سرّك في بئر طافٍ
الاحد / 30 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 17:22 - الاحد 25 ديسمبر 2022 17:22
قانون حمورابي الذي قرأناه من نقوش الكهوف القديمة، ومن الأزمان ما قبل التاريخ، وما وصلنا عنه من البرديّات والمخطوطات القديمة المكتشفة، والذي يرى فيه البعض قانونا للعدالة، أو أنه نظام حكم ديكتاتوري لا مجال فيه للتسامح والتراخي، قائم على مبدأ العين بالعين والسن بالسن، وليكون لنا في هويتنا العمانية القول الدارج الشائع (ضربة بضربة)، ومهما تضمن في معناه من اقتصاص عنيف؛ الا أنه أيضا يأتي بمعنى قوة المفعول، ومقدرته على إحراز النتيجة خطوة تقابلها منه خطوة من رد الفعل والتأثر.
وفي المقابل من ذلك؛ وفي زاوية وركن قصي من الجانب الآخر، نجد أقوالا تنافي ذلك القانون الفيزيائي الكوني ( لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار)، نجده يتنافى وعلى نحو فيه تجرؤ على تلك القوانين والأقوال سالفة الذكر، فتأتي لتناقضها أقوال على شاكلة إقرأ ١٠٠٠ كتاب لتصبح كاتبا، وتمرّن على نحو عدد من المئات من الساعات؛ لتكتسب الخبرة بعد سلسلة من التمارين المتسلسلة، فيقول لسان حالك متغنّيا ' طويل جدا مشواري '، وهو يعرف جيّدا بأن الطريق الطويلة تتخللّها المنعطفات وفي كل الاتجاهات، مما يجعله وبلا أدنى ريب عرضة بأن يغيّر مساره، بعد أن يكون قد قطع أميالا من الجهد، وأنفق أموالا وأهدر وقتا كثيرا، لكنها الطريق القصيرة التي تكون نهايتها ضمن حدود تصورات دهشتنا هي من تجعلنا نصل للنهاية، فكما أن الطريق تقاس بعدد الخطوات، فليس من العدل في شيء أن يكون ١٠٠ كتاب تعادله خبرة لا تتجاوز معرفة ٣ كتب أو أقل حتى.
وليس من الصفات العصرية أن نقبل بأن تكون المعرفة على نحو متنام على الدوام، بحيث تكون غير قابلة للقياس بصفة أبدية، فنترك ذلك التنامي لفكرة الاندماج الحيوي الذي يطول مداه، فتقرأ مئات الكتب فيكون اكتسابك للغة والمعرفة على نحو متنام لا تشعر به، وتتدرب مئات الساعات فتكتسب الخبرة على نحو تدريجي لا تشعر به، وتخوض سلسلة من التجارب والخبرات فلا يكون لتأثيراتها صور قابلة للملاحظة، إلا عبر السنين وعلى نحو يصعب قياسه ويستحيل البتّ فيه.
نحن بحاجة الى شريعة حمورابي البابلية، والتي كانت من أقدم القوانين المكتوبة في نقليّات الحضارات القديمة، والتي احتفظ بها فيما بعد في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية، وبحاجة الى لكنة العماني في الإقناع ( ضربة بضربة )، نحن بحاجة أن يكون لكل شيء مفعول فوري يسهل قياسه، ومعرفة مدى تأثيره مرة بعد مرة، بعد كل ساعة تدريبية من الجيّد والضروري أن تعرف بأنك قطعت شوطا ليس بالقليل، بعد كل كتاب تقرأه تدرك كم أنك اكتسبت خبرات تفوق عدد صفحاته المائة فرضا، لتطال الاستفادة عدد الحروف وإيقاعاتها، وتشابه ألياف الأوراق وتراصّها ما بين الجلدتين، بحيث يكون للكتاب الواحد تأثيره الذي يتناسب مع هدف الكتابة الذي كتب من أجله.
لتحاول إيقاف ذلك التنامي المجهول، والذي ظلّ لسنين يحافظ على سرّه، لتعرف سر كل تلك المهارات وجوهرها فنقول ' سرك في بئر طافٍ '، فنعرف بذلك سر كل صنعة، فنتقن ذلك السرّ متجاهلين ما عداه، والذي يأتي لاحقا وليعرف الكاتب أولا جوهر كتابه ليعرف القارئ فيما بعد ذلك السر، فيكتسبه على نحو يعادل قراءته لصفحات الكتاب كاملة.
