صوت من البعيد (7): "بطاقة شخصية" لعبدالعزيز المقالح
الاثنين / 17 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 20:30 - الاثنين 12 ديسمبر 2022 20:30
(1)
نشرتْ مجلة نزوى في عددها التاسع والثمانين الصادر في الأول من يناير عام 2017م نصا للشاعر اليمني الراحل عبدالعزيز المقالح بعنوان (بكائية لعام 2016م)، استحضر فيه دلالات الرحيل والموت والقبر بعد أنْ ضاقت الحياة بالإنسان، وصارت الحرب والجوع شبحا يُهيمنُ على الإنسانية. وقبل انقضاء هذا العام بشهر واحد يرحل المقالح عن عالمنا مُودّعا الحياة والكتابة الأدبية والمشهد الثقافي بعد أن نَقَلَ لنا الواقع، وصّوَّرَ الحياة في كتاباته، وسجّل اعتراضه على الأحداث، وقدّمَ للقارئ إرثا إبداعيا في النقد والأدب والشعر.
أعود إلى بكائية المقالح التي ودّعَ فيها عام 2016م وعبّر فيها عن مآسٍ أطبقتْ على العالم، وبلغة حزينة يكون معها متأملا في الرحيل والقبر اللذين وجد فيهما مكانا أرحب من الكون الذي يعيشه يفتتح نصّه قائلا:
دثّرِيني
وشدِّي على كفني
ودعي فتحةً فيه
أرقب منها
رفيف الفراشات
أسمع صوتَ المياه التي تتحدّر
-في ضحوةٍ- من أعالي الجبال
وأشعر لو لحظةً
أن شيئا جميلا
سأفقده حين أطوي
بساط الحياة.
ولأنه ابن الواقع والحياة والإنسانية فإنه استحضر المأساة التي كان شاهدا عليها في بلده، وكان شاهدا على الحرب التي أحالت بلاده أرضا ممزّقة ينهشها الجوع والفقر والمرض:
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.
إنّ بكائية المقالح ليست إلا بكائية على الوطن الذي كان يأمل أن يراه مُحلّقا في الأعالي، وهنا نجده يعقد مقارنة بين المكان/ الوطن، وبين المكان/ القبر الذي سيرحل إليه، وسيلتقي فيه بأهله:
دثّريني
فقد أصبح الموت
أمنيةً
بعد أن جاعت الأرض
وافتقدت خبز أبنائها
وطوى الصمتُ بؤسَ الكلام
الذي ظل يحرث في البحر
أوهامَهُ
ويبعثر أحلام أمتهِ
في الهواء.
* * *
دثّريني
فإني أرى القبر
أوسعَ من هذه الأرض
أوسع من بحرها
وأرى فيه شمسا
أحَنّ وأرأف من هذه الشمس
أشهد فيه نجومًا ملونةً
وملائكةً في الفضاء المديد
تصلّي
وتغسل بعض ذنوب البشرْ.
* * *
دثّريني
فإن أبي... إخوتي
في انتظاري
وأصحابي الأوفياء،
وأمي التي حين غابتْ
وغاب سناها
تمنّيت لو أنهم حملوني
على نعشها
وانتهت عندها قصتي
في الحياةْ.
(2)
في نصه (بطاقة شخصية) يرسم المقالح صورة لنفسه، ويكتب بطاقته الشخصية بيده، وفيها يصوّر نفسه غريبا في أرضه، منفيا عنها، قادما من أزمنة بعيدة فتنكرُهُ الأرضُ، ويرفضه الناسُ. وتعود دلالة القبر في الظهور، والتي على ما يبدو أنها دلالة تتشكّل في نصوص عدّة عنده، وكأنه فضاء يُحبُّ اللجوء إلى استحضاره في نصوصه، والانصهار فيه. يصوّر المقالح الصورة التي عليها في النص قائلا:
جئت في الكف تراب
وعلى العين نقوش من بقايا 'سد مأرب'
كنت منفيا وراء العصر،
أجترّ انخذالاتي، بلا سيف أحارب
وأخيرا حملتني دهشة العصر،
بعيدا عن مسارات العناكب
فتكلمت
وضعت الإصبع المشلول من فوق الزناد
إن أكن أخطأت فالذنب لكفي
إن يكن صوتي طينيا وهشّا
إن يكن لحن سواد
فأنا بعض الرماد
صوت مقبور قدیم،
نفض القبر، وعاد.
