هل توجد فهود في السافانا؟
الأربعاء / 28 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 19:05 - الأربعاء 23 نوفمبر 2022 19:05
كتبت إحدى الصحفيات بعد صدورِ روايتي «نارنجة» بالانجليزية: هناك كليشيه بشأن أفريقيا في هذه الرواية لأن أحدَ الشخصيات كان في الكونغو، وجعلته الكاتبةُ يصيد الفهود، بينما في الواقع الكونغو هي بلاد سافانا، أو سهولٌ عشبية، أي لا يمكن أن يوجد بها نمور.
وهذا التعليقُ دفعني إلى التفكيرِ في الحدود ِالفاصلة، الحدودِ الحساسة، الحدودِ الرقيقة، أكاد أقول الحدود السحرية بين الواقعِ والخيال في الكتابة، بين الحقائقِ وتخييل الحقائق.
هل يجبُ علينا أن نكون صادقين في الكتابة؟ أليس كلُّ شيء يتغير قليلا بمجرد كتابته كما يعلمنا هيرمان هسه؟ هل يمكن أن نسمحَ للحواسِ بخداعنا في الكتابة؟
ما المسموحُ به في ميدان الغرائبية والخيال وهل هناك ما هو غير مسموح به؟ على المستوى النظري قد يقول النقاد إن ميزة الرواية أنها الشكلُ القابلُ للأشكال المتعددة، إذن هل هذا يعني أن كلَّ شيء مسموحٌ للكاتب؟ ما الدقةُ في الكتابة؟ وكيف نوفق بين الدقةِ والغرائبية؟ متى نقبلُ بحاسة بصرِ زرقاء اليمامةِ في الرواية ومتى نعدها مبالغةً أسطورية؟
إذا كنتَ تكتبُ مشهدا واقعيا تماما، في إطارٍ مكاني واضح، وإطارٍ زمني واضح، لنقل إنه التسعينات من القرن العشرين، حينئذ لا أتقبلُ أن أجدَ في نصك حوارا يتم عبر الانستا أو الفيس بوك. أتوقع كقارئ أن تراعي الدقةَ التاريخية، وتحترمَ حقيقةَ أن وسائلَ التواصل لم تظهر بعد في القرن العشرين الذي تدور فيه أحداثُ نصك الواقعية. لكن إن كنا نتحدثُ عن روايةٍ وصفت بالواقعية السحرية، مثل «مائة عام من العزلة»، حينئذ يتسق تماما مع الأحداثِ وجو الرواية الأسطوري أن تصعدَ ريميديوس الجميلة إلى السماء. يصبح هذا الحدثُ الاستثنائي كأنه ملمحٌ عاديٌ من الحياةِ اليومية لسكان ماكوندو، تلوح ريميديوس لأخوتها وهي تصعد، وتدعو أختُها بأن يعيد الله إليها ملاءاتِها. أنا كقارئ أقبل هذا بل أعجب به، لأن منطقَ الخيالِ في الرواية يسمح به، إنها لم تطر فجأة، إنما بعد تمهيداتٍ كثيرةٍ أعدَّها لها كاتب «مائة عام من العزلة»، فهي فتاةٌ استثنائية في طريقة عيشِها، وهي شديدة البراءة وحسنةُ الظن بكل الناس بمن فيهم عشاقُها والمتربصون لإيذائها، تمكن ماركيز من إيجاد فتاةٍ نقيةٍ شديدةِ الجمال، فتاة ملائكية عن حق، فكيف ستكونُ خاتمتُها؟! هل خدعت ريميديوس حواسَّنا باعتبارنا قراء؟ أظن أن الغالبيةَ العظمى من القراء قد سعدوا بطيرانها لأنهم رغبوا لها مصيراً متسامياً عن كلِّ البشر الآخرين. فهذه الخاتمة كانت مناسبةً تماماً لريميديوس، لكنما بعد قام الكاتب قبل ذلك بتهيئة كلِّ شيء لقبول هذه الخاتمة. نسمح لماركيز إذن بتضليل حواسنا، في الوقت الذي لا يسمحُ هذا المنطقُ نفسُه لنص شديدِ الواقعية أن يتحدث عن التواصلِ بالانستا قبل اختراعه.
