هل هذه نهاية السلام عبر التجارة؟
الاثنين / 1 / جمادى الآخرة / 1444 هـ - 19:06 - الاثنين 26 ديسمبر 2022 19:06
ترجمة: قاسم مكي -
في أوائل القرن العشرين نشر المؤلف البريطاني نورمان أنجل كتابا شهيرا تحت عنوان ' الوهم الكبير' أعلن فيه أن التقدم الاقتصادي والتجارة العالمية المتنامية أبطلا الحاجة إلى الحرب.
حاجج أنجل بأن البلدان لم يعد بمقدورها إثراء نفسها بغزو البلدان الأخرى والعمال الصناعيون ما عاد من الممكن استغلالهم مثل الفلاحين. بل حتى البلدان الصغيرة يمكنها الازدهار باستيراد المواد الخام وبيع منتجاتها في أسواق العالم. إضافة إلى ذلك ستكون الحرب بين البلدان التي تعتمد اقتصاديا على بعضها البعض مكلفة جدا حتى للمنتصرين.
لم يكن آنجل يتنبأ بنهاية فورية للحرب. وكان هذا جيدا لصِدقيَّته. فمجزرة الحرب العالمية الثانية كانت قاب قوسين أو أدنى. لكنه كان يأمل في إقناع الساسة بالتخلي عن أحلام المجد العسكري. ويعني منطقه هذا ضمنا أن الروابط الاقتصادية الوثيقة بين البلدان قد تعزز السلام. حقا فكرة تحقيق السلام عبر التجارة ستتحول إلى حجر الزاوية لفنِّ إدارة الدولة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
في أحدث عمود رأي كتبته كنت قد تطرقت إلى الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) والتي حكمت تجارة العالم منذ عام 1948. يعود أصل هذا النظام التجاري في جزء كبير منه إلى كوردَيل هَل وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والذي اعتبر تجارة العالم قوة للسلام مثلما هي قوة للازدهار.
بدأ تمهيد الطريق إلى الاتحاد الأوروبي بتأسيس جماعة الفحم والصلب والتي كان أحد أهدافها إيجاد أكبر قدر من الاعتماد المتبادل بين فرنسا وألمانيا بحيث يستحيل نشوب حرب أوروبية في المستقبل.
لكن الآن، وكما كتبت في العمود، تفرض الولايات المتحدة التي أوجدت إلى حد كبير نظام التجارة العالمي قيودا جديدة على التجارة باسم الأمن القومي وتؤكد دون مواربة أنها يحق لها فرض هذه القيود متى أرادت.
عندما فعلت إدارة ترامب ذلك كان يمكن اعتبار تصرفها انحرافا عن المعتاد. فدونالد ترامب ومَن حوله 'تجاريون' أفظاظ لا يدركون الأسباب التاريخية وراء قواعد التجارة الحالية. لكن لا يمكن قول ذلك بالنسبة لمسؤولي إدارة بايدن الذين يفهمون الاقتصاد والتاريخ كِلَيهما.
إذن هل هذه نهاية إرساء السلام من خلال التجارة. ليس تماما. لكن هذا المبدأ فقد الكثير من قوته مؤخرا ولأسباب عديدة.
أولا، فكرة 'التجارة تعزز السلام' قد تكون صحيحة فقط بالنسبة للديمقراطيات. في عام 1916 غزت الولايات المتحدة المكسيك لفترة قصيرة في محاولة فاشلة للقبض على بانشو فيلا (أحد الثوار المكسيكيين). مثل هذا الشيء يصعب تصوره في هذه الأيام مع تحول المصانع المكسيكية إلى جزء لا يتجزأ من النظام الصناعي لأمريكا الشمالية. لكن هل نحن على يقين بنفس القدر من أن دمجا عميقا على نحو مماثل لتايوان في النظام الصناعي للصين يستبعد احتمال الغزو؟
لسوء الحظ تشهد السلطوية صعودا في بلدان عديدة حول العالم منذ بعض الوقت. يعود ذلك جزئيا إلى انهيار بعض الأنظمة الديمقراطية الهشة لأسباب من بينها انفتاح بعض الأوتوقراطيات (خصوصا الصين) اقتصاديا ولكن ليس سياسيا وإلى إحراز بعضها (وخصوصا الصين أيضا) نموَا اقتصاديا سريعا.