(3)
ذكرتُ أعلاه أنّ المقالح عاش مآسي الوطن، وجراحات الشعب وآلامه في غير نص؛ نجد آهاته اليمانية حاضرة على سبيل المثال في نص (أشجان يمانية)، وفي (رسالة إلى سيف بن ذي يزن)، وفي (صنعاء القصيدة) وغيرها من النصوص التي تشكّلت اليمن فيها، وبصوت شجيٍ حزين تسير قصيدة (أشجان يمانية) حاملة الوجع الداخلي، والنزف المتشكّل من عمق الألم حين يفتتح نصه قائلا:
يتملّكني حزن كل اليمانيين،
يفضحني دمعي،
جرحهم كلماتي،
وصوتي استغاثاتهم
يتسول في الطرقات الصدى
كلما قلت إن هواهم سيقتلني
ركضت نخلة الجوع في ليل منفاي
فانتفض العمر،
وارتعشت في الضلوع دفوف الحنين
وبين تقاسيم نخل 'الجنوب' وكرم 'الشمال'
يقوم كتاب الهوى
تدلى عناقيد بهجتنا
يغضب الرمل،
ترتعش الكلمات
تحاصرها شهوة الحقد
تمتد حولي أصابعها
أي قضبان سجن هنا ترتسم؟!
من يقرأ النص يشعر أنّ الدلالات تأخذ القارئ إلى المنافي وإلى لغة الجراح والنزف والوجع المتشكّل في صورة نصٍ شعريٍ يُحمّلُهُ الشاعر كل صرخات الإنسانية. إنّ اليمن صورة لا تفارق ذاكرة المقالح ومخيلته الشعرية، فيبني منها وطنا يحلم به، وقلبا ينبض بالحرية، وقبرا يضم جسده إلى الأبد.
وتتشكّل صورة الوطن في النص فتبرز دلالات الجراح والمنافي، يقول:
في العتمة
وطني.. وأنا
نسهر
نشكو للريح
نرسم وجه المنفى
نتساقى أكواب الدمع
حين يغالبني السكر
أراني وطني
من منا الوطن المنفي؟
من منا الجرح؟!
يا نار الماء اقتربي
مُدّي ظلك فوق عظامي
فوق عظام الوطن المنفي
فوق الجذع المتفجر بالدمع
وتلوح صنعاء في مخيلته الشعرية، فيقتنص حروفها الشعرية. إنّ صنعاء هي القصيدة، كما اختار في عتبة نصه (صنعاء القصيدة)، فلا شيء أجمل من أن يكون المكان متشكلا في صورة جمالٍ شعري. يصنع المقالح من صنعاء أنثى تتوزّع في أجزاء النص فهي (امرأة في الثلاثين، وسيدة لا تشيخ، ولا تعشق الليل، وتكره رائحة الغرباء، تكره لون الرمال، ووجه قراصنة البحر...).
إن المقالح هنا يعمل على تجسيد المدينة وإكسابها دلالات الأنثى ليكون أكثر ارتباطا والتصاقا بها، فتتفجّر دلالات الحب، والشوق، والحذر، والخوف من نصٍ يمزج بين الصورة المكانية وبين الحب:
يحاصرني صوت صنعاء
(صنعاء سيدة لا تشيخ
ولا تعشق الليل
تكره رائحة الغرباء
شكره واولا ترتدي
ولا ترتدي غير أحجارها)
من رأى امرأة في الثلاثين من عمرها
وهي لما تنمْ منذ قرنين
لا تعشق الليل
تكره لون الرمالِ
ووجه قراصنة البحر
ترقد في شرفة الذاكرة.
