أعمدة

روزنامة التفكير.. تغيير ذو معنى

 
اعتاد الناس على المنظومة، فمهما بدا التغيير وشيكا إلا أنه يظل في حدود التوقعات، وإن كانت تلك على أقصى حدودها البعيدة جدا والتي أوشكت على الانفصال عن الواقع والتشبّث بعالم الفانتازيا والخيال الذي يصلح كسيناريو لفيلم سينمائي يهدف لحصد أعلى نسبة مشاهدة، وأن يحصد النجوم الخمس جميعها، حسب تقييمات المشاهدين والنقّاد.

ولذلك مهما بدا التغيير جذريا أو طارئا؛ إلا أنه يسير وفق منظومة تتابعيّة، يسير معها الزمان من حولنا فيأخذنا معه، وإن كان بدون الدخول في معترك تفاصيله، بل إنه كافيا أن تهزّ رأسك بالإيجاب، وبأنك قبلت ومتعايش مع ذلك التغيير، طالما أنه يسير وفق قوانين الكون التي جُبِلت عليها الحياة، لكن..أن يسير التغيير معاكسا لقوانين الجاذبية الأرضية، التي تحفظ النظام من حولنا ويسير عليها، فإن ذلك هو ما سيسحب البساط عن البشريّة التي اعتادت على أن تسير وفق نظام يحكم كل شيء، وتنتظم من حوله الأشياء، بداية من قانون الجاذبية الأرضية، إلى قوانين المحاكم الدولية إلى رئاسات الدول ومن ثم قيادات التنظيمات باختلاف تحيّزاتها وتتعدد مسمياتها، فكل شيء يسير وفق نظام متتابع وان تسارع إلا أنه يظل وفق نظام كوني يحفظ الحياة.

خطوات متتابعة توصلنا نحو التغيير وان اتسعت الخطوة، أو تحوّلت إلى قفزة أو حتى محاولة للطيران، إلا أنها تظل داخل نطاق الجيل الحالي، وان حدث أن ابتعدت المسافة اكثر فلا بأس من أن يطمئن الجيل الجديد أكثر من الجيل السابق، وأن كل شيء يسير وفق السيطرة، وحسب التطوّر المتنامي الذي طال منذ البداية كل شيء، إلا أن كل خطوة تطمئن سابقتها بأنها لم تتكئ إلا عليها، وكل قفزة ما حدثت تقنيا إلا بتبادل النقلات بين القدمين، وبأمر من إحداهما لذا فلا شيء يرعب حقا في أمر التغيير، وإن حدث له بعض الرفض بادئ الأمر، إلا أن كل شيء يكون حسب سيطرة قوانين الجاذبية الأرضية، إلا أن المربك الآن في أمر التغيير هو تقارب الماضي بالمستقبل، فأصبح أصحاب الجيل الواحد قد يصطدمون بتغيّرات، قد قطعت شوطا كبيرا يفوق مجاراتها، ويصعب فهمها وتقبّلها.

هنا يكمن الخوف ويتبدّى بأبشع أشكاله، فتكون هناك الفئة التي تقود التغيير هي التي ستقود العالم، ومن يقلّب صفحات التغيير هو من سيقود العالم، وبقياس ذلك على مرتبتك الإبداعية، ولتكون الأول في مجالك وقائدا ومعلّما لمدرسة أنت منشئها؛ عليك أن تنتقل عبر رياح التغيير، والتي قد لا تسير بسرعة واحدة، وربما سيتغيّر اتجاهها مرة بعد مرة، وفي أحيان كثيرة ستفاجئك بعصفها وهيجانها في أعاصير ودوامات لولبية، أو قد تقتلع ما يقف في طريقها وتكسر ما استعصت طواعيته تجاهها، إلا أنك ستكون القائد الأول في مجالك، والمدرسة لمن هم في ذات اختصاصك، وان كان ذلك على نحو أبسط مما تتخيّل، بداية من لبنات الحياة البسيطة، كالبيت والمزرعة مرورا بالمؤسسات والشركات العملاقة، إلى مؤسسات القيادة العالمية الأولى في مختلف مجالاتها، فيكون الأول هو من يتحرّك في دولاب التغيير، تأخذه المسارات إلى حيث تشاء هي تارة، ويقودها أحيان كثيرة إلى حيث يريد هو، وفق مسار تخيّلي رسمه مسبقا في ذهنه.