إذن، نعم، ينبغي علينا توخي كلَّ هذه الدقةِ في الكتابة. ولكن لا ننسى أن الدقةَ لا تلغي الخيال بل تعززه. ألا يُسمَح للكتابة التخييليةِ أن تعطي إيحاءً بما يُحتمل أن يقع وبما لا يُحتمل وقوعُه أيضا؟
أقلقَ إحدى القارئات لرواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي مشهد المرأةَ التي سقطت في البئر فظل الجنينُ حيا في بطنها حتى انتُشِلَت، وأنقِذ الطفل. لكني وجدت هذا القلقَ غيرَ مبرر. ليحيا الجنينُ في بطن أمه الميتةِ متى شاء له السردُ أن يحيا، مادام ذلك متسقا مع جوِ الرواية كلِه، ومع العالمِ العجيب الذي سيتشكلُ من بعدُ لهذا الطفلِ باعتباره قافرا للماء. اللحظة التي أفقد فيها الماءُ الأمَّ حياتَها هي اللحظةُ التي أعطته حياتَه، وأتاحت للماءِ أن يشكل الملامحَ الكبرى لهذه الحياة. فليعش القافرُ ساعات أطول في بطنِ أمه مما يقرره العلمُ الحديث! فليعش كلَّ ما يلزم ليخرجَ من ماء الرحم إلى ماء الحياة. تقول رونان معرّفة الإمكان في التخييل: «العوالمَ الأدبية ليست عوالمَ ممكنةً في معنى أنه بالإمكانِ النظر إليها أنها بدائل alternatives من العالم الفعلي وما يشتملُ عليه من عناصر، بل يُنظر إليها على أنها عوالم ترهّن actualizeعالما يكون مماثلا للعالمِ الذي نعيش فيه، أو مشتقا منه، أو مناقضا له»(1).
حين أمجدُ الخيالَ في الرواية، فأنا أتحدث عن خيال خلاق، مبتكر، متسقٍ مع الأحداث، ملائم للشخصيات. لا أتحدث عن الهذيانِ غير الدال، لا أتحدث عن إضجارِ القارئ بفانتازيات بلا رابط من منطق السرد. عن النظامِ داخلَ الفوضى أتحدث، عن الاتساقِ داخل كلِّ الأشكال التي تحتملها الرواية، عن التناغمِ في الجموح، عن الصلاتِ الخفية تحت أديمِ تفكك الصلات الظاهرية، عن وصلِ ما انقطع في أول السرد في آخره، عن حريةِ الكاتب وكفاحه في نصه في الآن نفسه.
إن النصَّ منفتحٌ للتأويل وإعادةِ التشكيل، كأنه حلم، فالأدبُ ليس إنجازا سلطويا. يقول بول أوستر «الرواية هي المقاربة الأقل سلطوية للعالم»، إنه أشبهُ بتشكيل الحلم، تشكيل اللاوعي. ودلالة العمل الأدبي لا تعرف الحدود، ولهذا تحديدا ننفعل اليوم بحسِّ السخريةِ ونحن نقرأ سرفانتس، الذي كتب «دون كيخوته» لجمهورِ غيرِنا في القرن السابع عشر، تماما كما نضحك من ذكاءِ سخرية التوحيدي في القرن العاشر الميلادي.
