنسان هو طية أو تجعد على سطح اللانهائي يجب تسويتها من أجل الكشف عن الطبيعة الأبدية الإلهية للإنسان. في التكوين «التاريخي» للقرن التاسع عشر، في كوفييه وداروين وآدم سميث وماركس، يتشكل الإنسان ويكتسب محدودية تاريخية جذرية وفقًا لسياق اللغة والتطور والإنتاج بحسب ظروف المكان والزمان. أخيرًا، في هذا التشكيل المستقبلي، والذي «وفقًا لدولوز»، أنشأ نيتشه نفسه، تبدأ الطية نفسها في التكاثر ويصير الإنسان إنسانًا أعلى دون أن يفقد نهائيته، لكن يبدو كما لو أنه يستنسخ نفسه عدة مرات في أفق «العود الأبدي». يمكننا أن نجد «الطية الفائقة» في الانعكاس الذاتي اللا نهائي للأدب والفن المعاصرين وفي اللوالب المزدوجة للشفرات الجينية وفي التنظيم الذاتي للفوضى والعمليات العشوائية المعقدة الأخرى، كما يمكننا أن نجدها في أنماط الكسيريات اللا نهائية القابلة للقسمة وذاتية التكرار. لم تعد طيات الإنسان ذات طبيعة متجاوزة (لاهوتية) ولا نهائية لكنها لا تزال قابلة للتسوية والكشف عن طبيعة الإنسان الإلهية (كما في القرنين السابع عشر والثامن عشر). لم يعد الإنسان إذن محدودًا تاريخيًا ومنغلقًا على نفسه انغلاقًا تامًا، بل صار أرضيًا عابرًا تمامًا (كما في القرن التاسع عشر). إنها محدودية تتضاعف بشكل غير محدود، وتاريخية تتجاوز نفسها وتسعى جاهدة نحو القوة الفائقة والإنسانية العليا. بحسب دولوز، فإن هذا التكوين الجديد الذي انكشف في القرنين العشرين والحادي والعشرين، لا يُعتبر - بأي حال من الأحوال - أدنى من النوعين السابقين من حيث إمكاناته الإبداعية، بل وربما يتفوق عليهما.
إذا قبلنا هذا الرأي، فمن الواضح أنه لن تكون هناك حاجة للحديث عن نهاية الإنسان، بل عن بداية تكاثره الذاتي في شكل «طيات فائقة» و«إنسانية عليا». أن تكون إنسانًا يعني أن تصير إنسانًا أعلى. يرتقي الإنسان إلى أشد درجات كثافته، ويوسِّع نطاقه في الوجود، ويخلق طبيعة ثانية ذاتية الفاعلية والتفكير. علم الإنسان إذن هو علم يدرس الإنسان المتجاوز لحدود نوعه، كما يدرس التحول البشري في عملية خلق أشكال اصطناعية للحياة والعقل يُحتمل أن تتجاوز النوع البيولوجي المدعو: هومو سابينز.
علم بيئة الإنسان:
حتى وقت قريب، امتلك العلماء تحت تصرفهم شكلا واحدًا طبيعيًا للحياة وشكلا واحدًا للعقل البشري، لم تسمح دراستهما للمرء بالتوصل إلى تعميمات حول طبيعة الحياة والعقل، والسبب تحديدًا هو أن عملية ملاحظتهما لم تكن ممكنة إلا في صورة مفردة، بينما يتطلب التعميم مقارنة أشكال مختلفة من الظاهرة ذاتها. يفحص علم الإنسان الشخص، لا بوصفه من بين أشكال الحياة غير الذكية (النباتات والحيوانات) وحسب، بل يفحصه أيضًا بوصفه واحدًا من أشكال العقل غير البيولوجية وعنصرًا من أكثر النماذج عمومية؛ واحدًا من الكائنات الإنسانية، أو السايبورغ (الكائنات السيبرانية)، الروبوتات.
يكتسب الإنسان تدريجيًا، ضمن هذه الأطر الموسعة، الخصوصية التي اتسمت بها سلالاته الفرعية فقط - الأمم والمجموعات العرقية داخل التكوين البشري. تحدث عملية العولمة، أي توحيد الأمم في التكامل التكنولوجي والاقتصادي والثقافي للجنس البشري، بالتزامن مع تحديد البشرية لنفسها كواحدة من أنواع الكائنات الذكية. يُضيِّق هذا الوجود ضمن سلسلة معنى العنصر وفي الآن نفسه يميزه ويبرزه بوصفه مهمًا بدرجة خاصة. تبدو ظاهرة الإنسان، إذا جاز التعبير، كما لو أنها شكل نحوي، «حالة» لها معنى خاص بها، في حين أنها كانت في وقت سابق ظاهرة غير نسقية، والموضوع والهدف الوحيد للعلوم الإنسانية. الآن نبدأ في اعتبار الإنسان أحد بُنى مجال نو ويمتلك سمات متمايزة إضافية. يُثري علم الإنسان اللغة التي نتحدث بها عن الإنسان ويقدم نموذجًا جديدًا في العلوم الإنسانية: الإنسان في اختلافه عن أشكال العقل الأخرى. هكذا يبرز علم الإنسان من وسط دائرة العلوم الإنسانية التقليدية ويشكل نفسه بوصفه علمًا جديدًا للإنسان.