(تثاءبت المصابيح في شوارعك الضيقة
وخرج الزيت من دفاتر الجامع الكبير
للمآذن ظلٌّ يمتد من العين إلى القلب
ويذهب إلى الأرياف كرغيف يصلّي
صوت الروح الظامي يحرس وحشة الرؤوس
المغمورة بالإثم
والمرأة الصغيرة تجاوزت الأفق الغربي
ولم تتوقف للعناق
وسقطت دمعة كبيرة من نافذة العقد الملون
على أطراف الليل).
(4)
تظهر صورة عبدالعزيز المقالح الإنسان، والشاعر، والأديب، حين نستشعر ما كتبه عن البردوني في مقدّمة أعماله الشعرية الكاملة؛ إذ نقرأ في حروفه تواضع الشاعر تجاه الشاعر، وإحساسه بدلالة الكلمة، فيظهر المكان الذي ابتعد عنه حزينا شاحبا يعمل على استعادته من الذاكرة إلى عالم الكتابة لديه. إنّ المقالح ابنُ اليمن، وابن الأرض، وابن الشوارع والجبال اليمنية، يستعيد ذاكرة الأرض والشعر في كلماته عن البردوني شاعر اليمن التي يكتبها بلغة الأديب الذي تعينه الكلمات في التعبير:
'هل تستطيع الساقية أن تقدّم النهر؟
وهل يستطيع النهر أن يقدّم البحر؟'
ذلك ما يريده مني صديقي الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني. وهي إرادة عزيزة على نفسي، حبيبة إلى قلبي ولكنها كبيرة على قلمي ثقيلة على ذهني، هذا الذهن المجهد المكدود الذي أدركه الصدأ بعد أن عدت به إلى الوطن بعد غربة طويلة. فقد عدت مشوقا لا لكي أكتب أو أتحدث وإنما لكي أرى وأسمع وأقرأ؛ لأرى الشوارع التي مشيت عليها منذ السنوات الأولى من عمري ولكي أسمع المآذن التي أحببتها في طفولتي وأقرأ الجبال التي أدهشتني وأخافتني ولا تزال تدهشني وتخيفني!! أيها الصديق العزيز، لقد قرأت شعرك وأنا تلميذ في الابتدائية، وقرأته وأنا طالب في الإعدادية، وقرأته وأنا مدرس الثانوية وصار بيني وبينه ألفة العمر. ومن هنا تصورت -في فترة من الفترات- أنني أعرف الناس به، ثم اتضح لي وأنا أعيد قراءته من جديد أن الأشياء التي نألفها لا نعرفها كما ينبغي. لذلك فقد ابتعدت عنه اغتربت عن شعرك كما اغتربت عن الوطن لا لكي أعرفه أكثر، ولا لكي أحبه أكثر ولكن لكي أستطيع أن أتحدث عنه بعيداً عن عواطف الطفولة وسلطان المألوف!!
(5)
ها هو المقالح يرحل قبل دخول عامنا الجديد، وقبل أن يُرسل بكائية جديدة لعام آخر منصرم، وقبل أن يفتح الذاكرة بما تحمله من صُوّرٍ ومشاهد تكون شاهدة على العصر الذي نعيشه. عامٌ جديدٌ سيُقبلُ لكنّ المقالح لم يَعُدْ بيننا ليقدّم بكائية جديدة لعام قد أفل عنا، لقد قال في بكائيته السابقة ما يمكن أن يقال عن الوجع، والحزن، كان يأمل أن يرى اليمن أكثر إشراقا، وأن تعود متوشّحة البياض، البياض الذي قال فيه عن الشعر:
ملء عين القصيدة كان وسوف يكون
البياض يحاصره من طفولته
ويحاصر طقس الكتابة
كل الحروف محاصرةٌ بالبياض
ومطفأة بالبياض.