مضاهاةُ الأدب بالواقع واعتبارهُ مرآةً تلغي دور التخييلي والجمالي فيه، وتعامل الأدبَ على أنه مجرد ناقل للواقع وليس بنّاءً يعيد بناء الواقع. أطمحُ من خلال كتابتي أن أنظرَ للواقع بعين الخيال، لا أن أنقله كما هو، الكتابةُ فنُّ إثارة الأسئلة وليس الإجابة عنها. وسيكون من الوهمِ أن نبحثَ في العمل الأدبي عن «المعنى النهائي»، فاللغةُ الأدبية تأويلٌ للواقع وليست انعكاسا آليا له. نحن نحبُّ الفن لأنه العالمُ الذي يسحرنا فيه الخيال، ولأن الحقيقةَ فيه لا تُحتَكر. وحين نتحدثُ عن الحريةِ يذهب الظنُّ ببعض الناس إلى تجاوز تابوهات الدين والسياسة والجنس. ولكن الحريةَ التي أتصورها للكاتبِ هي أعظم من ذلك، هي حريتُه الداخلية أثناء الكتابة، وليست مجرد كسر التابوهات المتعمد لغايةِ الكسر فقط، مع إني لا أعتقد أن هذا الثالوثَ تابوه أصلا، إن الأعمالَ الأدبية الكبرى في ثقافتنِا العربية تعاملت بحريةٍ متصلةٍ عبر القرون مع الجنس والسياسة والدين، وما المصنفات الكبرى في التراثِ شعريةً كانت أو نثرية إلا شاهد على ذلك، وإن كان بعضُ هؤلاء المؤلفين توسل بالرمز كابن المقفع، فإن جلَّهم كتب تصريحا لا تلميحا، وما كتابُ الأغاني للأصفهاني إلا مثالٌ دونه أمثلة، أما في العصر الحديث فلا يكاد يخلو عملٌ روائي عربي من ثيمات جنسية أو سياسية أو دينية. اقرأ أي رواية لنجيب محفوظ أو حنا مينا أو غالب هلسا أو عبد الرحمن منيف أو حنان الشيخ، فضلا عن الأجيال التالية لهم من الروائيين والروائيات لتتأكد أن التابوهات المزعومةَ ليست كذلك في الروايةِ العربية. إذن محض اختيار هذه الثيماتِ ليس ما أتحدثُ عنه حين أتحدث عن الحرية، فإذا كان لا يعنيني الكتابةُ عن الجنس أو السياسة أو الدين لمجرد إثباتِ الجرأةِ في اقتحامِ هكذا موضوعات، فما الذي يعنيني؟ ما الحريةُ التي أرجوها للكاتبِ العربي والكاتبة العربية؟
ما أرجوه هو الحريةُ في الخيال، وفي مواجهةِ الذات، وتعريتها، والنفاذِ من ثم إلى ما هو أبعد منها، بلا قيدٍ داخلي من خوفٍ أو اصطناع، أو رعبٍ من الانكشافِ أو المواجهة، أو تحسبٍ للنقدِ الاجتماعي خاصة. الحريةُ التي أرجوها هي الحريةُ التي لا يخافُ معها الكاتبُ أن يقدم شخوصا وأفكارا وأحداثا غيرَ السائد، وخارجَ الموضات الفكرية المنتشرة، وبغير منطقِ العلاقاتِ المقبولة. الحريةُ أن نكتبَ بلا إدانة. أن نعبر عن العواطفِ التافهةِ والمبتذلة كما نعبر عن العواطفِ السامية والممجدة. هي حريةُ تينيزاكي لما كتب رواية «المفتاح» ولم يتردد في تصويرِ أكثر العواطفِ غرابةً وشططًا بين الرجلِ وزوجته وهما يلعبان اللعبةَ القائمةَ على معرفة مكانِ مفتاحِ درج المذكرات السرية. هي حريةُ ميلان كونديرا في كتابةِ المشهد الذي تنظرُ فيه الأم – التي لا تريد أن تكون أما – باحتقار واشمئزاز إلى سرةِ ابنها، باعتبارها المكان الذي ربطَ وفصل َحياتَها عن حياته، استخدم كونديرا حاسةَ البصرِ لقلبِ الدور الذي تقوم به هذه الحاسةُ عادةً في نظر الأمِ إلى طفلها، هذا المشهدُ القصير يحتفي بحريةِ الكتابة في رأيي أكثر من عشراتِ الصفحات التي تُكتب في المشاهد الجنسية أو الهجاء السياسي أو التمردِ الديني.
