أعمدة

أنساغ.. لا تهرعوا إلي

 
(1)

حين كنت صبيَّاً كنت أسوأ لاعب كرة قدم في تاريخ الجنس البشري، بينما كان أحد أقاربي يكبرني سنِّاً ويفوقني حذقاً في التعاطي مع الكرة. سألته مرة بتردد كبير: ترى، لو كان بيليه 'شات' (قذف) الكرة إلى الأعلى فكم ستكون المدة التي ستستغرقها الكرة حتى تعود إلى الأرض؟ أجاب فوراً وبيقين زائد: خمس دقائق! رددت عليه ببراءة وصدق (ويقين زائد أيضاً): خسارة والله! كنت أظن أن المدة هي نصف ساعة على الأقل!

لكن بيليه الليلة 'شات' الكرة إلى الأعلى، ولن تعود إلى الأرض في خمس دقائق ولا في نصف ساعة، بل سنظل نرفع رؤوسنا دوماً ونحن نحاول رؤيتها بين الأقمار، والنجوم، وصلوات أمِّه التي كانت تعمل خادمة في بيت أحد الأثرياء.

(2)

يا إلهي، إنجاز كل هذه الأشياء:

تنظيف الشقة من كتابات غير مكتملة وأشواق غير ناضجة، وأخرى لا داعي لها، وكتب لم تقرأ، ولقاءات نِصْف تحقَّقت، ونجوم على الجدران.

السلام على أمواتي في مقبرة القرية، وإخراج آخر قطعة ثلج من القلب (يا الله، كم أتذكر جدِّي، وخالي، وأبي، في المقبرة وهم يتلون الدعاء النبوي على الكُثَيِّب الذي وُلِدَ لتوِّه: 'اللهم اغفر له، وارحمه، وعافِه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُله، ووسِّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدَّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنَّة، وأَعِذْهُ من عذاب القبر ومن عذاب النار').

نقل الفؤاد من الضلع الأيسر إلى فراشة ميتة.

إكمال كتابة هذه الحلقة من 'أنساغ'.

تسديد فواتير الماء، والذكريات القديمة، والكهرباء، والموت، والهاتف النَّقال، والكبرياء الصامتة، والإنترنت.

التَّيقن من أن قبر تَعُّوب الكحَّالي لا يزال يتموَّج في السُّحب.

الاعتراف بكل الخطايا التي رافقت العمر بعد أن تسبَّبت به في الأصل (لكن من دون قولها).

قراءة الكتب التي...

كتابة الكتابة التي...

مشاهدة الأفلام التي...

إنجاز فيلم روائي طويل واحد على الأقل.

يا الله: ارأف به، وساعده، وقبل ذلك وبعده: 'أبدله أهلاً خيراً من أهله'.

(3)

تجرَّأ أحدهم مرة وسأل المتصوف أبا يزيد البسطامي ذات صباح: 'كيف أصبحت'؟؛ فردَّ عليه: 'لا صباح ولا مساء. إنما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة، وأنا لا صفة لي'.

كيف أستطيع، إذاً، أن أنشغل في وصف كل ما هو غير ذلك في بقية الليلة؟

(4)

النوم (تحت تأثير الخمرة، أو العقاقير، أو كليهما، أو بدونهما) سمكة مالحة في نهر لَيْثِيْ (نهر النسيان في الميثولوجيا الإغريقيَّة).

(5)

تدخل امرأة إلى المغارة

الماء جذلٌ

الأوز، والنجوم، والموسيقى تعوم

والشَّاعر ميت.

(6)

-- هل تؤمن بالحق؟

-- نعم.

-- هل تؤمن بالعدل؟

-- نعم.

-- هل تؤمن بالخير؟

-- نعم.

-- هل تؤمن بالمساواة؟

-- نعم.

-- هل تؤمن بالحريَّة؟

-- نعم.

-- هل تؤمن بالجَمال؟

-- نعم.

-- إذاً ما مشكلتك؟

-- مشكلتي هي أني لا أستطيع أن أنام.