وعبر الأزمان لم تندثر تلك الأشياء البائدة، إلا لأنها لم تدخل معترك التاريخ مع ظهور بوادر شك في ذلك المبدأ القائل: لا شيء ينتهي البتّة، بل انه يتحوّل إلى أشياء أخرى، بدءا من قانون الطاقة الذي ينص على أن ' الطاقة لا تفنى بل إنها تتحوّل إلى طاقة أخرى '، إلى ذلك التصور الذي داعب عقول الأطفال بالدهشة، يوم أن عرفوا واستمعوا إلى فرضية أن الديناصورات لم تنقرض حقا، وأنها لم تكن يوما من الحيوانات البائدة، بل إنها تحولت إلى طيور وسحالٍ كل حسب فصيلتها، والكتابة على الكهوف لم تنته، بل تطورت إلى جداريّات فنّية، بطول أشهر الشوارع وأطول الأنفاق، وعلى ألواح نقش عليها من القوانين ما أبدى استغرابك.

وبتتبعك لذلك وبما يختص مجالك الإبداعي؛ فإنك لست بحاجة إلى أن تأخذك رياح التغيير معها؛ بل أن تقود التغيير في حد ذاته، فليس كل تغيير يكون في صالحك، وليست كل الابتكارات يعترف بها، ويتم استخدامها على الدوام، بل عليك أن تقود رياح التغيير بنفسك، عبر سلسلة من التحوّلات، وفي رحلة مشوبة بعدم الثبات والاستقرار، ومحفوفة بالمطبّات والصعوبات.

هذا هو درب الإبداع، حتى أن النجاح والفشل ليسا مرحلتين منفصلتين عن بعضهما، تعيش إحداها ثم تنتقل للأخرى، أي بمعنى أصح ليست كل منهما مرحلة ستجتازها لبلوغ الأخرى، وليس الفشل عتبة باب للنجاح، وليس كل نجاح معرّض وبشدة لأن يسلك طريق الفشل، بل إن الأمر ليس كما يبدو إطلاقا، وما أعرفه على وجه الدقة أن النجاح والفشل وجهان لعملة واحدة، هي عملة التغيير ورحلتك الإبداعية، فما دمت دخلت مرحلة جديدة، وخضت غمار تجربة لا عهد لك بها سابقا، أو أنك صممت ابتكارا أو طرحت فكرة فذّة خارج المألوف، فإن كل ذلك لا يمكن وصمه بصفة النجاح وبنسبة كاملة، أو الفشل الكامل الذريع، بل إنها كتجربة جديدة ستحمل من الصفتين معا، ولك الخيار فيما تنظر إليه وتلتفت له وتضعه في اعتبارك، هل انت فشلت أم نجحت؟

لكن هذا الأمر لا يعطيك الضوء الأخضر، لأن تنقاد طوعا إلى التغيير المحض، غير آبه بمنظومة التغيير التي تقودك إلى النجاح والتميّز في مجالك الإبداعي، فرغم أن المجالات تتسع للجميع والأفكار من الممكن أن تبتكرها وتستنبطها من أبسط الأشياء من حولك، إلا أن إحكام قبضتك على التغيير، وفهمك لماهيته هي الخطوة الأولى والأهم قبل الإقلاع عن رحلتك نحو سلسلة من التغيرات والتبدّلات والمراحل التي تنوي اجتيازها.

فما أن يصادفك لفظ التغيير حتى يوحي لك ذلك بمعنى دولاب دوّار من الحركة المستمرة، أو أنها مراحل انتقالية تنتقل بينها وكأنها تقلّب صفحات كتاب.