نشرتْ مجلة نزوى في عددها التاسع والثمانين الصادر في الأول من يناير عام 2017م نصا للشاعر اليمني الراحل عبدالعزيز المقالح بعنوان (بكائية لعام 2016م)، استحضر فيه دلالات الرحيل والموت والقبر بعد أنْ ضاقت الحياة بالإنسان، وصارت الحرب والجوع شبحا يُهيمنُ على الإنسانية. وقبل انقضاء هذا العام بشهر واحد يرحل المقالح عن عالمنا مُودّعا الحياة والكتابة الأدبية والمشهد الثقافي بعد أن نَقَلَ لنا الواقع، وصّوَّرَ الحياة في كتاباته، وسجّل اعتراضه على الأحداث، وقدّمَ للقارئ إرثا إبداعيا في النقد والأدب والشعر.
أعود إلى بكائية المقالح التي ودّعَ فيها عام 2016م وعبّر فيها عن مآسٍ أطبقتْ على العالم، وبلغة حزينة يكون معها متأملا في الرحيل والقبر اللذين وجد فيهما مكانا أرحب من الكون الذي يعيشه يفتتح نصّه قائلا:
دثّرِيني
وشدِّي على كفني
ودعي فتحةً فيه
أرقب منها
رفيف الفراشات
أسمع صوتَ المياه التي تتحدّر
-في ضحوةٍ- من أعالي الجبال
وأشعر لو لحظةً
أن شيئا جميلا
سأفقده حين أطوي
بساط الحياة.
ولأنه ابن الواقع والحياة والإنسانية فإنه استحضر المأساة التي كان شاهدا عليها في بلده، وكان شاهدا على الحرب التي أحالت بلاده أرضا ممزّقة ينهشها الجوع والفقر والمرض:
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.
إنّ بكائية المقالح ليست إلا بكائية على الوطن الذي كان يأمل أن يراه مُحلّقا في الأعالي، وهنا نجده يعقد مقارنة بين المكان/ الوطن، وبين المكان/ القبر الذي سيرحل إليه، وسيلتقي فيه بأهله:
دثّريني
فقد أصبح الموت
أمنيةً
بعد أن جاعت الأرض
وافتقدت خبز أبنائها
وطوى الصمتُ بؤسَ الكلام
الذي ظل يحرث في البحر
أوهامَهُ
ويبعثر أحلام أمتهِ
في الهواء.
* * *
دثّريني
فإني أرى القبر
أوسعَ من هذه الأرض
أوسع من بحرها
وأرى فيه شمسا
أحَنّ وأرأف من هذه الشمس
أشهد فيه نجومًا ملونةً
وملائكةً في الفضاء المديد
تصلّي
وتغسل بعض ذنوب البشرْ.
* * *
دثّريني
فإن أبي... إخوتي
في انتظاري
وأصحابي الأوفياء،
وأمي التي حين غابتْ
وغاب سناها
تمنّيت لو أنهم حملوني
على نعشها
وانتهت عندها قصتي
في الحياةْ.
(2)
في نصه (بطاقة شخصية) يرسم المقالح صورة لنفسه، ويكتب بطاقته الشخصية بيده، وفيها يصوّر نفسه غريبا في أرضه، منفيا عنها، قادما من أزمنة بعيدة فتنكرُهُ الأرضُ، ويرفضه الناسُ. وتعود دلالة القبر في الظهور، والتي على ما يبدو أنها دلالة تتشكّل في نصوص عدّة عنده، وكأنه فضاء يُحبُّ اللجوء إلى استحضاره في نصوصه، والانصهار فيه. يصوّر المقالح الصورة التي عليها في النص قائلا:
جئت في الكف تراب
وعلى العين نقوش من بقايا 'سد مأرب'
كنت منفيا وراء العصر،
أجترّ انخذالاتي، بلا سيف أحارب
وأخيرا حملتني دهشة العصر،
بعيدا عن مسارات العناكب
فتكلمت
وضعت الإصبع المشلول من فوق الزناد
إن أكن أخطأت فالذنب لكفي
إن يكن صوتي طينيا وهشّا
إن يكن لحن سواد
فأنا بعض الرماد
صوت مقبور قدیم،
نفض القبر، وعاد.