وماذا بشأن الفكرة التي ترى أن تزايد الاندماج في الاقتصاد العالمي سيكون في حد ذاته قوةَ انتشار للديمقراطية؟ تلك الفكرة كانت ركيزة أساسية للدبلوماسية الاقتصادية في بعض البلدان الغربية وخصوصا ألمانيا التي راهنت بشدة على مبدأ 'فاندل دورش هاندل' أو التغيير عبر التجارة. لكن حتى نظرة عابرة إلى روسيا فلاديمير بوتين أو صين شي جينبينج تظهِر فشل هذا المبدأ. فالصين بدأت الانفتاح على التجارة العالمية قبل أكثر من 40 عاما وروسيا قبل 30 عاما لكن لم تُبدِ أيٌّ منهما دلائل على تحولها إلى الديمقراطية أو حتى إلى بلد يقوَى فيه حكم القانون.
في الحقيقة ربما جعل الاعتماد المتبادل على صعيد العالم الحربَ الدائرة في أوكرانيا أكثر احتمالا. ليس من السخف القولُ بأن بوتين توقَّع قبول أوروبا لغزو كييف بسبب اعتمادها على النفط الطبيعي الروسي.
مرة أخرى أنا لا أقول إن فكرة السلام عبر التجارة خاطئة تماما. فالحرب في قلب أوروبا (وليس لسوء الحظ في أطرافها) صار من الصعب تخيلها بفضل التكامل الاقتصادي. والحروب من أجل تأمين الحصول على المواد الخام تبدو أبعد احتمالا مما في السابق. لكن من المؤكد أن حلم 'السلام التجاري' فقد الكثير من قوته.
هذا مهم جدا. نحن نعيش في أسواق مفتوحة 'جدا'. لكن ذلك ما كان يجب أن يحدث ولا يجب أن يستمر. نحن لم نصل إلى هنا بسبب منطق اقتصادي يتعذر فهمه. فالعولمة يمكن أن تتراجع. بل تراجعت لفترات زمنية ممتدة عندما فقدت دعم السياسات. كما لم نصل إلى هنا لأن الاقتصاديين أقنعوا الساسة بأن حرية التجارة شيء جيد. بل النظام العالمي الحالي يعكس بقدر كبير اعتبارات استراتيجية. فالقادة وخصوصا في الولايات المتحدة اعتقدوا إلى حد ما أن حرية التجارة ستجعل العالم أكثر تقبُّلا لقيمنا السياسية وأكثر أمانا لبلدنا.
لكن الآن حتى واضعي السياسات ذوي النزعة العالمية نسبيا مثل مسؤولي إدارة بايدن ليسوا على يقين من ذلك. وهذا تحول كبير جدا.
كروجمان حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 وكاتب رأي في نيويورك تايمز.
ترجمة خاصة لـ 'عمان' عن نيويورك تايمز
في أوائل القرن العشرين نشر المؤلف البريطاني نورمان أنجل كتابا شهيرا تحت عنوان ' الوهم الكبير' أعلن فيه أن التقدم الاقتصادي والتجارة العالمية المتنامية أبطلا الحاجة إلى الحرب.
حاجج أنجل بأن البلدان لم يعد بمقدورها إثراء نفسها بغزو البلدان الأخرى والعمال الصناعيون ما عاد من الممكن استغلالهم مثل الفلاحين. بل حتى البلدان الصغيرة يمكنها الازدهار باستيراد المواد الخام وبيع منتجاتها في أسواق العالم. إضافة إلى ذلك ستكون الحرب بين البلدان التي تعتمد اقتصاديا على بعضها البعض مكلفة جدا حتى للمنتصرين.
لم يكن آنجل يتنبأ بنهاية فورية للحرب. وكان هذا جيدا لصِدقيَّته. فمجزرة الحرب العالمية الثانية كانت قاب قوسين أو أدنى. لكنه كان يأمل في إقناع الساسة بالتخلي عن أحلام المجد العسكري. ويعني منطقه هذا ضمنا أن الروابط الاقتصادية الوثيقة بين البلدان قد تعزز السلام. حقا فكرة تحقيق السلام عبر التجارة ستتحول إلى حجر الزاوية لفنِّ إدارة الدولة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
في أحدث عمود رأي كتبته كنت قد تطرقت إلى الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) والتي حكمت تجارة العالم منذ عام 1948. يعود أصل هذا النظام التجاري في جزء كبير منه إلى كوردَيل هَل وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والذي اعتبر تجارة العالم قوة للسلام مثلما هي قوة للازدهار.
بدأ تمهيد الطريق إلى الاتحاد الأوروبي بتأسيس جماعة الفحم والصلب والتي كان أحد أهدافها إيجاد أكبر قدر من الاعتماد المتبادل بين فرنسا وألمانيا بحيث يستحيل نشوب حرب أوروبية في المستقبل.
لكن الآن، وكما كتبت في العمود، تفرض الولايات المتحدة التي أوجدت إلى حد كبير نظام التجارة العالمي قيودا جديدة على التجارة باسم الأمن القومي وتؤكد دون مواربة أنها يحق لها فرض هذه القيود متى أرادت.
