أعمدة

سبيل الرواية: قَنْصُ الحكايات

 
ما زالت الحكاياتُ في عُمان مخزونةً مكتومةً بِكرا تنتظرُ قنّاصا يتلقّفها ويُعيد تشكيلها وتحيينها في روايةٍ يُعْمِل صاحبها الفطنة السرديّة والقدرة الحكائيّة لإخراجها في لبوس مبْهر آسِر، تأْنَسه النفوس وتنبهر به العقول.

من ضيقِ الفضاء ونُدرة الشخصيّات يتفتّحُ السرد في روايات زهران القاسمي، فالكاتب لا يُحمِّل حكاياته أعباءَ الكون ولا يُساير دارج العصر من قضايا الأقليّات وصراع الإثنيّات وهيمنة الغرب وصراع الحضارات وحروب الكون ونظريّات المؤامرة، وصدام الأنا والآخر ومشاغل النسويّة وحقّ المختلفين في التميّز والتبريز.

يلتزم زهران بقضايا الإنسان البسيطة في التحقّق والكون، بالحياةِ في القرية وما يُمكن أن تُولّده من حكايات مرغِّبة، الحكاية معه هي الأصل والأيديولوجيا في المحلّ المرفوع، الحكاية هي المنبت، وبؤرتها الإنسانُ في نشاطٍ مخصوص، في عملٍ موهوبٍ.

خُطوةٌ من عديد خطوات إحياء الرواية يخطوها الروائيّ الثابتُ على نهج البحث عن سبيل كتابة الرواية الشافية العافية الكافية عن غيرها من الروايات، الواجدة سبيل الإبهار الأمثل وطريق كتابة الرواية المختلفة، زهران القاسمي، صاحبُ مشروع في كتابة الرواية خاصّة في ثلاثيّة «جوع العسل»، «القنّاص»، «تغريبة القافر»، ثلاثيّة تتفّق حول مشروع تركيز الرؤية على الإنسان الفرد العامل في أنشطةٍ لم تَعرض لها الرواية ولم تجعلها بؤرة حكاية.

القنْصُ وتتبّع شخصيّة القانص صائد الوعول الذي تترتّب حياته حول مدار منه يتحدّد الكون، كان موضوع رواية القنّاص، الماء وتقفّيه وتتبّع مأتاه ومنابعه هو محور رواية تغريبة القافر، العسل وتكوّنه وتربية النحل وما يُمكن أن يدعوه من مصطلحات ومعاجم هو موضوع رواية «جوع العسل»، موضوعات مرتبطة بأشغالٍ وأنشطة عليها مدار الرواية، وهي الجامعُ في مشروع زهران القاسمي السرديّ، وترتبط بهذه الأنشطة شخصيّات يتحدّد كونها ووجودها وعلاقاتها من هذا النشاط، ليصبح النشاط العمليّ فعلَ وجود وليس وظيفة فحسب، يتلبّس صاحبه حتّى تتشكّل حياته وفقه.

هل يُبشّر زهران القاسمي بروايةٍ مختلفة يُمكن أن تُحدث رجّةً في المسار الروائيّ العمانيّ ومنه في المسار الروائي العربيّ؟ سبق أن ذكرتُ أنّ ميزة الرواية العمانيّة أنّنا في العشريّة الأخيرة صرنا نتعامل مع أربعة أسماء على الأقلّ لها رؤيةٌ ومشروع في كتابة الرواية، ومنها زهران القاسمي الذي ما زال يبحث عن الرواية الرجّة، الرواية التي تتوّج بحثه الروائيّ.

كلّ هذه العوالم «الغريبة» التي صوّرها زهران هي عوالم حاملة لحكاية يلتذّ بها القارئ، تجول به في عوالم الشخصيّات الممتلئة التي تحمل بالضرورة هموما وجوديّة تظهر في استبطانها والتصريح بصوتها، عوالمُ «غريبة» على واقعيّتها، ذلك أنّها لا تُشكّل همّا عامّا ولا مشغلا نفسيّا خاصّا ولا حالة سياسيّة أو اجتماعيّة محدودة، بل هي نُقطةٌ من السرد جدّ «مهمّشة» يصدر منها زهران الروائيّ، من رصْد وعْلٍ والعمل على قنصه تنفتح عوالم من الحكاية، ومن الفضاء الذي يحتويها، ومن الشخصيّات المجانبة والمُختلفة، ومن تفتُّح زاوية الرؤية ليتّبع القارئ الحكاية من جزْئها البسيط قبل أن تتشكّل دوائها السرديّة، وكذا الأمر في الروايات الأخرى.