بمرور الوقت تزداد هيمنة الآلات والتكنولوجيا والكمبيوترات على المجالات التقليدية للتفكير والعمل الإنسانيين (الحساب- التخطيط – الإنتاج - التشييد – تراكم وتبادل المعلومات... إلخ). وفقًا لذلك يُنظر بشكل متزايد إلى الإنسان في عدم قابليته للاختزال في هذه الوظائف البشرية للآلة باعتباره فريدًا وغريبًا ومذهلا، لا يمتص وحسب، بل يتذوق جيدًا، ويتشكل لديه ذوق خاص نبيل كمذاق النبيذ المعتّق. من الضروري تطوير حضارة تقنية متطورة لالتقاط صورة الإنسان في هذا المستوى البيئي: الجسد – اللمس – النظر – الحديث من القلب إلى القلب – الإيمان – الأمل والحب المضبب القديم. يظهر تقريبًا الموقف المنفصل والرافض ذاته تجاه الإنسان في علاقته بالطبيعة داخل حدود علم البيئة، وهي علاقة تبدو من بعيد كما لو أنها تجاه نوع مهدَّد بالانقراض. في الفترة الممتدة بين القرنين: الثامن عشر – العشرين صارت الشعوب البدائية والثقافات القديمة والتقليدية، أي الإنسان، موضوعًا لدراسة الإثنوجرافيا والأنثروبولوجيا الثقافية، موضع اهتمام بيئي ومحط جاذبية إلى جانب الطبيعة البكر. يمتد هذا المنظور إلى المستقبل. تدريجيًا سينتقل الإنسان الحديث أيضًا إلى مجال الاهتمام والرعاية البيئية حيث سيُنظر إلى الحداثة بشكل متزايد بوصفها بيئة تقنية تتساقط منها بقايا مرحلة قديمة من مراحل تطور العقل البشري؛ مرحلة شبه برية ووسيطة بين الطبيعة والثقافة؛ نصف طبيعية ونصف اصطناعية.وفقًا لهذا الوضع الجديد ينشأ علم الإنسان، وهو تخصص ينتمي إلى العلوم الإنسانية، كانتماء علم البيئة إلى العلوم الطبيعية. يدرس علما الفيزياء والكيمياء الطبيعة بصورة معينة، بينما يدرسها علم البيئة من حيث علاقتها المتبادلة بالإنسان الذي يُمثّل جزءًا المكون البشري فيها وأحد أنواع الكائنات العاقلة (الكائنات العضوية العاقلة) جنبًا إلى جنب مع الآليات العقلية التقنية الممكنة. يدرس علم الإنسان أيضًا طرق التفاعلات المتبادلة بين ما هو عضوي وما هو تقني في الإنسان؛ أي أنه يدرس إضفاء الطابع التقني على العضوي وأنسنة التقني. بعد الطبيعة التي سوف تندمج داخل بنية حضارة كوكبية كلية ومتنامية سيُستوعب الإنسان أكثر فأكثر داخل إطار الندرة بوصفه نوعًا حيويًا منغلقًا ومدمجًا في بيئة تقنية أقوى من مثيلتها في الماضي. ربما سوف تندمج وظيفة الإنساني بطريقة مصطنعة بالمجالات المعزولة والمحمية بالطريقة نفسها التي توجد بها الطبيعة البدائية الحالية خلف أسيجة المحميات. سيصير الطبيعي نفسه وظيفة اصطناعية وموضوعًا للحراثة والعناية. سوف تتخذ مثل هذه المزارع أو المحميات أو المتاحف الطبيعية للإنسان أغرب الأشكال مثل جُزر غير محوسبة «لحضارة طبيعية» مهجورة.
يمكننا أن نتخذ مثالا بموضوع ظهر حديثًا في علم الإنسان؛ ألا وهو: المتبقي الإنساني الصغير في عالم الطباعة بالكمبيوتر. اليد التي اعتادت بالفعل الضغط على لوحة المفاتيح ذات الأحرف الجاهزة تشعر فجأة بإنسانيتها مجددًا وتحرك القلم فوق الورقة. في السابق لم يكن يُنظر إلى فعل الكتابة باعتباره بشريًا حيث حمل عبئا وظيفيا يتمثل في نقل المعلومات. في عصر الكمبيوتر تعيد الكتابة، التي تعطي هذه الوظيفة للآلة، اكتشاف شخصيتها الجسدية. تصير الكتابة وطريقة لمس الورقة اتصالا رمزيًا بالمرسل إليه، القارئ المستقبلي، وتصير وحيًا عن الشخصية والاكتشاف الحميم للسمات الحركية للمؤلف. الكتابة أمر «جامح» مقارنة بالطباعة: رقصة طقوسية باليد، نوع من فن الرقص... كما نرى، موضوع الكتابة نفسه موجود منذ مدة طويلة لكن صار للمرة الأولى موضوعًا لعلم الإنسان؛ فيما يتعلق باختفائه على وجه التحديد وظهوره مجددًا، وبوصفه طريقة قديمة للتواصل وإحدى الخصائص اللمسية والإيمائية، وبوصفه ظهورًا جديدًا لما هو إنساني في حضارة بعد إنسانية. ليس من قبيل المصادفة ظهور مثل هذا المصطلح: «توقيع مبلل»؛ أي توقيع تقليدي بالحبر، بعكس التوقيع العادي الإلكتروني أو الرقمي. يعمل إضفاء الطابع التقني على السمات البشرية ونقلها إلى الآلة على تسريع عملية إضفاء الطابع القديم والبيئي على الإنسان نفسه بوصفه كائنًا طبيعيًا.