ذلك هو الفرق الجوهري بين الموهبة والتدريب، الموهوب يمتلك السرّ، وعادة ما يكون على نحو فطري، أما المتدرّب فهو يتخبّط حول دائرة ذلك السر، ولا يصل اليه وقد لا يعرفه من الأساس، فالتدريب بلا شك وبتسلسل مدروس قائم على التنامي المعرفي، في الميادين البحثية عبر الأزمان، يعطيك المهارة ويكسبك لها طال المدى أو قصر، وكل ذلك مرهون بإصرارك الدؤوب نحو الاستمرارية، ويظل العلم في تنام لسلاسل نمطية تُكسبك المهارة، الى أن تأتي الموهبة كونها وبصفتها هبة ربّانية، ومهارة فطرية لدى الفرد فتكسر كل تلك الأنظمة والقوانين، وتكشف لنا بأن بعض المهارة صنعة وطبيعة، وهو سرّها الذي يكسبك المهارة متى اكتشفتها والى الأبد وعلى نحو احترافي.
وجاء الحديث مؤخرا عن مهارة ميسّي لاعب كرة القدم العالمي، كمثال قوي حقيقي صادق على أن التمرين والمران قد لا يكشف عن السرّ الحقيقي وراء جوهر الحرفة وإتقانها، فهو لا يمتلك كل الصفات الفريدة التي يمتلكها أقرانه، والتي يكسبهم لها التدريب المتواصل، فهو ليس الأسرع ولا الأقوى ولا الأكثر مرونة، بل هو يمتلك صفة فريدة من التفكير النمطي المتكرر، ليكون قادرا وخلال أجزاء من الثانية على اتخاذ القرار حول ما هو صائب حقا، فهو يظل في تفكير وتخطيط متواصل حين يمتلك الكرة، فيصب كامل تركيزه على إحراز الهدف.
وبعض المدربين والكتّاب والمفكرين يمتلكون السرّ فلا يفصحون عنه، فيعطونك تدريبات تكسبك المهارة العادية، فيظل سرّ الصنعة في بئر جافة، وكأنهم يخافون أن ينطلي عليهم القول من عرف سرّك ملكك، وإن كان السرّ بين ثلاثة لم يعد سرا من الأساس، الا أن تلك الأسرار وإن امتلكت حقاً سلطة التصرف بها وبحريّة الإفصاح عنها أو كتمانها، وبأنك صاحب القرار الأول والأخير في ذلك بلا شك، إلا أنك تكون أمام مسؤولية تامة بفك شيفرة ذلك السر، ومحاولة استخلاص الدرس منه، وتحويله الى خبرة تنموية تتناقلها الأجيال، وبما فيها الخبرة المهنية وذلك السرّ المتفرّد في الاحترافية.
وإن كان سرّ الفكرة تجاوزها، وسرّ التدريب لزمة مهارة، وسرّ الحديث خلاصته، وسرّ التدريب المواصلة، وسرّ الاكتشاف التفكّر، وسرّ المنطق الموازنة بين السبب والنتيجة، وسرّ البرمجة دهشة تنقل العقل الى وضعية الذهول القابلة للانصياع، وسرّ الخيال التصورات الذهنية، فإن سرّ كل ذلك هو أغنية فكرية بإيقاع من إقناع.
وكمثال على سرّ الصنعة نأخذ الكتب ومهارة الكتابة، كمثال يقاس عليه بقية المجالات والمهارات، فعلى الكاتب أن يعرف المعنى الجوهري العميق، وتلك الرسالة الهامسة التي تُخفيها صفحات الكتاب، وأن يكون على حرص شديد بأن يصل الى القارئ عبر سطور وكلمات الكتاب، فكأن الحروف وكل أجزاء الكتاب تتآلف لتشن هجوما على ذهن القارئ، فتجعله مطواعا ليكتسب الفكرة قسْرا وينطلي عليه المثل ( ضربة بضربة ).
ولا يكون تقديم ذلك الجوهر الا كما تكون عليه اللآلئ في البحث مدفونة في العمق، لابد من تهيئة قوامها بالدهشة وفتحها برويّة لأنها ظلت لأزمان بعيدة متكلّسة بقشرة صلداء، ماذا لو تآلفت الأجزاء البعيدة لنصرة المعنى المستهدف، ليكون أشبه بشنّ هجوم من كل ما حولك باتجاه ذلك المعنى والغاية.