وحريةُ الكاتب في تصوري هي أن يملكَ حقَّ استخدام المفرداتِ التي ينتقيها، ويعتقدُ أنها تعبر بدقةٍ عما يريد قوله. إن الولعَ المتزايدَ للناشرين والمحررين باستبعادِ الكلمات التي -في رأيهم- تمس الحساسيات الثقافيةَ لبعض الشعوب، يحدُّ من حريةِ الكتابة. مبدئيا، غنيٌ عن القول إنه علينا باعتبارنا بشرا أولا وكتابا ثانيا أن نقفَ مع المساواة وضد العنصرية بأشكالها كافة. ولكن هذا لا ينبغي أن يتعارضَ مع وجود شخصياتٍ عنصريةٍ في الروايات مادامت هذه الشخصيات موجودةً أو محتملةَ الوجود في الواقع، لا ينبغي محاكمةُ الكلمات الحساسة بمعزل عن سياقها. عند ترجمة روايتي «نارنجة» إلى الانجليزية استخدمت المترجمة كلمة gypsy ترجمة لكلمة «غجرية»، رفض المحرر في دار النشر الأمريكية قبول الكلمة، قال إن لها محمولات ازدرائية، واقترح أن نستخدم تعبير «امرأة رحالة» بدلا من «جيبسي». ما دافعتُ عنه، ومترجمتي معي، أن هذه «المحمولات الازدرائية» هي بالضبط ما أريده، استخدمتُ «الغجريةَ» أو «الزطية» كما هي في اللهجة العمانية في النص العربي وليس «امرأة من الأقوام الرحل» عمدا، لأشير إلى هذه المدلولات التحقيرية التي ينظر بها مجتمعُ الرواية لهذه الشخصية. كلمة «غجرية» مقصودة ومنتقاة في هذا السياق. تخفيفها بكلمةٍ أخرى لا يقلل عنصرية الناس، لا في الرواية ولا في الواقع، بل يزيدُ الاصطناع، ويضع المزيد من القيود على حرية الكاتب في اختيار الكلمات.
وهذا يقودني إلى الحديثِ عن الحساسيات العالية لمجموعاتٍ مدنيةٍ معينة تجاه أي كلمات أو مشاهد أو أحاسيس داخل النص التخييلي يعتقدون أنها تمس بمبادئهم، في حين أن العملَ الروائي ليس منشورا دعائيا، أو مقالا صحفيا، ينبغي أن يبررَ هو سياقَه، لا أن تُفرض عليه التبريراتُ بضغط مجموعاتٍ بعينها أيا تكن. ولكن الخوفَ يتزايد لدى الكتاب، وأكثر منهم لدى الناشرين من إثارة أي حساسيات، خاصة بعد انتشار ثقافة الإلغاء أو الإقصاء Cancel culture التي تهدفُ إلى الإلغاءِ المعنوي للشخص، إذا تم الاعتقادُ بأنه قال أو تصرف بشيءٍ غير مقبول، وخاصة إن كان هذا الشخصُ مشهورا. يُنبَذ أو يُلغى هذا الشخص بإخراجه من الدوائرِ الاجتماعية أو المهنية، سواء عبر الانترنت أو شخصيا. ارتبطت ثقافةُ الإلغاء أولا بحركات مقاومة التحرش me too وحركة حياة السود مهمة، black lives matter ،ثم توسعت هذه الثقافة وانتشرت بقوة عبر الانترنت لتثير نقاشا حقيقيا وصعبا حول حريةِ التعبير والرقابة المجتمعية. حيث يرى كثيرٌ من النقاد أن انتشارَ هذه المحاكمات الجماعية عبر الانترنت يعيقُ النقاشَ الحقيقي ويمنعُ الناسَ من إبداء آرائهم، يقول جوشوا نوب أن «التنديد العلني غير فعال، وأن المجتمعَ سريع جدا في إصدار أحكامٍ ضد من يعتبرهم أشخاصا غير مرغوب فيهم»(2)، وربط بعض الباحثين بين ثقافة الإلغاء والتطهير الايديولوجي.
كل هذا يؤثر بالضرورة على عالمِ صناعةِ الكتاب، وعلى المساحةِ المتاحةِ للكاتب، فعليك مثلا أن تفكرَ جيدا قبل أن تضعَ في روايتك صيادا فخورا للأسود، بعد حادثةِ ملاحقة الطبيب الذي قتل الأسدَ الأفريقي من قبل الناشطين على الانترنت وإجباره على الاختفاء وغلقِ عيادته. كل هذا يثير المخاوفَ من تراجع الحريات باسم تقدم الحريات، أو من العنصريةِ المضادة باسم مقاومة العنصرية.
أودُّ في النهاية أن أقولَ إن هناك فهودا تعيشُ في سافانا الكونغو رغم كل شيء. فقد تحققتُ من ذلك.