(3)
ذكرتُ أعلاه أنّ المقالح عاش مآسي الوطن، وجراحات الشعب وآلامه في غير نص؛ نجد آهاته اليمانية حاضرة على سبيل المثال في نص (أشجان يمانية)، وفي (رسالة إلى سيف بن ذي يزن)، وفي (صنعاء القصيدة) وغيرها من النصوص التي تشكّلت اليمن فيها، وبصوت شجيٍ حزين تسير قصيدة (أشجان يمانية) حاملة الوجع الداخلي، والنزف المتشكّل من عمق الألم حين يفتتح نصه قائلا:
يتملّكني حزن كل اليمانيين،
يفضحني دمعي،
جرحهم كلماتي،
وصوتي استغاثاتهم
يتسول في الطرقات الصدى
كلما قلت إن هواهم سيقتلني
ركضت نخلة الجوع في ليل منفاي
فانتفض العمر،
وارتعشت في الضلوع دفوف الحنين
وبين تقاسيم نخل 'الجنوب' وكرم 'الشمال'
يقوم كتاب الهوى
تدلى عناقيد بهجتنا
يغضب الرمل،
ترتعش الكلمات
تحاصرها شهوة الحقد
تمتد حولي أصابعها
أي قضبان سجن هنا ترتسم؟!
من يقرأ النص يشعر أنّ الدلالات تأخذ القارئ إلى المنافي وإلى لغة الجراح والنزف والوجع المتشكّل في صورة نصٍ شعريٍ يُحمّلُهُ الشاعر كل صرخات الإنسانية. إنّ اليمن صورة لا تفارق ذاكرة المقالح ومخيلته الشعرية، فيبني منها وطنا يحلم به، وقلبا ينبض بالحرية، وقبرا يضم جسده إلى الأبد.
وتتشكّل صورة الوطن في النص فتبرز دلالات الجراح والمنافي، يقول:
في العتمة
وطني.. وأنا
نسهر
نشكو للريح
نرسم وجه المنفى
نتساقى أكواب الدمع
حين يغالبني السكر
أراني وطني
من منا الوطن المنفي؟
من منا الجرح؟!
يا نار الماء اقتربي
مُدّي ظلك فوق عظامي
فوق عظام الوطن المنفي
فوق الجذع المتفجر بالدمع
وتلوح صنعاء في مخيلته الشعرية، فيقتنص حروفها الشعرية. إنّ صنعاء هي القصيدة، كما اختار في عتبة نصه (صنعاء القصيدة)، فلا شيء أجمل من أن يكون المكان متشكلا في صورة جمالٍ شعري. يصنع المقالح من صنعاء أنثى تتوزّع في أجزاء النص فهي (امرأة في الثلاثين، وسيدة لا تشيخ، ولا تعشق الليل، وتكره رائحة الغرباء، تكره لون الرمال، ووجه قراصنة البحر...).
إن المقالح هنا يعمل على تجسيد المدينة وإكسابها دلالات الأنثى ليكون أكثر ارتباطا والتصاقا بها، فتتفجّر دلالات الحب، والشوق، والحذر، والخوف من نصٍ يمزج بين الصورة المكانية وبين الحب:
يحاصرني صوت صنعاء
(صنعاء سيدة لا تشيخ
ولا تعشق الليل
تكره رائحة الغرباء
شكره واولا ترتدي
ولا ترتدي غير أحجارها)
من رأى امرأة في الثلاثين من عمرها
وهي لما تنمْ منذ قرنين
لا تعشق الليل
تكره لون الرمالِ
ووجه قراصنة البحر
ترقد في شرفة الذاكرة.