يكشف علم الإنسان في سياق العلوم الإنسانية في القرنين العشرين والواحد والعشرين عن علاقة جديدة بين التخصصات الرئيسة الثلاثة للدراسات البشرية: الأنثروبولوجية والخاصة بالعلوم الإنسانية والخاصة بعلم الإنسان. يتسق الاختلاف بينها مع العصور الثلاث الرئيسة في تطور الحضارة: عصر ما قبل التاريخ – العصر التاريخي – عصر ما بعد التاريخ.
تدرس الأنثروبولوجيا الإنسان بوصفه نوعًا عضويًا، والتطور الثقافي هو أهم ما يميزه، وتدرسه أيضًا بوصفه فرعًا منفصلا من فروع التطور الطبيعي للمملكة الحيوانية. موضوع الأنثروبولوجيا هو علم وظائف أعضاء العرق والإثنية والأشكال البدائية للاقتصاد والدين، والسمات الجينية والثقافية الخاصة بنوع الهومو سابينز برمته، وانتقال هذه السمات من الطبيعة إلى مجال الثقافة. في الوقت نفسه تدرس الثقافة في أشكالها التركيبية المبكرة وغير المتمايزة، وفي علاقتها بالطبيعة وفي تناقضها معها، وليس في الانقسامات الداخلية اللاحقة تاريخيًا.
تدرس العلوم الإنسانية الإنسان باعتباره موضوعًا مستقلا ومبدعًا ومديرًا للكون الثقافي والدلالي برمته. تتعامل هذه العلوم مع مجالات مختلفة لثقافة متطورة ومتباينة وجهود إبداعية هادفة للشخص: الفلسفة والأخلاق واللغة والأدب والفن والتاريخ وعلم النفس. من هنا جاء اصطلاح العلوم الإنسانية في صيغة الجمع: «الإنسانيات» حيث يشير إلى انفصال وتنوع السمات الإنسانية.
يدرس علم الإنسان الإنسانَ بوصفه جزءًا من المجال التكنولوجي الذي أنشأه البشر لكنه يكتنفهم ويذيبهم في نفسه تدريجيًا. يظهر الإنسان بوصفه خالقًا، ليس فقط للبيئة الثقافية، ولكن أيضًا لأشكال العقل ذاتية الفعل حيث يصير هو نفسه واحدًا من إبداعاتها. إذا كانت الأنثروبولوجيا تدرس الخصائص المحددة للإنسان وسط الكائنات الحية الأخرى (الحيوانات وخاصة الرئيسات العليا - أسلاف الإنسان)، فإن علم الإنسان يدرس الخصائص المحددة للإنسان بين الكائنات المفكرة والآلات الذكية والكائنات التقنية (أشباه البشر، الروبوتات، الإنسان الآلي).
هكذا يبدو علم الإنسان كانعكاس المرآة للأنثروبولوجيا؛ فكلا المجالين يتعاملان مع حدود البيئة الطبيعية والتقنية. موضوع الأنثروبولوجيا هو الإنسانية التي نبتت من الطبيعة، بينما موضوع علم الإنسان هو الإنسانية النامية في كنف التكنولوجيا التي تخلقها بنفسها.
يتعامل علم الإنسان مع الإنسان من حيث تكامله أو تناقضه مع الآلة. يدرس علم الإنسان ما يبقى إنسانًا في الإنسان بعد أن تستولي آلة التفكير على وظائفه العقلانية، وما يحدث للآلة عندما تصير أكثر ذكاءً وإنسانية. علم الإنسان إذن هو علم بيئة الإنسان ولكنه في الآن ذاته أنثروبولوجيا الآلة، أي علم إعادة التوزيع المتبادل لوظائفها وإضفاء الطابع التقني على الإنسان وأنسنة التكنولوجيا. صار لكلمة «إنسان» مرجعية جديدة: آلة. في السابق كان من السخف تطبيق مقياس ومفهوم شخص ما على أجهزة مثل المحرك البخاري أو الرافعة أو التلسكوب طالما تحاكي وتعزز الوظائف الفردية لجسم الإنسان (اليد والعين وما إلى ذلك). لكن صارت آلة التفكير التي تبدأ في تعلم إحدى الوظائف الرئيسة للدماغ؛ الحساب، تستحق بالفعل أن تُدعى بشرية، حتى لو كانت لا تبدو ظاهريًا إنسانًا.