فعندما يغنّي العقل تكون أغنيته بلحن وإيقاع الإقناع، وبينما يرى البعض ذلك الإقناع لا يتعدّى كونه ترتيب الأفكار والمحاججة بمنطق؛ ليتجاوزها إلى برمجة لغوية عصبية، فتصبح الغايات وإن بعُد مداها متحققة لا ريب، وبينما يرى الآخرون أن أسلوب الإقناع الأول هو ترتيب الأفكار أو اقترانها بالحجة القوية؛ أجد أن الإقناع في جوهره برمجة، فهل يتجاوز الإقناع الحقيقة ويفوقها؟
وإن كانت تلك البرمجة عبارة عن مجموعة من أنظمة التشغيل، التي تعمل عليها مجموعة من القطع، نحن بحاجة الى ثلاثية العقل والقلب والحواس، نتأرجح فيما بينها لتمهيدها لمرحلة قادمة مدروسة، وشحذ الحواس لخوض التجربة من خلال الكتاب، ليتعدّى كونه للقراءة فقط بل يتعدّاها ليطال البرمجة أيضا، فيجد القارئ نفسه أمام تجربة فريدة عليه أن يخوضها بنفسه مع الكتاب، بحيث يُرغمه الكاتب على تجارب حسية بعقله، يقيس من خلالها أفكار الكتاب لتكون النتيجة الاستفادة الفورية من الكتاب و(ضربة بضربة).
وبعودة الى بقية المهارات الأخرى مبتعدين عن الكتاب، ولأن السرّ شيء ثمين تماما كتلك المحارة التي تحتضن لؤلؤتها في عمق المحيط، مطمورة برمل البحر، ومخبأة ما بين الشعب المرجانية، فإنه يصعب عليك الحصول عليها بدون عناء مشابه لمشقة ومغامرة البحّارين الغوّاصين القدامى في جمع لآلئ البحار الثمينة، ولأن مثل هذه الكنوز لا تُهدى بلا مقابل فيحتفظ كل منه بسرّ صنعته لنفسه، كونها حصيلة خبرات توازي حياته بأكملها، ويعرف جيدا الكم الكبير من الوقت والجهد والتضحيات، ليحصل عليه فلا تناله منه جاهزا، فتصبح أنت أمام مهمة قد تنقلك الى تغيير جذري في مجالك، وهو اكتشاف سرّ الصنعة لوحدك، والذي لا يأتي الا عبر سلسلة تدريبات نمطية، وإن تبدّت لك مدروسة وحصيلة لتراكم العلم؛ بل هو يُستكشف بعد تأمل وسبر لأغوار جوهر المهارة، والذي ما أن تملكه حتى تكون امتلكت الخبرة الاحترافية كاملة، فيكون بذلك سرّك في بئر طافٍ.
وفي المقابل من ذلك؛ وفي زاوية وركن قصي من الجانب الآخر، نجد أقوالا تنافي ذلك القانون الفيزيائي الكوني ( لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار)، نجده يتنافى وعلى نحو فيه تجرؤ على تلك القوانين والأقوال سالفة الذكر، فتأتي لتناقضها أقوال على شاكلة إقرأ ١٠٠٠ كتاب لتصبح كاتبا، وتمرّن على نحو عدد من المئات من الساعات؛ لتكتسب الخبرة بعد سلسلة من التمارين المتسلسلة، فيقول لسان حالك متغنّيا ' طويل جدا مشواري '، وهو يعرف جيّدا بأن الطريق الطويلة تتخللّها المنعطفات وفي كل الاتجاهات، مما يجعله وبلا أدنى ريب عرضة بأن يغيّر مساره، بعد أن يكون قد قطع أميالا من الجهد، وأنفق أموالا وأهدر وقتا كثيرا، لكنها الطريق القصيرة التي تكون نهايتها ضمن حدود تصورات دهشتنا هي من تجعلنا نصل للنهاية، فكما أن الطريق تقاس بعدد الخطوات، فليس من العدل في شيء أن يكون ١٠٠ كتاب تعادله خبرة لا تتجاوز معرفة ٣ كتب أو أقل حتى.
وليس من الصفات العصرية أن نقبل بأن تكون المعرفة على نحو متنام على الدوام، بحيث تكون غير قابلة للقياس بصفة أبدية، فنترك ذلك التنامي لفكرة الاندماج الحيوي الذي يطول مداه، فتقرأ مئات الكتب فيكون اكتسابك للغة والمعرفة على نحو متنام لا تشعر به، وتتدرب مئات الساعات فتكتسب الخبرة على نحو تدريجي لا تشعر به، وتخوض سلسلة من التجارب والخبرات فلا يكون لتأثيراتها صور قابلة للملاحظة، إلا عبر السنين وعلى نحو يصعب قياسه ويستحيل البتّ فيه.