1-Ronen, Possible worlds in literary theory, Cambridge university press, 1994, p.50.
2-Time, August 2015.
جوخة الحارثي أكاديمية وروائية عمانية فازت روايتها «سيدات القمر» بجائزة مان بوكر وترجمت إلى لغات عالمية كثيرة.
وهذا التعليقُ دفعني إلى التفكيرِ في الحدود ِالفاصلة، الحدودِ الحساسة، الحدودِ الرقيقة، أكاد أقول الحدود السحرية بين الواقعِ والخيال في الكتابة، بين الحقائقِ وتخييل الحقائق.
هل يجبُ علينا أن نكون صادقين في الكتابة؟ أليس كلُّ شيء يتغير قليلا بمجرد كتابته كما يعلمنا هيرمان هسه؟ هل يمكن أن نسمحَ للحواسِ بخداعنا في الكتابة؟
ما المسموحُ به في ميدان الغرائبية والخيال وهل هناك ما هو غير مسموح به؟ على المستوى النظري قد يقول النقاد إن ميزة الرواية أنها الشكلُ القابلُ للأشكال المتعددة، إذن هل هذا يعني أن كلَّ شيء مسموحٌ للكاتب؟ ما الدقةُ في الكتابة؟ وكيف نوفق بين الدقةِ والغرائبية؟ متى نقبلُ بحاسة بصرِ زرقاء اليمامةِ في الرواية ومتى نعدها مبالغةً أسطورية؟
إذا كنتَ تكتبُ مشهدا واقعيا تماما، في إطارٍ مكاني واضح، وإطارٍ زمني واضح، لنقل إنه التسعينات من القرن العشرين، حينئذ لا أتقبلُ أن أجدَ في نصك حوارا يتم عبر الانستا أو الفيس بوك. أتوقع كقارئ أن تراعي الدقةَ التاريخية، وتحترمَ حقيقةَ أن وسائلَ التواصل لم تظهر بعد في القرن العشرين الذي تدور فيه أحداثُ نصك الواقعية. لكن إن كنا نتحدثُ عن روايةٍ وصفت بالواقعية السحرية، مثل «مائة عام من العزلة»، حينئذ يتسق تماما مع الأحداثِ وجو الرواية الأسطوري أن تصعدَ ريميديوس الجميلة إلى السماء. يصبح هذا الحدثُ الاستثنائي كأنه ملمحٌ عاديٌ من الحياةِ اليومية لسكان ماكوندو، تلوح ريميديوس لأخوتها وهي تصعد، وتدعو أختُها بأن يعيد الله إليها ملاءاتِها. أنا كقارئ أقبل هذا بل أعجب به، لأن منطقَ الخيالِ في الرواية يسمح به، إنها لم تطر فجأة، إنما بعد تمهيداتٍ كثيرةٍ أعدَّها لها كاتب «مائة عام من العزلة»، فهي فتاةٌ استثنائية في طريقة عيشِها، وهي شديدة البراءة وحسنةُ الظن بكل الناس بمن فيهم عشاقُها والمتربصون لإيذائها، تمكن ماركيز من إيجاد فتاةٍ نقيةٍ شديدةِ الجمال، فتاة ملائكية عن حق، فكيف ستكونُ خاتمتُها؟! هل خدعت ريميديوس حواسَّنا باعتبارنا قراء؟ أظن أن الغالبيةَ العظمى من القراء قد سعدوا بطيرانها لأنهم رغبوا لها مصيراً متسامياً عن كلِّ البشر الآخرين. فهذه الخاتمة كانت مناسبةً تماماً لريميديوس، لكنما بعد قام الكاتب قبل ذلك بتهيئة كلِّ شيء لقبول هذه الخاتمة. نسمح لماركيز إذن بتضليل حواسنا، في الوقت الذي لا يسمحُ هذا المنطقُ نفسُه لنص شديدِ الواقعية أن يتحدث عن التواصلِ بالانستا قبل اختراعه.