هكذا ينشأ علم الإنسان نتيجة لانتقال الشخص إلى مرحلة جديدة وتطورية نشطة ومصطنعة وتقنية. يذهب الشخص إلى الماضي باعتباره نوعًا حيويًا وينتقل إلى المستقبل باعتباره نوعًا تقنيًا وشكلًا للفكر وكائنًا إلكترونيًا (سايبورغ)، وخيالًا وراثيًا أو تكنولوجيًا حرًا. يتضح أن موضوع علم الإنسان هو الإنساني الباقي خارج مجال الآلة والإنساني المندمج في الآلة.
تعكس الوحدة المزدوجة لعلم الإنسان ثنائية توجه تطور الإنسان نفسه بوصفه خليقة طبيعية ومبدعًا لطبيعة صناعية (طبيعة ثقافية تقنية). يبدو الإنسان خليقة طبيعية من الناحية البيئية وفي الآن نفسه يبدو مخترعًا لأشكال اصطناعية مستقلة من العقل، كما يبدو مصير الإنسان في ظل هذه التحولات الجذرية بمثابة شوكة واقعة بين المأوى البيولوجي والكون التقني.
يترتب على ذلك ظهور اتجاهين في علم الإنسان:
- علم الإنسان البيئي وهو علم يدرس الإنسان بوصفه ابنًا لبيئة طبيعية محافظة، وكيانًا معذَّبًا وعابرًا وغير كامل جسديًا، موهوبًا إبداعيًا وجريئًا من الناحية الثقافية؛ أي أنه علم يدرس خصوصية الإنسان غير القابلة للاختزال في آلة.
- علم الإنسان التقني، وهو علم يدرس وظائف الإنسان المنتقلة إلى الآلة والمدموجة في كائنات تقنية جديدة قادرة على اختبار مزيد من التطوير المستقل، كما أنها أقل اعتمادية على أسلافها من البشر العاقلين.
ميخائيل إيبشتاين فيلسوف وعالم لغوي روسي وأمريكي، وناقد أدبي. أستاذ النظرية الثقافية والأدب الروسي في جامعة إيموري (أتلانتا – الولايات المتحدة الأمريكية) - أستاذ الأدب الروسي والنظرية الثقافية ورئيس مركز ابتكار العلوم الإنسانية في جامعة دورهام (المملكة المتحدة) (2012-2015).
المقال أعلاه فصل مترجم عن الروسية من كتاب «مستقبل العلوم الإنسانية»، الصادر عن دار«ريبول كلاسيك» والمتضمن مجموعة من المحاضرات عن أزمة وتجديد العلوم الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.
يبدو أن مفهوم «تجاوز الإنسانية» أكثر تبريرًا من مفهوم «ما بعد الإنسانية» حيث تشير كلمة «تجاوز» إلى الحركة في مجال الإنساني وخارج حدوده. في الآن ذاته لا يوجد تناقض جوهري بين النزعة الإنسانية وتجاوز الإنسانية. في الحقيقة الإنسان تحديدًا مفطور على أن يكون أكبر أو أقل من ذاته، كما أنه مفطور على تجاوز حدود ذاته في كلا الاتجاهين. يصف المصطلحان «الإنسانية» و«تجاوز الإنسانية» العلاقة نفسها بين المرء ونفسه التي يكون فيها ذاتًا وموضوعًا. موضوع العلاقة التي يكون فيها الإنسان موضوعًا هو الإنسان المتجاوز للإنسانية، أو بعبارة أكثر شيوعًا: الإنسان الأعلى.
عندما أعلن نيتشه على لسان زرادشت عبودية الإنسان، فإنه أكد بدقة أن خلق الإنسان الأعلى هو عمل الإنسان، وأن الإنسان نفسه ليس سوى جسر ممتد بين القرد والإنسان الأعلى.
«وهكذا تحدث زرادشت للشعب: أنا أعلمكم عن الإنسان الأعلى؛ فالإنسان شيء يجب تجاوزه. ماذا فعلتم لتتجاوزوه؟ لقد خلقت جميع الكائنات حتى الآن شيئًا أسمى منها، فهل تريدون أن تكونوا انحسار هذه الموجة العظيمة وتعودوا إلى حالة الوحش بدلاً من تجاوز الإنسان؟ ما هو القرد بالنسبة للإنسان؟ مثير للسخرية أو الخزي المؤلم. ينطبق الشيء نفسه على الإنسان الأعلى: مثير للسخرية أو الخزي المؤلم».
أخطأ زرادشت في أمر واحد فقط: هل خلقت حقًا الكائنات كلها شيئًا أعلى منها؟ ماذا خلقت الأسماك والثعابين والغزلان؟ ماذا خلقت تحديدًا؟ وحده الإنسان هو القادر على خلق شيء أجمل وأكثر دوامًا منه. الإنسان الأعلى القادم، مهما كانت أفضليته الجسدية والفكرية، هو أيضًا من صنع الإنسان القادر على تجاوز نفسه. الإنسان هو الوحيد القادر على خلق الفن والتكنولوجيا والحضارة، وأخيرًا هو الوحيد القادر على خلق الأشكال الجديدة والمحتملة للحياة والعقل، كما أنه مفطور على تجاوز نفسه، وأن يكون جسرًا مؤديًا إلى هدف أعلى. في العظة النيتشوية عن الإنسان الأعلى لا يوجد في حقيقة الأمر شيء لا يمكن رده إلى خطاب عصر النهضة الشهير لجيوفاني بيكو ميراندولا (1463 -1494) عن كرامة الإنسان:
«قَبل الله الإنسان بوصفه صورة غير محددة بعد، ووضعه في قلب العالم وقال له: «لن نمنحك يا آدم مكانًا محددًا ولا صورة بعينها ولا التزامًا معينًا بحيث تحدد مكانك وشخصيتك وواجبك بحسب رغبتك الخاصة وقرارك. أما بقية الخلائق فتُحدَّد بحسب القوانين الموضوعة. لا تقيدك أي حدود، وستحدِّد صورتك بقرارك الخاص الذي أضعه فيك. يمكنك أن تولد من جديد في كائنات أقل ذكاء، كما يمكنك أن تولد من جديد بحسب مسعى روحك في كائنات إلهية أسمى».
