لغتنا العربية يُسر لا عُسر
السبت / 29 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 19:43 - السبت 24 ديسمبر 2022 19:43
مازلت أتذكر مقولة لطه حسين التي كان يبدأ بها مقدمة لأحاديثه الإذاعية من خلال الإذاعة المصرية، في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وبقيت هذه الجملة عالقة في ذهني أتذكرها حينما أرى واقع اللغة العربية وتراجع دورها: 'اللغة العربية يُسر لا عُسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها كما أضاف إليها الأقدمون'. ولو كان طه حسين قائما بيننا الآن لشعر بالألم والمرارة من الحالة التي آلت إليها لغتنا التي شيدنا بها حضارة عملاقة اعتمد عليها الأوروبيون في بداية نهضتهم الحديثة، من قبيل ما كتبه ابن رشد والفارابي وابن الهيثم وغيرهم كثيرون.
لقد هانت علينا لغتنا، والمتابع لبرامجنا الإعلامية والتعليمية يلحظ تراجعًا واضحًا، حتى في المؤسسات الأكاديمية المعنية بالعلوم الإنسانية، من قبيل المؤرخون والباحثون الجدد في علوم الاجتماع والسياسة وغير ذلك من المعارف الأخرى، وهو ما يذكرنا بما كان يقول به البعض خلال النصف الأول من القرن الماضي، من عدم قدرة اللغة العربية على استيعاب الحضارة المعاصرة بكل تعقيداتها الفنية، لدرجة أن بعضهم طالب باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، بحجة صعوبة استخدام الحروف العربية في الكتابات العلمية، وهي دعاوى وجدت قبولا من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، لدرجة أن الفرنسيين عندما احتلوا الجزائر أقدموا على إغلاق المدارس والكتاتيب، كما ضيقوا على اللغة العربية في مصر، إلا أن الأزهر كان بمثابة حائط صد حال دون شيوع هذه الثقافة.
لقد قاوم العرب كل المحاولات التي دعي إليها الأوروبيون ومن قبلهم العثمانيين، ورغم ذلك فان لغتنا العربية تواجه اليوم إهمالًا وتراجعًا ملحوظًا، وهو ما يبدو في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، ويبدو ذلك جليًا في لافتات المحلات والمؤسسات الحكومية والخاصة، لدرجة أن كثيرًا من اللافتات هي أسماء أجنبية كتبت بحروف عربية، وتبدو الصورة أكثر قتامة في مدارسنا وجامعاتنا بما في ذلك المدارس والكليات المعنية باللغة العربية، حيث يلقي الأساتذة والمدرسون دروسهم باللهجات العامية، كما نلاحظ كل يوم الأخطاء التي يقع فيها كبار المسئولين وهم يلقون خطبهم، إلا أن القليل من القادة قد حرصوا على عنايتهم باللغة العربية، أتذكر في مقدمتهم المرحوم السلطان قابوس، طيب الله ثراه، الذي كان حريصا في كل خطبه وبياناته على سلامة اللغة ودقة تعبيراتها.
لقد كانت هذه الظاهرة مثار اهتمام كبار مفكرينا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وفي مقدمتهم طه حسين الذي انزعج كثيرًا من تراجع العناية باللغة العربية، وقد أرجع هذه الظاهرة إلى الإفراط في قواعد النحو والصرف والبلاغة، على حساب المحتوى الفكري والثقافي، لدرجة انه كثيرا ما كان يقول: 'إن أقبح الخطأ وأشنعه أن نظن أن اتفاق النحو يُمكَّن من اتفاق اللغة، فالنحو فلسفة والكثير منه ترف للمثقفين'.
لا نتصور أن طه حسين كان من الداعين إلى إلغاء النحو والصرف والبلاغة، وإنما كان من المؤمنين بإن هذه القواعد تُفهم في سياقها الأدبي والفكري أكثر مما تُفهم في قواعدها المعجمية، وأن الهدف من دروس اللغة هو تثقيف العقل وتزكية القلب والارتقاء بالذوق، وأن كل ذلك يتحقق من النصوص الأدبية والفكرية والثقافية، أكثر مما يتحقق بالقواعد اللغوية والمعجمية الصارمة.