(تثاءبت المصابيح في شوارعك الضيقة
وخرج الزيت من دفاتر الجامع الكبير
للمآذن ظلٌّ يمتد من العين إلى القلب
ويذهب إلى الأرياف كرغيف يصلّي
صوت الروح الظامي يحرس وحشة الرؤوس
المغمورة بالإثم
والمرأة الصغيرة تجاوزت الأفق الغربي
ولم تتوقف للعناق
وسقطت دمعة كبيرة من نافذة العقد الملون
على أطراف الليل).
(4)
تظهر صورة عبدالعزيز المقالح الإنسان، والشاعر، والأديب، حين نستشعر ما كتبه عن البردوني في مقدّمة أعماله الشعرية الكاملة؛ إذ نقرأ في حروفه تواضع الشاعر تجاه الشاعر، وإحساسه بدلالة الكلمة، فيظهر المكان الذي ابتعد عنه حزينا شاحبا يعمل على استعادته من الذاكرة إلى عالم الكتابة لديه. إنّ المقالح ابنُ اليمن، وابن الأرض، وابن الشوارع والجبال اليمنية، يستعيد ذاكرة الأرض والشعر في كلماته عن البردوني شاعر اليمن التي يكتبها بلغة الأديب الذي تعينه الكلمات في التعبير:
'هل تستطيع الساقية أن تقدّم النهر؟
وهل يستطيع النهر أن يقدّم البحر؟'
ذلك ما يريده مني صديقي الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني. وهي إرادة عزيزة على نفسي، حبيبة إلى قلبي ولكنها كبيرة على قلمي ثقيلة على ذهني، هذا الذهن المجهد المكدود الذي أدركه الصدأ بعد أن عدت به إلى الوطن بعد غربة طويلة. فقد عدت مشوقا لا لكي أكتب أو أتحدث وإنما لكي أرى وأسمع وأقرأ؛ لأرى الشوارع التي مشيت عليها منذ السنوات الأولى من عمري ولكي أسمع المآذن التي أحببتها في طفولتي وأقرأ الجبال التي أدهشتني وأخافتني ولا تزال تدهشني وتخيفني!! أيها الصديق العزيز، لقد قرأت شعرك وأنا تلميذ في الابتدائية، وقرأته وأنا طالب في الإعدادية، وقرأته وأنا مدرس الثانوية وصار بيني وبينه ألفة العمر. ومن هنا تصورت -في فترة من الفترات- أنني أعرف الناس به، ثم اتضح لي وأنا أعيد قراءته من جديد أن الأشياء التي نألفها لا نعرفها كما ينبغي. لذلك فقد ابتعدت عنه اغتربت عن شعرك كما اغتربت عن الوطن لا لكي أعرفه أكثر، ولا لكي أحبه أكثر ولكن لكي أستطيع أن أتحدث عنه بعيداً عن عواطف الطفولة وسلطان المألوف!!
(5)
ها هو المقالح يرحل قبل دخول عامنا الجديد، وقبل أن يُرسل بكائية جديدة لعام آخر منصرم، وقبل أن يفتح الذاكرة بما تحمله من صُوّرٍ ومشاهد تكون شاهدة على العصر الذي نعيشه. عامٌ جديدٌ سيُقبلُ لكنّ المقالح لم يَعُدْ بيننا ليقدّم بكائية جديدة لعام قد أفل عنا، لقد قال في بكائيته السابقة ما يمكن أن يقال عن الوجع، والحزن، كان يأمل أن يرى اليمن أكثر إشراقا، وأن تعود متوشّحة البياض، البياض الذي قال فيه عن الشعر:
ملء عين القصيدة كان وسوف يكون
البياض يحاصره من طفولته
ويحاصر طقس الكتابة
كل الحروف محاصرةٌ بالبياض
ومطفأة بالبياض.