لكن ..هل يكفي أن يكون ذلك التغيير- كونه أهم سمات العملية الإبداعية أو أنه جوهرها- فقط سلسلة من التبدّلات، ماذا لو كانت تبدّلات على نحو عكسي؟ ماذا لو كنت تقلّب صفحات الكتاب من اليسار؟ فهذا أيضا تغيير لكنّه بعيد كل البعد عن ذلك التغيير الذي نسعى إليه في رحلتنا الإبداعية، حسنا..سيكون ردّك تجاه الأمر بأن تقول هو تغيير للأمام لا تراجع فيه، من الممكن كذلك أن تسير إلى الأمام في طريق عاودت المسير فيه عشرات المرّات، أو أنك تقلّب صفحات كتاب قرأته سابقا مرارا وتكرارا.

ليكون ردّك حينها أنه تغيير إلى الأمام وبطريقة جديدة مبتكرة، لكن قد يتساءل البعض بأن ذلك التغيير، وان كان متّجها نحو الأمام والحداثة، إلا أنه يسير عشوائيا، كأن تقلّب صفحات الكتاب بلا نمط واضح، فلن يسير ذلك التغيير بشكل قانوني مفهوم مدروس، وكمثال على ذلك تتجه في السير للأمام في طريق جديد، لكننا في ذلك المسير نغير من سرعتنا بلا هدف مدروس، ما بين تباطؤ وتسارع غير مفهوم، أو أننا نغيّر الطريق فجأة، ليكون هناك ونكسب بذلك بندا آخر من التغيير فنقول هو تغيير لذات الهدف البعيد المدى الذي رُسم من أجله التغيير لذات الهدف، وان كان الأمر كذلك سيطلّ تساؤل علينا من البعيد، وان كان ذلك الطريق اكتشفنا أننا أضعنا المسير وأنه الطريق الخاطئ، أو نقلّب صفحات كتاب اكتشفنا بعد عدد من الصفحات بأنه غير ثري لنا وغير ذي منفعة لمعارفنا، فهل سنواصل بذلك غير آبهين بملاحظاتنا؟ على الإطلاق لا، سيكون ذلك ردّك بلا شك، لنعود مجددا إلى ديباجة التغيير فنضيف إليه بندا جديدا، وهو التعلم من الإشارات وتعديل المسار مرة بعد مرة، كصفة رابعة مهمة تضاف إلى ذلك التغيير الذي نقصده في موضوعنا، إلا انه وكتساؤل فلسفي قد لا تكون الطريق واضحة منذ البداية، لكن لا بد من إتمامها لنجاح عملية التقييم.

فأنت إن تتبعت المسارات والإشارات عبر تقييم وتغذية راجعة لرحلة التغيير؛ ستفاجأ أن التقييم الحقيقي يكون بعد اجتياز المهمة كاملة، ولها كل الحق في ذلك، فلا يثمن الكتاب من أوله وبدايته وان استطالت، ولا يُعرف الطريق من أوله دائما بل إن نهاية الطريق الوعرة أحيانا بستان أخضر لهدفك.

لذا لا بدّ هنا من خطة تقييم جديدة للسير الأسرع، أو تكوين فرق عمل أو استخدام أساليب المساعدة، ففي الكتاب بالإمكان استخدام تقنية القراءة السريعة، أو اللجوء إلى ملخصات الكتب أو بالنسبة للطريق استخدام المراصد والاستعانة بالتقنية، أو معرفة خبرات الآخرين حول سيرتهم في ذات الطريق، لذا أنت في رحلتك الإبداعية بحاجة إلى أدوات مساعدة.

وإلا لاستطالت الرحلة وانت تهدر وقتا بالغا في تقليب صفحات الكتب، أو السير في الدروب الطويلة، التي قد لا توصلك في الأخير إلى اللا شيء.

ليكون بند الوسائل المساعدة في رحلة التغيير لا يستهان بها، لتضيف بندا للتغيير، وعلى نحو بديهي أن يحمل طابعا إنسانيا، وهدفا مساعدا للبشرية وإلا كان تغييرا نحو الأسوأ، كما أن التغيير من الخطأ أن تبدأ فيه بداية بدائية قديمة؛ بل أن تقف على تلك الهضبة التي وصل إليها الآخرون، متدحرجا نحو التغيير الذي سيكون تغييرا كبيرا بلا شك، وليكون بذلك التغيير هو ذلك التغيير المقصود منه من الأساس.