خُطّة زهران القاسمي في الرواية أن يبدأ من حدثٍ جاذب بسيط منه تنمو الرواية وتتأثّثُ عناصرها وأواصرها وشخصيّاتها، من «غرق مريم بنت حمد»، من لحظِ عزّان بن سعيد ثمْنة، من مطاردة صالح بن شيخان للوعول، تبدأ الحكايات ببساطة ووضوح، ويبدأ حاكيها بحياكة خيوطها لتشعيبها وتوسيعها مكانًا وأفقًا ونماءَ شخصيّات وتعقّد أحداث.

يتفتّح السرد مرحليّا فيجول الروائيّ في أماكن مرجعيّة قد تتكرّر في أكثر من رواية، تشمل السيوح والقرى والجبال والصحراء، منها الجبال والأودية؛ جبل السويح، الجبل الطايح، جبال الحلوى، الجبل الأبيض، جبل المنازل، وادي خب الشيخ، وادي خب عمر، وادي الميابين، وادي صريد، وادي مقدسي، الوادي الفارغ، وادي النمارات، وادي المليل، وادي الجروف، وادي وعلة، وادي المزارع، وادي قعبت، وادي علكا، وادي الراك، وادي حام، وادي منصح. كما تتواتر أسماء أشجار ونبات ومناطق أفلاج يختصّ بها المكان الخاصّ، منها؛ أشجار السمر، شجرة الفرصاد، شجرة ظفر، شجيرات السخبر والسيداف، أعشاب الغنّيبا، شجرة القفص، أزهار الحرمل. الغاف، السدر، أشجار اللقم والعسبق، شجرة السوقم.

فضاءٌ إحاليّ مرجعيٌّ يؤثّث به زهران عالمه الروائيّ فيشدّه إلى خاصّ المكان وإلى فضاءٍ محلّي محدود منه يُمكن أن تتكوّن غرائبيّة السرد وتفرّده. فالكاتب انشدّ إلى ثقافته وحضارته وواقعه، عبر تأسيسه لشخصيّاته، عبر انتقائه لأعمالها التي جعلها ركن السرد المكين، عبر الوصف المحليّ الدقيق لمكوّنات المكان ولحالته وهي خاصيّة في الوصف أدّاها زهران بامتياز ودون إملال، وإنّما في هدهدة حكائيّة يستطيبها القارئ.

الواقع في الرواية جليٌّ وواضح ومرغّبٌ في القراءة، حتّى الأسطوري والما ورائيّ في الروايات الثلاث هو واقعيّ، بمعنى أنّه داخلٌ في التحقّق الواقعي الممكن للشخصيّة بمعتقداتها وتفسيرها الغيبي لظواهر الكون التي لا تجد لها في العلم جوابا مبينا، فالشخصيّات ليست مثاليّة ولا مفارقة لواقعها، وإنّما هي متناغمة مع واقع الأحداث ومنسجمة مع فضاء الحكاية، شخصيّة القنّاص الذي تصير حياته فراغا بانعدام الهدف، يُواصل الحياة في صمت، في غربة داخل قريته، «عزّان بن سعيد» المتحوّل عبر المكان وعبر السلوك، الذي يستبدل طلب العسل بطلب عينين عسليتين شاويتين أسرتا وجوده، القافر الذي تحدّد سلوكه وفعله وصلاته بهاجس حفر الأفلاج وإخراج الماء من العدم إلى الوجود إحياء لكون يقتله.

قدرة زهران أنّه لا يتصنّع الحكاية، ولا يدخل العوالم الحكائيّة الدقيقة المعاجم خالي الوفاض، وإنّما هو يحكي حكاية القافر وكأنّه متمكّن من القفر معالج له عارف بخواصّه ودواخله، يُتابع القنّاص في رحلاته ويتقن أدواته وزواياه وصلاته بالأماكن وبالمصيد، يُرافق راعي النحل منتج العسل وكأنّه العارف بدقائقه ابن المناحل وأحوال النحل وما يحفّ بها من مخاطر.

فهل هذا هو المطلوب لإنجاز الحكاية المُثلى، الحكاية التي يُمكن أن تأسر الكون، أن تحقّق أثرا مختلفا، أن تُصبح نموذجا ومثالا يُحتَذى ويتصدّر الإنتاج الروائيّ؟

يكتب زهران القاسمي الرواية التي تُتقبّل القبول الحسن، يهنأ بها القارئ وينشدّ إليها، غير أنّها روايةٌ عادية لا تخرج عن كونها رواية جاذبة مرغّبة غريبة. وفي اعتقادي فإنّ الكاتب -شأنه في ذلك شأن جيله المصاحب المجدّ- ما زال لم يكتب الرواية التي يتدرّب من كلّ أعماله على إنهائها.

فما المطلوب لكتابة الرواية المثاليّة؟