إذا اقتطعنا من بيكو ميراندولا المكون الديني للنزعة الإنسانية سنصل بالضبط إلى الإنسان وفقًا لرؤية نيتشه الذي يشق طريقه صوب الإنسان الأعلى. يقول بيكو ميراندولا: «... يمكنك أن تولد من جديد بحسب مسعى روحك في كائنات إلهية أسمى» ويقول نيتشه: «خلقت جميع الكائنات حتى الآن شيئًا أسمى منها». ينطلق نيتشه إذن من الموضوع الإنساني ذاته، وكل ما في الأمر أنه يتناوله بصورة أقل دقة لأنه يشير إلى كل الكائنات بصورة غير محددة، بينما يقول ميراندولا أن الإنسان هو تحديدًا من يستطيع أن يولد من جديد ويُحوِّل نفسه إلى ما هو أسمى.
لكن في واقع الأمر لم يُزل العنصر الديني لـ «الكرامة الإنسانية» من نيتشه، بل على العكس؛ لقد صار أشد كثافة. وفقًا لبيكو ديلا ميراندولا وضع الله الإنسان في مركز العالم، ككائن أعلى، بينما وفقًا لنيتشه يحاول الإنسان بنفسه أن يصير كائنًا أعلى وأن يتجاوز نفسه ويكتسب سمات الله. يمثِّل ذلك الانقلاب ذاته ذا الطبيعة التجاوزية «الإلهية اللا متناهية»، والتي كانت جزءا لا يتجزأ من الإنسان خلال عصر النهضة، وتكشف الآن عن نفسها بوصفها «فوق بشرية»، وهذا ما يُطلق عليه جيل دولوز في كتابه عن ميشيل فوكو (في فصل «الإنسان وفوق الإنسان») الطية الفائقة.
هكذا يُعبِّر دولوز عن مفهوم فوكو «ما بعد الإنسانية» متضامنًا معه. في التكوين «الكلاسيكي» للقرنين السابع عشر والثامن عشر، في سبينوزا وليبنيز وباسكال الإنسان هو طية أو تجعد على سطح اللانهائي يجب تسويتها من أجل الكشف عن الطبيعة الأبدية الإلهية للإنسان. في التكوين «التاريخي» للقرن التاسع عشر، في كوفييه وداروين وآدم سميث وماركس، يتشكل الإنسان ويكتسب محدودية تاريخية جذرية وفقًا لسياق اللغة والتطور والإنتاج بحسب ظروف المكان والزمان. أخيرًا، في هذا التشكيل المستقبلي، والذي «وفقًا لدولوز»، أنشأ نيتشه نفسه، تبدأ الطية نفسها في التكاثر ويصير الإنسان إنسانًا أعلى دون أن يفقد نهائيته، لكن يبدو كما لو أنه يستنسخ نفسه عدة مرات في أفق «العود الأبدي». يمكننا أن نجد «الطية الفائقة» في الانعكاس الذاتي اللا نهائي للأدب والفن المعاصرين وفي اللوالب المزدوجة للشفرات الجينية وفي التنظيم الذاتي للفوضى والعمليات العشوائية المعقدة الأخرى، كما يمكننا أن نجدها في أنماط الكسيريات اللا نهائية القابلة للقسمة وذاتية التكرار. لم تعد طيات الإنسان ذات طبيعة متجاوزة (لاهوتية) ولا نهائية لكنها لا تزال قابلة للتسوية والكشف عن طبيعة الإنسان الإلهية (كما في القرنين السابع عشر والثامن عشر). لم يعد الإنسان إذن محدودًا تاريخيًا ومنغلقًا على نفسه انغلاقًا تامًا، بل صار أرضيًا عابرًا تمامًا (كما في القرن التاسع عشر). إنها محدودية تتضاعف بشكل غير محدود، وتاريخية تتجاوز نفسها وتسعى جاهدة نحو القوة الفائقة والإنسانية العليا. بحسب دولوز، فإن هذا التكوين الجديد الذي انكشف في القرنين العشرين والحادي والعشرين، لا يُعتبر - بأي حال من الأحوال - أدنى من النوعين السابقين من حيث إمكاناته الإبداعية، بل وربما يتفوق عليهما.