إذا كان طه حسين قد أثار هذه القضية منذ ما يقرب من تسعين عاما، حينما كتب كتابه الشهير 'مستقبل الثقافة في مصر'، إلا أننا نلاحظ في حياتنا المعاصرة شيئًا خطيرًا أكثر تأثيرا على هويتنا العربية، حينما أقدمت الطبقة الوسطى وما فوقها من إلحاق أبنائهم في المدارس الأجنبية، يتعلمون لغتها وثقافتها اعتقادًا من الآباء بإنها الوسيلة العملية لانخراط الأبناء والبنات في الحياة المعاصرة، التي لم يعد للغة العربية دور فيها، ولا مانع من تدريس اللغة العربية كلغة ثانية أو ثالثة، لكي ينتهي مصيرها إلي لغة متحفية.
تعلُّم اللغات الأجنبية أمر هام وضروري في الحياة المعاصرة، شريطة أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأولى والأساسية، يدرس بها طلابنا مختلف صنوف المعارف الأدبية والفكرية، باعتبارها لغة الهوية وهي الأقرب إلى نفوس الناشئة، فهي لغة الحياة اليومية وبجانبها يدرس الطلاب اللغات الأجنبية، فكل الأمم الناهضة في الحياة المعاصرة قد عُنيت بلغاتها، وبجانبها يتعلم الطلاب لغة أو لغتين من اللغات العالمية.
أعتقد انه لا سبيل إلى ذلك إلا بجعل اللغة العربية في مرحلة التعليم الأساسي هي اللغة الوحيدة، بها يتعلم الأبناء القراءة والكتابة وما يتيسر من نصوص قرآنية يتم اختيارها بعناية، فضلًا عن بعض النصوص الأدبية والشعرية، وما يتيسر من تراث العرب وحضارتهم، وأن يتم تعلم اللغات الأجنبية ابتداء من المرحلة الإعدادية وما بعدها، ولدينا تجارب في حياتنا العلمية، حينما كان التعليم في بعض أقطارنا العربية يتم بهذه الطريقة التي أخرجت إلينا شوامخ من العلماء والمفكرين، حصل بعضهم على جائزة نوبل.
القضية جد خطيرة، ونحن على ثقة بأنها موضع عناية المسئولين عن السياسات التعليمية، وإلا فان مستقبل لغتنا خلال العقود القادمة وما بعدها محفوف بالمخاطر، في ظل هيمنة الثقافات الوافدة التي أحالتنا إلى أمةً مستهلكة ليس للمنتجات الصناعية والعلمية فقط وإنما للثقافة بمعناها اللغوي والاجتماعي والفكري، وهو ما يهدد هويتنا العربية.. لا أجد حرجا في أن أقول أننا أمة ثقافتها في خطر.
د. محمد صابر عرب
لقد هانت علينا لغتنا، والمتابع لبرامجنا الإعلامية والتعليمية يلحظ تراجعًا واضحًا، حتى في المؤسسات الأكاديمية المعنية بالعلوم الإنسانية، من قبيل المؤرخون والباحثون الجدد في علوم الاجتماع والسياسة وغير ذلك من المعارف الأخرى، وهو ما يذكرنا بما كان يقول به البعض خلال النصف الأول من القرن الماضي، من عدم قدرة اللغة العربية على استيعاب الحضارة المعاصرة بكل تعقيداتها الفنية، لدرجة أن بعضهم طالب باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، بحجة صعوبة استخدام الحروف العربية في الكتابات العلمية، وهي دعاوى وجدت قبولا من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، لدرجة أن الفرنسيين عندما احتلوا الجزائر أقدموا على إغلاق المدارس والكتاتيب، كما ضيقوا على اللغة العربية في مصر، إلا أن الأزهر كان بمثابة حائط صد حال دون شيوع هذه الثقافة.
لقد قاوم العرب كل المحاولات التي دعي إليها الأوروبيون ومن قبلهم العثمانيين، ورغم ذلك فان لغتنا العربية تواجه اليوم إهمالًا وتراجعًا ملحوظًا، وهو ما يبدو في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، ويبدو ذلك جليًا في لافتات المحلات والمؤسسات الحكومية والخاصة، لدرجة أن كثيرًا من اللافتات هي أسماء أجنبية كتبت بحروف عربية، وتبدو الصورة أكثر قتامة في مدارسنا وجامعاتنا بما في ذلك المدارس والكليات المعنية باللغة العربية، حيث يلقي الأساتذة والمدرسون دروسهم باللهجات العامية، كما نلاحظ كل يوم الأخطاء التي يقع فيها كبار المسئولين وهم يلقون خطبهم، إلا أن القليل من القادة قد حرصوا على عنايتهم باللغة العربية، أتذكر في مقدمتهم المرحوم السلطان قابوس، طيب الله ثراه، الذي كان حريصا في كل خطبه وبياناته على سلامة اللغة ودقة تعبيراتها.
