أفكار وآراء

خبراء عرب في اقتصاديات التنمية

اعتذر للقراء الكرام أن ابدأ الكتابة بالحديث عن تجربة شخصية تعكس اهتمامي بموضوع اقتصاديات و دراسات التنمية، وذلك لسبب سيتضح في سياق هذا المقال. بدأ اهتمامي بدراسات التنمية منذ أن كنت في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، أي مرحلة البكالوريوس التي كنت أدرسها في الجامعة الأردنية. لقد اخترت أن يكون تخصصي الرئيس في تلك المرحلة الاقتصاد والإحصاء. أما التخصص الفرعي فقد كان الدراسات السكانية، وهما تخصصان يمكن اعتبارهما جناحي دراسات التنمية قبل أن يتوسع مفهومها في سنوات لاحقة لتشمل كذلك مواضيع البيئة والاستدامة. وأثناء تلك المرحلة من الدراسة تعرفت على بعض نظريات التنمية، ومنها النظرية المعروفة بنموذج روستو لمراحل النمو

ROSTOW’S STAGES OF ECONOMIC GROWTH MODEL

كما قرأت لبعض الخبراء العرب في شؤون التنمية، وقد كان في مقدمتهم حينها الدكتور اسماعيل صبري عبدالله، الذي له كتابات في التخطيط الاقتصادي وشغل في منتصف ستينات القرن الماضي منصب وزير التخطيط في مصر. وبعد تخرجي من الجامعة وبداية عملي في الحكومة التحقت ببرنامج تدريبي في المعهد العربي للتخطيط بالكويت، والتقيت هناك بالدكتور رمزي زكي، وهو تلميذ اسماعيل صبري عبدالله، وله دراسات في التنمية وعلم السكان. وأثناء دراستي للماجستير في جامعة جونزهوبكينز في واشنطن في تخصص الدراسات الدولية، بدأت التواصل مع جامعة سسيكس في بريطانيا من أجل التسجيل لدرجة الدكتوراة في دراسات التنمية، حيث أن تلك الجامعة هي من أشهر جامعات العالم في ذلك المجال. ومع أني ملتُ قليلا عن تخصص دراسات التنمية وأكملت درجة الدكتوراة في مدرسة لندن للاقتصاد في أحد مواضيع الاقتصاد السياسي، إلا أن اهتمامي بدراسات التنمية ومتابعتي لبعض ما يكتب عنها لا يزال كبيرا حتى اليوم، أما قدرتي على الكتابة فيها فهي دون اهتمامي بها بكثير.

أعترف أن تلك كانت مقدمة طويلة وذاتية إلى حد كبير. والسبب في تلك الإطالة والتحدث عن الذات هو أن دراسات التنمية من الموضوعات التي هي في شغاف القلب لدي وتشغل حيزا كبيرا من اهتماماتي المعرفية، لأنها تعنى بتقدم الأمم وتبحث في سد حاجات الناس عامة والارتقاء بمستويات حياتهم. ولكن قبل الدخول في الموضوع، وللأهمية لا بد من التعريف بالمقصود بمصطلح 'اقتصاديات التنمية DEVELOPMENT ECONOMICS'. يعرف البعض اقتصاديات التنمية بأنها فرع من فروع الاقتصاد، وهي تهدف إلى تحسين الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان النامية، وتحويلها من اقتصادات متخلفة أو صاعدة إلى اقتصادات مزدهرة. وهي تركز على تعزيز إمكانيات السكان بتحسين قطاعات التعليم والصحة وتوفير بيئة صالحة للعمل. وتختلف السياسات التي تستخدم لتحقيق أهداف اقتصاديات التنمية من بلد إلى آخر تبعا لظروفها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالإضافة إلى نظرية أو نموذج روستو الذي أشرنا إليه أعلاه، فإن هناك عدة نظريات تبحث في اقتصاديات التنمية، منها نظريات تقليدية قديمة مثل الميركنتالية mercantilism والوطنية الاقتصادية economic nationalism، ومنها نظريات ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مثل نظرية النمو المتوازن balanced economic growth ونظرية التغير الهيكلي structural-change ونظرية التبعية الاستعمارية المتجددة neocolonial dependency..الخ. وكغيرها من النظريات الاقتصادية والاجتماعية فإن تعدد نظريات اقتصاديات التنمية جعلها متضادة، وأكثرها متناقضة تناقضا تغذيه الصراعات والاختلافات الايديولوجية. كما أنها تعرضت لنقد شديد، إلى درجة أن هناك من يرى أن تلك النظريات جميعاً لم تعد صالحة في الوقت الحاضر.