إذن، نعم، ينبغي علينا توخي كلَّ هذه الدقةِ في الكتابة. ولكن لا ننسى أن الدقةَ لا تلغي الخيال بل تعززه. ألا يُسمَح للكتابة التخييليةِ أن تعطي إيحاءً بما يُحتمل أن يقع وبما لا يُحتمل وقوعُه أيضا؟
أقلقَ إحدى القارئات لرواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي مشهد المرأةَ التي سقطت في البئر فظل الجنينُ حيا في بطنها حتى انتُشِلَت، وأنقِذ الطفل. لكني وجدت هذا القلقَ غيرَ مبرر. ليحيا الجنينُ في بطن أمه الميتةِ متى شاء له السردُ أن يحيا، مادام ذلك متسقا مع جوِ الرواية كلِه، ومع العالمِ العجيب الذي سيتشكلُ من بعدُ لهذا الطفلِ باعتباره قافرا للماء. اللحظة التي أفقد فيها الماءُ الأمَّ حياتَها هي اللحظةُ التي أعطته حياتَه، وأتاحت للماءِ أن يشكل الملامحَ الكبرى لهذه الحياة. فليعش القافرُ ساعات أطول في بطنِ أمه مما يقرره العلمُ الحديث! فليعش كلَّ ما يلزم ليخرجَ من ماء الرحم إلى ماء الحياة. تقول رونان معرّفة الإمكان في التخييل: «العوالمَ الأدبية ليست عوالمَ ممكنةً في معنى أنه بالإمكانِ النظر إليها أنها بدائل alternatives من العالم الفعلي وما يشتملُ عليه من عناصر، بل يُنظر إليها على أنها عوالم ترهّن actualizeعالما يكون مماثلا للعالمِ الذي نعيش فيه، أو مشتقا منه، أو مناقضا له»(1).
حين أمجدُ الخيالَ في الرواية، فأنا أتحدث عن خيال خلاق، مبتكر، متسقٍ مع الأحداث، ملائم للشخصيات. لا أتحدث عن الهذيانِ غير الدال، لا أتحدث عن إضجارِ القارئ بفانتازيات بلا رابط من منطق السرد. عن النظامِ داخلَ الفوضى أتحدث، عن الاتساقِ داخل كلِّ الأشكال التي تحتملها الرواية، عن التناغمِ في الجموح، عن الصلاتِ الخفية تحت أديمِ تفكك الصلات الظاهرية، عن وصلِ ما انقطع في أول السرد في آخره، عن حريةِ الكاتب وكفاحه في نصه في الآن نفسه.
إن النصَّ منفتحٌ للتأويل وإعادةِ التشكيل، كأنه حلم، فالأدبُ ليس إنجازا سلطويا. يقول بول أوستر «الرواية هي المقاربة الأقل سلطوية للعالم»، إنه أشبهُ بتشكيل الحلم، تشكيل اللاوعي. ودلالة العمل الأدبي لا تعرف الحدود، ولهذا تحديدا ننفعل اليوم بحسِّ السخريةِ ونحن نقرأ سرفانتس، الذي كتب «دون كيخوته» لجمهورِ غيرِنا في القرن السابع عشر، تماما كما نضحك من ذكاءِ سخرية التوحيدي في القرن العاشر الميلادي.