لقد كانت هذه الظاهرة مثار اهتمام كبار مفكرينا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وفي مقدمتهم طه حسين الذي انزعج كثيرًا من تراجع العناية باللغة العربية، وقد أرجع هذه الظاهرة إلى الإفراط في قواعد النحو والصرف والبلاغة، على حساب المحتوى الفكري والثقافي، لدرجة انه كثيرا ما كان يقول: 'إن أقبح الخطأ وأشنعه أن نظن أن اتفاق النحو يُمكَّن من اتفاق اللغة، فالنحو فلسفة والكثير منه ترف للمثقفين'.
لا نتصور أن طه حسين كان من الداعين إلى إلغاء النحو والصرف والبلاغة، وإنما كان من المؤمنين بإن هذه القواعد تُفهم في سياقها الأدبي والفكري أكثر مما تُفهم في قواعدها المعجمية، وأن الهدف من دروس اللغة هو تثقيف العقل وتزكية القلب والارتقاء بالذوق، وأن كل ذلك يتحقق من النصوص الأدبية والفكرية والثقافية، أكثر مما يتحقق بالقواعد اللغوية والمعجمية الصارمة.
إذا كان طه حسين قد أثار هذه القضية منذ ما يقرب من تسعين عاما، حينما كتب كتابه الشهير 'مستقبل الثقافة في مصر'، إلا أننا نلاحظ في حياتنا المعاصرة شيئًا خطيرًا أكثر تأثيرا على هويتنا العربية، حينما أقدمت الطبقة الوسطى وما فوقها من إلحاق أبنائهم في المدارس الأجنبية، يتعلمون لغتها وثقافتها اعتقادًا من الآباء بإنها الوسيلة العملية لانخراط الأبناء والبنات في الحياة المعاصرة، التي لم يعد للغة العربية دور فيها، ولا مانع من تدريس اللغة العربية كلغة ثانية أو ثالثة، لكي ينتهي مصيرها إلي لغة متحفية.
تعلُّم اللغات الأجنبية أمر هام وضروري في الحياة المعاصرة، شريطة أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأولى والأساسية، يدرس بها طلابنا مختلف صنوف المعارف الأدبية والفكرية، باعتبارها لغة الهوية وهي الأقرب إلى نفوس الناشئة، فهي لغة الحياة اليومية وبجانبها يدرس الطلاب اللغات الأجنبية، فكل الأمم الناهضة في الحياة المعاصرة قد عُنيت بلغاتها، وبجانبها يتعلم الطلاب لغة أو لغتين من اللغات العالمية.
أعتقد انه لا سبيل إلى ذلك إلا بجعل اللغة العربية في مرحلة التعليم الأساسي هي اللغة الوحيدة، بها يتعلم الأبناء القراءة والكتابة وما يتيسر من نصوص قرآنية يتم اختيارها بعناية، فضلًا عن بعض النصوص الأدبية والشعرية، وما يتيسر من تراث العرب وحضارتهم، وأن يتم تعلم اللغات الأجنبية ابتداء من المرحلة الإعدادية وما بعدها، ولدينا تجارب في حياتنا العلمية، حينما كان التعليم في بعض أقطارنا العربية يتم بهذه الطريقة التي أخرجت إلينا شوامخ من العلماء والمفكرين، حصل بعضهم على جائزة نوبل.
القضية جد خطيرة، ونحن على ثقة بأنها موضع عناية المسئولين عن السياسات التعليمية، وإلا فان مستقبل لغتنا خلال العقود القادمة وما بعدها محفوف بالمخاطر، في ظل هيمنة الثقافات الوافدة التي أحالتنا إلى أمةً مستهلكة ليس للمنتجات الصناعية والعلمية فقط وإنما للثقافة بمعناها اللغوي والاجتماعي والفكري، وهو ما يهدد هويتنا العربية.. لا أجد حرجا في أن أقول أننا أمة ثقافتها في خطر.
د. محمد صابر عرب