نحن بحاجة الى شريعة حمورابي البابلية، والتي كانت من أقدم القوانين المكتوبة في نقليّات الحضارات القديمة، والتي احتفظ بها فيما بعد في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية، وبحاجة الى لكنة العماني في الإقناع ( ضربة بضربة )، نحن بحاجة أن يكون لكل شيء مفعول فوري يسهل قياسه، ومعرفة مدى تأثيره مرة بعد مرة، بعد كل ساعة تدريبية من الجيّد والضروري أن تعرف بأنك قطعت شوطا ليس بالقليل، بعد كل كتاب تقرأه تدرك كم أنك اكتسبت خبرات تفوق عدد صفحاته المائة فرضا، لتطال الاستفادة عدد الحروف وإيقاعاتها، وتشابه ألياف الأوراق وتراصّها ما بين الجلدتين، بحيث يكون للكتاب الواحد تأثيره الذي يتناسب مع هدف الكتابة الذي كتب من أجله.
لتحاول إيقاف ذلك التنامي المجهول، والذي ظلّ لسنين يحافظ على سرّه، لتعرف سر كل تلك المهارات وجوهرها فنقول ' سرك في بئر طافٍ '، فنعرف بذلك سر كل صنعة، فنتقن ذلك السرّ متجاهلين ما عداه، والذي يأتي لاحقا وليعرف الكاتب أولا جوهر كتابه ليعرف القارئ فيما بعد ذلك السر، فيكتسبه على نحو يعادل قراءته لصفحات الكتاب كاملة.
ذلك هو الفرق الجوهري بين الموهبة والتدريب، الموهوب يمتلك السرّ، وعادة ما يكون على نحو فطري، أما المتدرّب فهو يتخبّط حول دائرة ذلك السر، ولا يصل اليه وقد لا يعرفه من الأساس، فالتدريب بلا شك وبتسلسل مدروس قائم على التنامي المعرفي، في الميادين البحثية عبر الأزمان، يعطيك المهارة ويكسبك لها طال المدى أو قصر، وكل ذلك مرهون بإصرارك الدؤوب نحو الاستمرارية، ويظل العلم في تنام لسلاسل نمطية تُكسبك المهارة، الى أن تأتي الموهبة كونها وبصفتها هبة ربّانية، ومهارة فطرية لدى الفرد فتكسر كل تلك الأنظمة والقوانين، وتكشف لنا بأن بعض المهارة صنعة وطبيعة، وهو سرّها الذي يكسبك المهارة متى اكتشفتها والى الأبد وعلى نحو احترافي.
وجاء الحديث مؤخرا عن مهارة ميسّي لاعب كرة القدم العالمي، كمثال قوي حقيقي صادق على أن التمرين والمران قد لا يكشف عن السرّ الحقيقي وراء جوهر الحرفة وإتقانها، فهو لا يمتلك كل الصفات الفريدة التي يمتلكها أقرانه، والتي يكسبهم لها التدريب المتواصل، فهو ليس الأسرع ولا الأقوى ولا الأكثر مرونة، بل هو يمتلك صفة فريدة من التفكير النمطي المتكرر، ليكون قادرا وخلال أجزاء من الثانية على اتخاذ القرار حول ما هو صائب حقا، فهو يظل في تفكير وتخطيط متواصل حين يمتلك الكرة، فيصب كامل تركيزه على إحراز الهدف.
وبعض المدربين والكتّاب والمفكرين يمتلكون السرّ فلا يفصحون عنه، فيعطونك تدريبات تكسبك المهارة العادية، فيظل سرّ الصنعة في بئر جافة، وكأنهم يخافون أن ينطلي عليهم القول من عرف سرّك ملكك، وإن كان السرّ بين ثلاثة لم يعد سرا من الأساس، الا أن تلك الأسرار وإن امتلكت حقاً سلطة التصرف بها وبحريّة الإفصاح عنها أو كتمانها، وبأنك صاحب القرار الأول والأخير في ذلك بلا شك، إلا أنك تكون أمام مسؤولية تامة بفك شيفرة ذلك السر، ومحاولة استخلاص الدرس منه، وتحويله الى خبرة تنموية تتناقلها الأجيال، وبما فيها الخبرة المهنية وذلك السرّ المتفرّد في الاحترافية.