-- للأسف، لا الحق، ولا العدل، ولا الخير، ولا المساواة، ولا الحريَّة، ولا الجَمال يستطيع أن يساعدك.

(7)

حين 'اتُّهم' سيوران بأن شذراته متنافرة ومتناقضة، أظن أنه كان عليه أن يقهقه، أو ينتحب، من غير الاضطرار إلى الكلمات في الحجَّة والتبرير والتعبير (كما فَعَلَ).

ولذلك فإن شذرات سيوران، للأسف الشديد ولحسن الحظ، قد اكتملت (كما في قولنا عن جريمة كاملة تماماً للمرة الأولى والأخيرة). وفي أية حال: 'لولا فكرة الانتحار لكنت قد قتلت نفسي منذ زمن بعيد' (سيوران، طبعاً وبكل تأكيد).

(8)

من محاسن التقدم في العمر (وهي غير قليلة، بالمناسبة) أن المرء يصير صديقاً لعدد أقل من الأحياء، وعدد أكبر من الأشجار والأحجار والأطيار.

ومع تقدم العمر تحصل فضيلة أخرى (بالمعنى الذي عرَّف به سقراط 'الفضيلة'): تقل الأحلام، ولكن لا تنحسر طاقة الكراهية والبغضاء الحيويَّة، وتتضاءل الأوهام، ولكن لا تقل انفجارات الغضب والحنق (بل ربما تزيد في حالات بعضهم)، ولا تكثر المشاريع (وهذه طريقة مهذَّبة ورقيقة لقول إن كافة المشاريع السابقة قد نالها الإخفاق، والعطب، والسذاجة بأثر رجعي)، ويتفق المرء مع انغردِ بيرغمَن أكثر وأكثر: 'التقدم في العمر مثل تسلق الجبل. ستكابد قليلاً، ولكن المنظر من الأعلى أفضل بكثير'.

(9)

الانتحار سفر بتذكرة ذهاب فقط (بمعنى أن كل محطة تمنحك، بعد ألم وعذاب جهيد، ليس تذكرة العودة بل تذكرة ذهاب أخرى إلى المحطة القادمة، ثم إلى التي بعدها، وهكذا دواليك، حتى تصل إلى الجسر). وتتعدد أساليب -- ناهيك، في المقام الأول، عن أسباب -- الانتحار من شخص إلى آخر، ومن سبب إلى ثانٍ، ومن ثقافة إلى أخرى حسب حجم العذاب الشخصي والوجودي، والمعتقدات، والقناعات، والشعائر، والطقوس.

ومن ضمن طرائق الانتحار بين أهل الكتابة تثيرني كثيراً ودوماً الطريقة التي انتحرت بها سيلفيا بلاث: لقد أحكمت إغلاق كل النوافذ، وكل فتحة، وكل شق ممكن في المطبخ وكل العالم وكافة الوجود، بل وأدخلت مناشف مبلولة زجَّتها فوق أكتاف وداخل خصرَي وتحت أقدام الأبواب والنوافذ، وذلك خشية أن يتسرب الغاز أو الأوكسجين أو الأمل أو نصائح العقاقير المضادة للاكتئاب ووعود السيِّد المسيح، وأدخلت رأسها وهي جاثية على ركبتيها في فرن الطبَّاخة، وكانت أنبوبة الغاز مفتوحة على آخرها).

لا أظن أن أحداً قد نكَّل بالأرض في لحظات وجوده الأخيرة في العالم وتكفَّل بكل شيء بمؤخرته كما فعلت بلاث؛ فالمجد لها في الأعالي.

(10)

النجوم كثيرة ومتشابهة، لكن القمر وحيد وفريد (كما في قولنا إنه يتيم)، تماماً كالمرأة التي يتوهج قبرها على هضاب الذاكرة البعيدة.

وتماماً كما ماتت أجمل العذارى اللائي من مجز الصغرى وفيها.

(11)

أحلام النوم التي تتحقق في الكرى خير ألف مرة من أحلام اليقظة التي لا تحقق شيئاً في الورى.

(12)

أنا احتياط الموت، وبدء الهلاك

لا تهرعوا إليَّ.