إذا قبلنا هذا الرأي، فمن الواضح أنه لن تكون هناك حاجة للحديث عن نهاية الإنسان، بل عن بداية تكاثره الذاتي في شكل «طيات فائقة» و«إنسانية عليا». أن تكون إنسانًا يعني أن تصير إنسانًا أعلى. يرتقي الإنسان إلى أشد درجات كثافته، ويوسِّع نطاقه في الوجود، ويخلق طبيعة ثانية ذاتية الفاعلية والتفكير. علم الإنسان إذن هو علم يدرس الإنسان المتجاوز لحدود نوعه، كما يدرس التحول البشري في عملية خلق أشكال اصطناعية للحياة والعقل يُحتمل أن تتجاوز النوع البيولوجي المدعو: هومو سابينز.
علم بيئة الإنسان:
حتى وقت قريب، امتلك العلماء تحت تصرفهم شكلا واحدًا طبيعيًا للحياة وشكلا واحدًا للعقل البشري، لم تسمح دراستهما للمرء بالتوصل إلى تعميمات حول طبيعة الحياة والعقل، والسبب تحديدًا هو أن عملية ملاحظتهما لم تكن ممكنة إلا في صورة مفردة، بينما يتطلب التعميم مقارنة أشكال مختلفة من الظاهرة ذاتها. يفحص علم الإنسان الشخص، لا بوصفه من بين أشكال الحياة غير الذكية (النباتات والحيوانات) وحسب، بل يفحصه أيضًا بوصفه واحدًا من أشكال العقل غير البيولوجية وعنصرًا من أكثر النماذج عمومية؛ واحدًا من الكائنات الإنسانية، أو السايبورغ (الكائنات السيبرانية)، الروبوتات.
يكتسب الإنسان تدريجيًا، ضمن هذه الأطر الموسعة، الخصوصية التي اتسمت بها سلالاته الفرعية فقط - الأمم والمجموعات العرقية داخل التكوين البشري. تحدث عملية العولمة، أي توحيد الأمم في التكامل التكنولوجي والاقتصادي والثقافي للجنس البشري، بالتزامن مع تحديد البشرية لنفسها كواحدة من أنواع الكائنات الذكية. يُضيِّق هذا الوجود ضمن سلسلة معنى العنصر وفي الآن نفسه يميزه ويبرزه بوصفه مهمًا بدرجة خاصة. تبدو ظاهرة الإنسان، إذا جاز التعبير، كما لو أنها شكل نحوي، «حالة» لها معنى خاص بها، في حين أنها كانت في وقت سابق ظاهرة غير نسقية، والموضوع والهدف الوحيد للعلوم الإنسانية. الآن نبدأ في اعتبار الإنسان أحد بُنى مجال نو ويمتلك سمات متمايزة إضافية. يُثري علم الإنسان اللغة التي نتحدث بها عن الإنسان ويقدم نموذجًا جديدًا في العلوم الإنسانية: الإنسان في اختلافه عن أشكال العقل الأخرى. هكذا يبرز علم الإنسان من وسط دائرة العلوم الإنسانية التقليدية ويشكل نفسه بوصفه علمًا جديدًا للإنسان.
بمرور الوقت تزداد هيمنة الآلات والتكنولوجيا والكمبيوترات على المجالات التقليدية للتفكير والعمل الإنسانيين (الحساب- التخطيط – الإنتاج - التشييد – تراكم وتبادل المعلومات... إلخ). وفقًا لذلك يُنظر بشكل متزايد إلى الإنسان في عدم قابليته للاختزال في هذه الوظائف البشرية للآلة باعتباره فريدًا وغريبًا ومذهلا، لا يمتص وحسب، بل يتذوق جيدًا، ويتشكل لديه ذوق خاص نبيل كمذاق النبيذ المعتّق. من الضروري تطوير حضارة تقنية متطورة لالتقاط صورة الإنسان في هذا المستوى البيئي: الجسد – اللمس – النظر – الحديث من القلب إلى القلب – الإيمان – الأمل والحب المضبب القديم. يظهر تقريبًا الموقف المنفصل والرافض ذاته تجاه الإنسان في علاقته بالطبيعة داخل حدود علم البيئة، وهي علاقة تبدو من بعيد كما لو أنها تجاه نوع مهدَّد بالانقراض. في الفترة الممتدة بين القرنين: الثامن عشر – العشرين صارت الشعوب البدائية والثقافات القديمة والتقليدية، أي الإنسان، موضوعًا لدراسة الإثنوجرافيا والأنثروبولوجيا الثقافية، موضع اهتمام بيئي ومحط جاذبية إلى جانب الطبيعة البكر. يمتد هذا المنظور إلى المستقبل. تدريجيًا سينتقل الإنسان الحديث أيضًا إلى مجال الاهتمام والرعاية البيئية حيث سيُنظر إلى الحداثة بشكل متزايد بوصفها بيئة تقنية تتساقط منها بقايا مرحلة قديمة من مراحل تطور العقل البشري؛ مرحلة شبه برية ووسيطة بين الطبيعة والثقافة؛ نصف طبيعية ونصف اصطناعية.وفقًا لهذا الوضع الجديد ينشأ علم الإنسان، وهو تخصص ينتمي إلى العلوم الإنسانية، كانتماء علم البيئة إلى العلوم الطبيعية. يدرس علما الفيزياء والكيمياء الطبيعة بصورة معينة، بينما يدرسها علم البيئة من حيث علاقتها المتبادلة بالإنسان الذي يُمثّل جزءًا المكون البشري فيها وأحد أنواع الكائنات العاقلة (الكائنات العضوية العاقلة) جنبًا إلى جنب مع الآليات العقلية التقنية الممكنة. يدرس علم الإنسان أيضًا طرق التفاعلات المتبادلة بين ما هو عضوي وما هو تقني في الإنسان؛ أي أنه يدرس إضفاء الطابع التقني على العضوي وأنسنة التقني. بعد الطبيعة التي سوف تندمج داخل بنية حضارة كوكبية كلية ومتنامية سيُستوعب الإنسان أكثر فأكثر داخل إطار الندرة بوصفه نوعًا حيويًا منغلقًا ومدمجًا في بيئة تقنية أقوى من مثيلتها في الماضي. ربما سوف تندمج وظيفة الإنساني بطريقة مصطنعة بالمجالات المعزولة والمحمية بالطريقة نفسها التي توجد بها الطبيعة البدائية الحالية خلف أسيجة المحميات. سيصير الطبيعي نفسه وظيفة اصطناعية وموضوعًا للحراثة والعناية. سوف تتخذ مثل هذه المزارع أو المحميات أو المتاحف الطبيعية للإنسان أغرب الأشكال مثل جُزر غير محوسبة «لحضارة طبيعية» مهجورة.
يمكننا أن نتخذ مثالا بموضوع ظهر حديثًا في علم الإنسان؛ ألا وهو: المتبقي الإنساني الصغير في عالم الطباعة بالكمبيوتر. اليد التي اعتادت بالفعل الضغط على لوحة المفاتيح ذات الأحرف الجاهزة تشعر فجأة بإنسانيتها مجددًا وتحرك القلم فوق الورقة. في السابق لم يكن يُنظر إلى فعل الكتابة باعتباره بشريًا حيث حمل عبئا وظيفيا يتمثل في نقل المعلومات. في عصر الكمبيوتر تعيد الكتابة، التي تعطي هذه الوظيفة للآلة، اكتشاف شخصيتها الجسدية. تصير الكتابة وطريقة لمس الورقة اتصالا رمزيًا بالمرسل إليه، القارئ المستقبلي، وتصير وحيًا عن الشخصية والاكتشاف الحميم للسمات الحركية للمؤلف. الكتابة أمر «جامح» مقارنة بالطباعة: رقصة طقوسية باليد، نوع من فن الرقص... كما نرى، موضوع الكتابة نفسه موجود منذ مدة طويلة لكن صار للمرة الأولى موضوعًا لعلم الإنسان؛ فيما يتعلق باختفائه على وجه التحديد وظهوره مجددًا، وبوصفه طريقة قديمة للتواصل وإحدى الخصائص اللمسية والإيمائية، وبوصفه ظهورًا جديدًا لما هو إنساني في حضارة بعد إنسانية. ليس من قبيل المصادفة ظهور مثل هذا المصطلح: «توقيع مبلل»؛ أي توقيع تقليدي بالحبر، بعكس التوقيع العادي الإلكتروني أو الرقمي. يعمل إضفاء الطابع التقني على السمات البشرية ونقلها إلى الآلة على تسريع عملية إضفاء الطابع القديم والبيئي على الإنسان نفسه بوصفه كائنًا طبيعيًا.
يكشف علم الإنسان في سياق العلوم الإنسانية في القرنين العشرين والواحد والعشرين عن علاقة جديدة بين التخصصات الرئيسة الثلاثة للدراسات البشرية: الأنثروبولوجية والخاصة بالعلوم الإنسانية والخاصة بعلم الإنسان. يتسق الاختلاف بينها مع العصور الثلاث الرئيسة في تطور الحضارة: عصر ما قبل التاريخ – العصر التاريخي – عصر ما بعد التاريخ.
تدرس الأنثروبولوجيا الإنسان بوصفه نوعًا عضويًا، والتطور الثقافي هو أهم ما يميزه، وتدرسه أيضًا بوصفه فرعًا منفصلا من فروع التطور الطبيعي للمملكة الحيوانية. موضوع الأنثروبولوجيا هو علم وظائف أعضاء العرق والإثنية والأشكال البدائية للاقتصاد والدين، والسمات الجينية والثقافية الخاصة بنوع الهومو سابينز برمته، وانتقال هذه السمات من الطبيعة إلى مجال الثقافة. في الوقت نفسه تدرس الثقافة في أشكالها التركيبية المبكرة وغير المتمايزة، وفي علاقتها بالطبيعة وفي تناقضها معها، وليس في الانقسامات الداخلية اللاحقة تاريخيًا.
تدرس العلوم الإنسانية الإنسان باعتباره موضوعًا مستقلا ومبدعًا ومديرًا للكون الثقافي والدلالي برمته. تتعامل هذه العلوم مع مجالات مختلفة لثقافة متطورة ومتباينة وجهود إبداعية هادفة للشخص: الفلسفة والأخلاق واللغة والأدب والفن والتاريخ وعلم النفس. من هنا جاء اصطلاح العلوم الإنسانية في صيغة الجمع: «الإنسانيات» حيث يشير إلى انفصال وتنوع السمات الإنسانية.