مضاهاةُ الأدب بالواقع واعتبارهُ مرآةً تلغي دور التخييلي والجمالي فيه، وتعامل الأدبَ على أنه مجرد ناقل للواقع وليس بنّاءً يعيد بناء الواقع. أطمحُ من خلال كتابتي أن أنظرَ للواقع بعين الخيال، لا أن أنقله كما هو، الكتابةُ فنُّ إثارة الأسئلة وليس الإجابة عنها. وسيكون من الوهمِ أن نبحثَ في العمل الأدبي عن «المعنى النهائي»، فاللغةُ الأدبية تأويلٌ للواقع وليست انعكاسا آليا له. نحن نحبُّ الفن لأنه العالمُ الذي يسحرنا فيه الخيال، ولأن الحقيقةَ فيه لا تُحتَكر. وحين نتحدثُ عن الحريةِ يذهب الظنُّ ببعض الناس إلى تجاوز تابوهات الدين والسياسة والجنس. ولكن الحريةَ التي أتصورها للكاتبِ هي أعظم من ذلك، هي حريتُه الداخلية أثناء الكتابة، وليست مجرد كسر التابوهات المتعمد لغايةِ الكسر فقط، مع إني لا أعتقد أن هذا الثالوثَ تابوه أصلا، إن الأعمالَ الأدبية الكبرى في ثقافتنِا العربية تعاملت بحريةٍ متصلةٍ عبر القرون مع الجنس والسياسة والدين، وما المصنفات الكبرى في التراثِ شعريةً كانت أو نثرية إلا شاهد على ذلك، وإن كان بعضُ هؤلاء المؤلفين توسل بالرمز كابن المقفع، فإن جلَّهم كتب تصريحا لا تلميحا، وما كتابُ الأغاني للأصفهاني إلا مثالٌ دونه أمثلة، أما في العصر الحديث فلا يكاد يخلو عملٌ روائي عربي من ثيمات جنسية أو سياسية أو دينية. اقرأ أي رواية لنجيب محفوظ أو حنا مينا أو غالب هلسا أو عبد الرحمن منيف أو حنان الشيخ، فضلا عن الأجيال التالية لهم من الروائيين والروائيات لتتأكد أن التابوهات المزعومةَ ليست كذلك في الروايةِ العربية. إذن محض اختيار هذه الثيماتِ ليس ما أتحدثُ عنه حين أتحدث عن الحرية، فإذا كان لا يعنيني الكتابةُ عن الجنس أو السياسة أو الدين لمجرد إثباتِ الجرأةِ في اقتحامِ هكذا موضوعات، فما الذي يعنيني؟ ما الحريةُ التي أرجوها للكاتبِ العربي والكاتبة العربية؟
ما أرجوه هو الحريةُ في الخيال، وفي مواجهةِ الذات، وتعريتها، والنفاذِ من ثم إلى ما هو أبعد منها، بلا قيدٍ داخلي من خوفٍ أو اصطناع، أو رعبٍ من الانكشافِ أو المواجهة، أو تحسبٍ للنقدِ الاجتماعي خاصة. الحريةُ التي أرجوها هي الحريةُ التي لا يخافُ معها الكاتبُ أن يقدم شخوصا وأفكارا وأحداثا غيرَ السائد، وخارجَ الموضات الفكرية المنتشرة، وبغير منطقِ العلاقاتِ المقبولة. الحريةُ أن نكتبَ بلا إدانة. أن نعبر عن العواطفِ التافهةِ والمبتذلة كما نعبر عن العواطفِ السامية والممجدة. هي حريةُ تينيزاكي لما كتب رواية «المفتاح» ولم يتردد في تصويرِ أكثر العواطفِ غرابةً وشططًا بين الرجلِ وزوجته وهما يلعبان اللعبةَ القائمةَ على معرفة مكانِ مفتاحِ درج المذكرات السرية. هي حريةُ ميلان كونديرا في كتابةِ المشهد الذي تنظرُ فيه الأم – التي لا تريد أن تكون أما – باحتقار واشمئزاز إلى سرةِ ابنها، باعتبارها المكان الذي ربطَ وفصل َحياتَها عن حياته، استخدم كونديرا حاسةَ البصرِ لقلبِ الدور الذي تقوم به هذه الحاسةُ عادةً في نظر الأمِ إلى طفلها، هذا المشهدُ القصير يحتفي بحريةِ الكتابة في رأيي أكثر من عشراتِ الصفحات التي تُكتب في المشاهد الجنسية أو الهجاء السياسي أو التمردِ الديني.