عندما فعلت إدارة ترامب ذلك كان يمكن اعتبار تصرفها انحرافا عن المعتاد. فدونالد ترامب ومَن حوله 'تجاريون' أفظاظ لا يدركون الأسباب التاريخية وراء قواعد التجارة الحالية. لكن لا يمكن قول ذلك بالنسبة لمسؤولي إدارة بايدن الذين يفهمون الاقتصاد والتاريخ كِلَيهما.
إذن هل هذه نهاية إرساء السلام من خلال التجارة. ليس تماما. لكن هذا المبدأ فقد الكثير من قوته مؤخرا ولأسباب عديدة.
أولا، فكرة 'التجارة تعزز السلام' قد تكون صحيحة فقط بالنسبة للديمقراطيات. في عام 1916 غزت الولايات المتحدة المكسيك لفترة قصيرة في محاولة فاشلة للقبض على بانشو فيلا (أحد الثوار المكسيكيين). مثل هذا الشيء يصعب تصوره في هذه الأيام مع تحول المصانع المكسيكية إلى جزء لا يتجزأ من النظام الصناعي لأمريكا الشمالية. لكن هل نحن على يقين بنفس القدر من أن دمجا عميقا على نحو مماثل لتايوان في النظام الصناعي للصين يستبعد احتمال الغزو؟
لسوء الحظ تشهد السلطوية صعودا في بلدان عديدة حول العالم منذ بعض الوقت. يعود ذلك جزئيا إلى انهيار بعض الأنظمة الديمقراطية الهشة لأسباب من بينها انفتاح بعض الأوتوقراطيات (خصوصا الصين) اقتصاديا ولكن ليس سياسيا وإلى إحراز بعضها (وخصوصا الصين أيضا) نموَا اقتصاديا سريعا.
وماذا بشأن الفكرة التي ترى أن تزايد الاندماج في الاقتصاد العالمي سيكون في حد ذاته قوةَ انتشار للديمقراطية؟ تلك الفكرة كانت ركيزة أساسية للدبلوماسية الاقتصادية في بعض البلدان الغربية وخصوصا ألمانيا التي راهنت بشدة على مبدأ 'فاندل دورش هاندل' أو التغيير عبر التجارة. لكن حتى نظرة عابرة إلى روسيا فلاديمير بوتين أو صين شي جينبينج تظهِر فشل هذا المبدأ. فالصين بدأت الانفتاح على التجارة العالمية قبل أكثر من 40 عاما وروسيا قبل 30 عاما لكن لم تُبدِ أيٌّ منهما دلائل على تحولها إلى الديمقراطية أو حتى إلى بلد يقوَى فيه حكم القانون.
في الحقيقة ربما جعل الاعتماد المتبادل على صعيد العالم الحربَ الدائرة في أوكرانيا أكثر احتمالا. ليس من السخف القولُ بأن بوتين توقَّع قبول أوروبا لغزو كييف بسبب اعتمادها على النفط الطبيعي الروسي.
مرة أخرى أنا لا أقول إن فكرة السلام عبر التجارة خاطئة تماما. فالحرب في قلب أوروبا (وليس لسوء الحظ في أطرافها) صار من الصعب تخيلها بفضل التكامل الاقتصادي. والحروب من أجل تأمين الحصول على المواد الخام تبدو أبعد احتمالا مما في السابق. لكن من المؤكد أن حلم 'السلام التجاري' فقد الكثير من قوته.
هذا مهم جدا. نحن نعيش في أسواق مفتوحة 'جدا'. لكن ذلك ما كان يجب أن يحدث ولا يجب أن يستمر. نحن لم نصل إلى هنا بسبب منطق اقتصادي يتعذر فهمه. فالعولمة يمكن أن تتراجع. بل تراجعت لفترات زمنية ممتدة عندما فقدت دعم السياسات. كما لم نصل إلى هنا لأن الاقتصاديين أقنعوا الساسة بأن حرية التجارة شيء جيد. بل النظام العالمي الحالي يعكس بقدر كبير اعتبارات استراتيجية. فالقادة وخصوصا في الولايات المتحدة اعتقدوا إلى حد ما أن حرية التجارة ستجعل العالم أكثر تقبُّلا لقيمنا السياسية وأكثر أمانا لبلدنا.
لكن الآن حتى واضعي السياسات ذوي النزعة العالمية نسبيا مثل مسؤولي إدارة بايدن ليسوا على يقين من ذلك. وهذا تحول كبير جدا.
كروجمان حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 وكاتب رأي في نيويورك تايمز.
ترجمة خاصة لـ 'عمان' عن نيويورك تايمز