وإن كان سرّ الفكرة تجاوزها، وسرّ التدريب لزمة مهارة، وسرّ الحديث خلاصته، وسرّ التدريب المواصلة، وسرّ الاكتشاف التفكّر، وسرّ المنطق الموازنة بين السبب والنتيجة، وسرّ البرمجة دهشة تنقل العقل الى وضعية الذهول القابلة للانصياع، وسرّ الخيال التصورات الذهنية، فإن سرّ كل ذلك هو أغنية فكرية بإيقاع من إقناع.
وكمثال على سرّ الصنعة نأخذ الكتب ومهارة الكتابة، كمثال يقاس عليه بقية المجالات والمهارات، فعلى الكاتب أن يعرف المعنى الجوهري العميق، وتلك الرسالة الهامسة التي تُخفيها صفحات الكتاب، وأن يكون على حرص شديد بأن يصل الى القارئ عبر سطور وكلمات الكتاب، فكأن الحروف وكل أجزاء الكتاب تتآلف لتشن هجوما على ذهن القارئ، فتجعله مطواعا ليكتسب الفكرة قسْرا وينطلي عليه المثل ( ضربة بضربة ).
ولا يكون تقديم ذلك الجوهر الا كما تكون عليه اللآلئ في البحث مدفونة في العمق، لابد من تهيئة قوامها بالدهشة وفتحها برويّة لأنها ظلت لأزمان بعيدة متكلّسة بقشرة صلداء، ماذا لو تآلفت الأجزاء البعيدة لنصرة المعنى المستهدف، ليكون أشبه بشنّ هجوم من كل ما حولك باتجاه ذلك المعنى والغاية.
فعندما يغنّي العقل تكون أغنيته بلحن وإيقاع الإقناع، وبينما يرى البعض ذلك الإقناع لا يتعدّى كونه ترتيب الأفكار والمحاججة بمنطق؛ ليتجاوزها إلى برمجة لغوية عصبية، فتصبح الغايات وإن بعُد مداها متحققة لا ريب، وبينما يرى الآخرون أن أسلوب الإقناع الأول هو ترتيب الأفكار أو اقترانها بالحجة القوية؛ أجد أن الإقناع في جوهره برمجة، فهل يتجاوز الإقناع الحقيقة ويفوقها؟
وإن كانت تلك البرمجة عبارة عن مجموعة من أنظمة التشغيل، التي تعمل عليها مجموعة من القطع، نحن بحاجة الى ثلاثية العقل والقلب والحواس، نتأرجح فيما بينها لتمهيدها لمرحلة قادمة مدروسة، وشحذ الحواس لخوض التجربة من خلال الكتاب، ليتعدّى كونه للقراءة فقط بل يتعدّاها ليطال البرمجة أيضا، فيجد القارئ نفسه أمام تجربة فريدة عليه أن يخوضها بنفسه مع الكتاب، بحيث يُرغمه الكاتب على تجارب حسية بعقله، يقيس من خلالها أفكار الكتاب لتكون النتيجة الاستفادة الفورية من الكتاب و(ضربة بضربة).
وبعودة الى بقية المهارات الأخرى مبتعدين عن الكتاب، ولأن السرّ شيء ثمين تماما كتلك المحارة التي تحتضن لؤلؤتها في عمق المحيط، مطمورة برمل البحر، ومخبأة ما بين الشعب المرجانية، فإنه يصعب عليك الحصول عليها بدون عناء مشابه لمشقة ومغامرة البحّارين الغوّاصين القدامى في جمع لآلئ البحار الثمينة، ولأن مثل هذه الكنوز لا تُهدى بلا مقابل فيحتفظ كل منه بسرّ صنعته لنفسه، كونها حصيلة خبرات توازي حياته بأكملها، ويعرف جيدا الكم الكبير من الوقت والجهد والتضحيات، ليحصل عليه فلا تناله منه جاهزا، فتصبح أنت أمام مهمة قد تنقلك الى تغيير جذري في مجالك، وهو اكتشاف سرّ الصنعة لوحدك، والذي لا يأتي الا عبر سلسلة تدريبات نمطية، وإن تبدّت لك مدروسة وحصيلة لتراكم العلم؛ بل هو يُستكشف بعد تأمل وسبر لأغوار جوهر المهارة، والذي ما أن تملكه حتى تكون امتلكت الخبرة الاحترافية كاملة، فيكون بذلك سرّك في بئر طافٍ.