وحريةُ الكاتب في تصوري هي أن يملكَ حقَّ استخدام المفرداتِ التي ينتقيها، ويعتقدُ أنها تعبر بدقةٍ عما يريد قوله. إن الولعَ المتزايدَ للناشرين والمحررين باستبعادِ الكلمات التي -في رأيهم- تمس الحساسيات الثقافيةَ لبعض الشعوب، يحدُّ من حريةِ الكتابة. مبدئيا، غنيٌ عن القول إنه علينا باعتبارنا بشرا أولا وكتابا ثانيا أن نقفَ مع المساواة وضد العنصرية بأشكالها كافة. ولكن هذا لا ينبغي أن يتعارضَ مع وجود شخصياتٍ عنصريةٍ في الروايات مادامت هذه الشخصيات موجودةً أو محتملةَ الوجود في الواقع، لا ينبغي محاكمةُ الكلمات الحساسة بمعزل عن سياقها. عند ترجمة روايتي «نارنجة» إلى الانجليزية استخدمت المترجمة كلمة gypsy ترجمة لكلمة «غجرية»، رفض المحرر في دار النشر الأمريكية قبول الكلمة، قال إن لها محمولات ازدرائية، واقترح أن نستخدم تعبير «امرأة رحالة» بدلا من «جيبسي». ما دافعتُ عنه، ومترجمتي معي، أن هذه «المحمولات الازدرائية» هي بالضبط ما أريده، استخدمتُ «الغجريةَ» أو «الزطية» كما هي في اللهجة العمانية في النص العربي وليس «امرأة من الأقوام الرحل» عمدا، لأشير إلى هذه المدلولات التحقيرية التي ينظر بها مجتمعُ الرواية لهذه الشخصية. كلمة «غجرية» مقصودة ومنتقاة في هذا السياق. تخفيفها بكلمةٍ أخرى لا يقلل عنصرية الناس، لا في الرواية ولا في الواقع، بل يزيدُ الاصطناع، ويضع المزيد من القيود على حرية الكاتب في اختيار الكلمات.
وهذا يقودني إلى الحديثِ عن الحساسيات العالية لمجموعاتٍ مدنيةٍ معينة تجاه أي كلمات أو مشاهد أو أحاسيس داخل النص التخييلي يعتقدون أنها تمس بمبادئهم، في حين أن العملَ الروائي ليس منشورا دعائيا، أو مقالا صحفيا، ينبغي أن يبررَ هو سياقَه، لا أن تُفرض عليه التبريراتُ بضغط مجموعاتٍ بعينها أيا تكن. ولكن الخوفَ يتزايد لدى الكتاب، وأكثر منهم لدى الناشرين من إثارة أي حساسيات، خاصة بعد انتشار ثقافة الإلغاء أو الإقصاء Cancel culture التي تهدفُ إلى الإلغاءِ المعنوي للشخص، إذا تم الاعتقادُ بأنه قال أو تصرف بشيءٍ غير مقبول، وخاصة إن كان هذا الشخصُ مشهورا. يُنبَذ أو يُلغى هذا الشخص بإخراجه من الدوائرِ الاجتماعية أو المهنية، سواء عبر الانترنت أو شخصيا. ارتبطت ثقافةُ الإلغاء أولا بحركات مقاومة التحرش me too وحركة حياة السود مهمة، black lives matter ،ثم توسعت هذه الثقافة وانتشرت بقوة عبر الانترنت لتثير نقاشا حقيقيا وصعبا حول حريةِ التعبير والرقابة المجتمعية. حيث يرى كثيرٌ من النقاد أن انتشارَ هذه المحاكمات الجماعية عبر الانترنت يعيقُ النقاشَ الحقيقي ويمنعُ الناسَ من إبداء آرائهم، يقول جوشوا نوب أن «التنديد العلني غير فعال، وأن المجتمعَ سريع جدا في إصدار أحكامٍ ضد من يعتبرهم أشخاصا غير مرغوب فيهم»(2)، وربط بعض الباحثين بين ثقافة الإلغاء والتطهير الايديولوجي.
كل هذا يؤثر بالضرورة على عالمِ صناعةِ الكتاب، وعلى المساحةِ المتاحةِ للكاتب، فعليك مثلا أن تفكرَ جيدا قبل أن تضعَ في روايتك صيادا فخورا للأسود، بعد حادثةِ ملاحقة الطبيب الذي قتل الأسدَ الأفريقي من قبل الناشطين على الانترنت وإجباره على الاختفاء وغلقِ عيادته. كل هذا يثير المخاوفَ من تراجع الحريات باسم تقدم الحريات، أو من العنصريةِ المضادة باسم مقاومة العنصرية.
أودُّ في النهاية أن أقولَ إن هناك فهودا تعيشُ في سافانا الكونغو رغم كل شيء. فقد تحققتُ من ذلك.
1-Ronen, Possible worlds in literary theory, Cambridge university press, 1994, p.50.
2-Time, August 2015.
جوخة الحارثي أكاديمية وروائية عمانية فازت روايتها «سيدات القمر» بجائزة مان بوكر وترجمت إلى لغات عالمية كثيرة.