يدرس علم الإنسان الإنسانَ بوصفه جزءًا من المجال التكنولوجي الذي أنشأه البشر لكنه يكتنفهم ويذيبهم في نفسه تدريجيًا. يظهر الإنسان بوصفه خالقًا، ليس فقط للبيئة الثقافية، ولكن أيضًا لأشكال العقل ذاتية الفعل حيث يصير هو نفسه واحدًا من إبداعاتها. إذا كانت الأنثروبولوجيا تدرس الخصائص المحددة للإنسان وسط الكائنات الحية الأخرى (الحيوانات وخاصة الرئيسات العليا - أسلاف الإنسان)، فإن علم الإنسان يدرس الخصائص المحددة للإنسان بين الكائنات المفكرة والآلات الذكية والكائنات التقنية (أشباه البشر، الروبوتات، الإنسان الآلي).
هكذا يبدو علم الإنسان كانعكاس المرآة للأنثروبولوجيا؛ فكلا المجالين يتعاملان مع حدود البيئة الطبيعية والتقنية. موضوع الأنثروبولوجيا هو الإنسانية التي نبتت من الطبيعة، بينما موضوع علم الإنسان هو الإنسانية النامية في كنف التكنولوجيا التي تخلقها بنفسها.
يتعامل علم الإنسان مع الإنسان من حيث تكامله أو تناقضه مع الآلة. يدرس علم الإنسان ما يبقى إنسانًا في الإنسان بعد أن تستولي آلة التفكير على وظائفه العقلانية، وما يحدث للآلة عندما تصير أكثر ذكاءً وإنسانية. علم الإنسان إذن هو علم بيئة الإنسان ولكنه في الآن ذاته أنثروبولوجيا الآلة، أي علم إعادة التوزيع المتبادل لوظائفها وإضفاء الطابع التقني على الإنسان وأنسنة التكنولوجيا. صار لكلمة «إنسان» مرجعية جديدة: آلة. في السابق كان من السخف تطبيق مقياس ومفهوم شخص ما على أجهزة مثل المحرك البخاري أو الرافعة أو التلسكوب طالما تحاكي وتعزز الوظائف الفردية لجسم الإنسان (اليد والعين وما إلى ذلك). لكن صارت آلة التفكير التي تبدأ في تعلم إحدى الوظائف الرئيسة للدماغ؛ الحساب، تستحق بالفعل أن تُدعى بشرية، حتى لو كانت لا تبدو ظاهريًا إنسانًا.
هكذا ينشأ علم الإنسان نتيجة لانتقال الشخص إلى مرحلة جديدة وتطورية نشطة ومصطنعة وتقنية. يذهب الشخص إلى الماضي باعتباره نوعًا حيويًا وينتقل إلى المستقبل باعتباره نوعًا تقنيًا وشكلًا للفكر وكائنًا إلكترونيًا (سايبورغ)، وخيالًا وراثيًا أو تكنولوجيًا حرًا. يتضح أن موضوع علم الإنسان هو الإنساني الباقي خارج مجال الآلة والإنساني المندمج في الآلة.
تعكس الوحدة المزدوجة لعلم الإنسان ثنائية توجه تطور الإنسان نفسه بوصفه خليقة طبيعية ومبدعًا لطبيعة صناعية (طبيعة ثقافية تقنية). يبدو الإنسان خليقة طبيعية من الناحية البيئية وفي الآن نفسه يبدو مخترعًا لأشكال اصطناعية مستقلة من العقل، كما يبدو مصير الإنسان في ظل هذه التحولات الجذرية بمثابة شوكة واقعة بين المأوى البيولوجي والكون التقني.
يترتب على ذلك ظهور اتجاهين في علم الإنسان:
- علم الإنسان البيئي وهو علم يدرس الإنسان بوصفه ابنًا لبيئة طبيعية محافظة، وكيانًا معذَّبًا وعابرًا وغير كامل جسديًا، موهوبًا إبداعيًا وجريئًا من الناحية الثقافية؛ أي أنه علم يدرس خصوصية الإنسان غير القابلة للاختزال في آلة.
- علم الإنسان التقني، وهو علم يدرس وظائف الإنسان المنتقلة إلى الآلة والمدموجة في كائنات تقنية جديدة قادرة على اختبار مزيد من التطوير المستقل، كما أنها أقل اعتمادية على أسلافها من البشر العاقلين.
ميخائيل إيبشتاين فيلسوف وعالم لغوي روسي وأمريكي، وناقد أدبي. أستاذ النظرية الثقافية والأدب الروسي في جامعة إيموري (أتلانتا – الولايات المتحدة الأمريكية) - أستاذ الأدب الروسي والنظرية الثقافية ورئيس مركز ابتكار العلوم الإنسانية في جامعة دورهام (المملكة المتحدة) (2012-2015).
المقال أعلاه فصل مترجم عن الروسية من كتاب «مستقبل العلوم الإنسانية»، الصادر عن دار«ريبول كلاسيك» والمتضمن مجموعة من المحاضرات عن أزمة وتجديد العلوم الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.