غير أن موضوعنا اليوم ليس نقد تلك النظريات أو الانتصار لها أو تبني أي منها، وإنما هو للتذكير بأنه كان لبعض الاقتصاديين العرب باع طويل وأثر معروف في الدراسات والمسؤوليات المتصلة باقتصاديات التنمية، سواء في بلدانهم أو على المستوى العالمي. لكنه بالرغم من ذلك الدور وتلك الأهمية، فإننا للأسف لم نسمع عن جائزة عربية كبيرة خاصة مخصصة لاقتصاديات التنمية لتمنح للمتفوقين في هذا المجال من أجل تشجيع الجيل الحالي والأجيال القادمة على الاستمرار في الابداع والتميز فيه. وأستثني من ذلك جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب التي منحت في عام 2017 للدكتور جلال أمين، وهو خبير اقتصادي كبير، وله كتابات كثيرة في الفكر الاقتصادي واقتصاديات التنمية. وبالإضافة إلى من ذكرنا من أعلام وخبراء عرب في اقتصاديات التنمية، هناك آخرون منهم في نفس المجال، ومنهم الدكتور اسماعيل سراج الدين، الذي كانت دراسته الجامعية الأولى في مجال الهندسة إلا أنه نال درجة الدكتوراة من جامعة هارفارد عن دور التعليم في التنمية. وقد عمل الدكتور سراج الدين نائبا لرئيس البنك الدولي، ثم رئيسا لمكتبة الاسكندرية.

وإذا كان جميع الخبراء الذين ذكرنا، هم من مصر، فهي تستحق ذلك لأنها هي 'أم الدنيا' كما يسميها أخوتنا المصريون، وهي 'جزء من القلب' كما قال عنها نزار قباني. لذلك نظيف إليهم الدكتور حازم الببلاوي، وهو خبير اقتصادي وأحد الذي نظروا عن الدولة الريعية. وقد تقلد الدكتور ببلاوي عدة مناصب اقتصادية عربية ودولية، كما أصبح رئيسا لوزراء مصر لفترة قصيرة بعد ثورة عام 2011. ومن مصر أيضا سمير أمين الذي يتبنى الفكر الاقتصادي الماركسي وله كتابات كثيرة في الموضوع ويتمتع بسمعة عالمية واسعة. وإضافة الى أولئك الأعلام والخبراء، هناك الدكتور محمد العمادي، وهو من سوريا وله عدة كتابات في الاقتصاد والتنمية، وكان استاذا جامعيا ثم وزيرا للاقتصاد في سوريا لمدة طويلة امتدت إلى بدايات العقد الأول من القرن الحالي. ولا ننسى كذلك الدكتور جورج قرم من لبنان، الذي شغل عدة مناصب سياسية في بلاده، منها منصب وزير المالية في أوائل هذه الألفية، وله عدة كتابات في الاقتصاد والتنمية ودراسات فكرية في مجالات أخرى. وأخيرا وليس آخرا هناك الدكتور محمود محيي الدين، وهو كذلك من مصر، ومن أبرز الخبراء والكتاب العرب المعاصرين في اقتصاديات التنمية. وقد شغل محيي الدين عدة مناصب جامعية وسياسية. فبعد أن كان وزيرا للاستثمار في مصر بين عامي 2004 و 2010، شغل منصب النائب لرئيس البنك الدولي واستمر فيه لعدة سنوات، وهو يشغل حاليا منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل برنامج الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة.

بين يدي هذه الأيام كتاب للدكتور محمد محيي الدين بعنوان 'في التقدم مربكات ومسارات'، وهو مؤلف من مجموعة مقالات عن شروط التنمية وأسباب التقدم، كان قد نشرها بين عامي 2018 و 2018. وكنت قبل أشهر قرأت كتاباً للدكتور جلال أمين، وهو بعنوان 'فلسفة علم الاقتصاد'، وقد كشف الكتاب عن التحولات الفكرية التي مر بها الدكتور جلال خلال فترات عمره، وفيه أيضا نقد للنظريات الاقتصادية في طيفها الواسع. هذا الكتابان أعاداني إلى قراءة ما يكتب في الاقتصاد باللغة العربية، وذلك بعد انقطاع دام فترة طويلة، إذ كنت في الغالب اقرأ ما يكتب فيه باللغة الانجليزية فقط. والسبب في ذلك ظني أنه لم يعد هناك كتابات عربية حديثة في الاقتصاد وقضايا التنمية، وأنه إن وجدت فلا تعدو أن تكون مجرد ترجمات ضعيفة من لغات أخرى. غير أن كتابي جلال أمين ومحمود محيي الدين أعادا إلي الثقة فيما يكتب باللغة العربية عن هذا الموضوع. لذلك أعتبر نشر هذا المقال مناسبة لدعوة المعنيين في العالم العربي إلى الاهتمام بالمفكرين والكتاب العرب في قضايا اقتصاديات ودراسات التنمية، وذلك من خلال تخصيص جائزة عربية كبرى تتبناها الجامعة العربية أو المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلم، بحيث تمنح تلك الجائزة للمتميزين العرب في هذا المجال. ولا يفوتني في ختام هذا المقال أن أوجه الشكر والثناء للجمعية الاقتصادية العمانية على تخصيصها جائزة اقتصادية سنوية في عمان، تعطى للفائزين من الذين يتنافسون على البحوث التي تعلن عنها الجمعية، وأدعو في نفس الوقت الشركات وأصحاب الأعمال إلى دعم الجمعية لتمكينها من الاستمرار في هذا الجهد، الذي من المؤكد أنه سيثمر علما و ثقافة ومعرفة بالاقتصاد و قضايا التنمية.

* د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية