في تذكّر الطبيب الأديب وقطعة الجبن
الثلاثاء / 27 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 20:22 - الثلاثاء 22 نوفمبر 2022 20:22
كيف لطبيب استشاريّ متخصّص في مرض عُضال قاتل مؤلم، يلحق من له ذنبٌ في الوجود ومن لم يلحقه الذنب، من أفسد حياته وأربك نظامه الصحّي فأُصيب بسرطان وهو رضيٌّ، مؤمنٌ بقدره، له في الذهن عزاءٌ أنّه أذنب في حقّ نظامه الصحّي، ومن كان براءً من ذلك فاجتهد في الحفاظ على صحّته ومارس الغذاء الصحّي، ولم يُذنب في حقّ نفسه، أن يتفاعل مع كونٍ من الموت، وأن يختطّ عالما من الأدب وأن يخطو فيه تحقُّقا ووجودا. وقد أخبرني يوما صديقي الطبيب الأديب، أنّه كُلّف عندما كان في كندا أن يُخبر أحدهم بأنّ مرضه قد شُخّص وأنّه مصابٌ في درجة متأخّرة بالسرطان، فوجم ساعة من الزمن ثم قال للطبيب، نعم لقد تذكّرتُ الآن منذ عشرين سنة تقريبا أكلتُ قطعة جُبن شككتُ في فسادها، وهي سبب إصابتي، هذا الرجل كان لا يأكل إلاّ الغذاء الصحّي ولا يقترب من كلّ ما قد يسيءُ ظنّا إلى صحّته ويُمارس الرياضة وينام بشكل جيّد، ولذلك صُدم وبحث عن عزاء فوجده في قطعة الجبن.
كيف لي أن أجد لك قطعة الجُبن يا صديقي ونحن الأجبن عن مواجهة مصائرنا، كيف تمكّنتَ من مقاومة كلّ هذا الألم وأن تحيا معه، أن ترى الأطفال الصغار يتألّمون من لعنة هذا المرض، وأن تسهر الليل بطوله تبكي مع آلامهم، وأن ترى الإنسان ضعيفا يأكله طيفٌ لم تقدر عليه، وتخبرني أنّك قادرٌ على تشخيصه فقط؟ كيف تُلاقينا باسما ضاحكا فارسا ساخرا هازئا من الوجود، وتسخر من الأدوية ومن الأمراض ومن الاحتياط مخافة المرض، وتسخر من الأكل الصحّي ومن الأنظمة الغذائيّة، وتحثّ على الاستمتاع بالحياة لأنّ المرض أتٍ لا محالة وفي كلّ حالة، ولا يُميّز بين منضبط ومنفلت؟
صديقي الطبيب الأديب، كان يهرب إلى الكتابة، وكان ذا قلمٍ شحيحٍ وعميق وذا قصص مبهرٍ، يخرج به عن حدّ المشرط ومرأى الأشعّة وتنشّق روائح الدواء، ومسمع آهات المتألّمين إلى رحيب العالم الخارجي، إلى عالمٍ من التخييل الموصول بواقع يوميّ فيه التاجر والعامل، فكتب بلغة سلسة وبأسلوب مُميل للقلوب جاذب لها، شخصيّات من واقع الحال، من محليّة ذاتيّة أصبحت اليوم مطلب السرد لتحقيق الكونيّة، كان شناصيّا للنُخاع، ممّا أدّى بمنى السليميّة، وهي الناقدة اللمّاحة أن تثير في كتابته ظاهرة «شنصنة السرد»، تلك الولاية التي رافقت وجوده وكيانه أينما حلّ يحملها بين أحشائه وفي أضلعه وداخل فكره ووجْده.
صندوقك الرماديّ يا صديقي لم يبح بما فيه بعدُ، بقي بين بين، بين البوح والكتْم، حتّى وإن أخرجته للقرّاء، فقد بقي غائما تغمره الغيوم، وأنت الذي سعيت إلى أن تجد الحقيقة خارج العلم، خارج الأدوية التي لم تؤمن بها، ورحتَ تكتب، ولم تكن تعلم أن الكتابة هي أيضا فعلٌ قاتلٌ، إن استشعرت حرفَ ما تكتب وآمنتَ به، لم يستيقظ الدبّ الذي أدركتَ كُمونه وخموله في انتظار هيجانه، ما زال الدبّ نائما وإن استشرفت بعين الكاتب المبدع الناجعة أنّ يومه قد اقترب.
نصّك «مسامير» أبهرني فعلا، وأنت تكتب القصّة الومضة التي لا يُتقن كتابتها إلاّ النزر اليسير من الكُتّاب، القصّة الومضة صعبةُ المنال، فعليك أن تقصّ وأن تُبلِّغ المعنى المُكنّى في وجيز من اللفظ، وهو لعمري أمرٌ لا يأتيه إلاّ ضالعٌ في فهم القصّة ماسكٌ بزمامها يُصرّفها أنّى شاء، مساميركُ كانت بنّاءةً واخزة لمن غفت ضمائرهم. لقد أتقنت أيها العزيز كتابة القصّة، وهي نوعٌ من الكتابة عسير وأعقدُ من كتابة الرواية، فالقصّة مجالها خانقٌ خالقٌ، وقد ألزمت نفسك بضيق الفسيح لتُخيّل في ضيِّق المساحات، فألزمت نفسك ما لا يلزم وزدتَ في الوجازة إذ ذهبت إلى الإشارة وإلى لمْح القصص.
تنعتُك هدى حمد بالصيّاد الماهر إذ تقتنص من شخصيّاتك ملامحهم وهواجسهم وتقدر على تمثّل همومهم فتُخرجها في شخصيّات مُعبّأةً بثقل الحياة، ناطقة بلهجتك التي هي لهجتهم، تتبّع التاجر والخائن، المالك والآمر ،المأمور والمهزوز، المرأة والرجل، البائعة والهاوية، الراغبة والراغب، الكاتمة والكاتم، تلتقط من الواقع عوالم عينيّة تهرب بها إلى عوالم القصص، تُعيد صياغتها وتؤدّي دور المعالج لأمراض المجتمع، والحال الحقّ أنّك بذلك تتداوى، وتهرب من آلام من لم يقدر العلم على تخفيف آلامهم.
نمت ولم تشبع بعد من مرجعيّاتك، لم تحفظ «مدن الملح» و»أرض السواد»، ولم ينعدم شغفك بعبد الرحمان منيف، ولا بكلّ الروايات التي أدمنتها، وعملت على مشاركة الصديق الصِدّيق سليمان المعمري رواية تحفظ اسميكما، وكأنّما أردت وشما باقيا لا يلحقه النسيان يؤرّخ لصُحبة بينكما مميّزة، فكانت «شهادة وفاة كلب»، لا تحزن يا صديقي فأصحابك الآن معك، لاقهم وأسألهم عن هواجسك، ولك أن تجد جواب مسألتك لباتريك زوسكيند، فقد صرت في عالم الأجوبة.
عاشرتَ الموت طيلة حياتك حتّى عاشرك وأحبّك واختارك، حتّى الموت أحبّ بسمتك وروحك الطيّبة، فكتب معك ما أحببت من قصير القصص، وأخرجك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وأناسك الذين كانوا يجدون في صورتك طبيبا بعض العزاء والتصبّر قد فارقوا العلاج، حجّتهم أن طبيبهم المُداوي لم يعد موجودا، فكيف يتقبّلون من غيرك علاجا أو نصحا أو عزاء، وطبيبهم الذي جعلهم يثقون في العلم قد غادر.
لم تكن قطعة الجبن فاسدة يا صديقي، وإنّما سبيل الأدب هو الذي أثقل روحك بهموم البشر، وأمراضهم التي تراها ولا يراها الأطبّاء، أثقلك الأدب، فصرت لا تقدر على تحمّل الطبيب فيك، أمّا قطعة الجبن فلا ذنب لها.
كيف لي أن أجد لك قطعة الجُبن يا صديقي ونحن الأجبن عن مواجهة مصائرنا، كيف تمكّنتَ من مقاومة كلّ هذا الألم وأن تحيا معه، أن ترى الأطفال الصغار يتألّمون من لعنة هذا المرض، وأن تسهر الليل بطوله تبكي مع آلامهم، وأن ترى الإنسان ضعيفا يأكله طيفٌ لم تقدر عليه، وتخبرني أنّك قادرٌ على تشخيصه فقط؟ كيف تُلاقينا باسما ضاحكا فارسا ساخرا هازئا من الوجود، وتسخر من الأدوية ومن الأمراض ومن الاحتياط مخافة المرض، وتسخر من الأكل الصحّي ومن الأنظمة الغذائيّة، وتحثّ على الاستمتاع بالحياة لأنّ المرض أتٍ لا محالة وفي كلّ حالة، ولا يُميّز بين منضبط ومنفلت؟
صديقي الطبيب الأديب، كان يهرب إلى الكتابة، وكان ذا قلمٍ شحيحٍ وعميق وذا قصص مبهرٍ، يخرج به عن حدّ المشرط ومرأى الأشعّة وتنشّق روائح الدواء، ومسمع آهات المتألّمين إلى رحيب العالم الخارجي، إلى عالمٍ من التخييل الموصول بواقع يوميّ فيه التاجر والعامل، فكتب بلغة سلسة وبأسلوب مُميل للقلوب جاذب لها، شخصيّات من واقع الحال، من محليّة ذاتيّة أصبحت اليوم مطلب السرد لتحقيق الكونيّة، كان شناصيّا للنُخاع، ممّا أدّى بمنى السليميّة، وهي الناقدة اللمّاحة أن تثير في كتابته ظاهرة «شنصنة السرد»، تلك الولاية التي رافقت وجوده وكيانه أينما حلّ يحملها بين أحشائه وفي أضلعه وداخل فكره ووجْده.
صندوقك الرماديّ يا صديقي لم يبح بما فيه بعدُ، بقي بين بين، بين البوح والكتْم، حتّى وإن أخرجته للقرّاء، فقد بقي غائما تغمره الغيوم، وأنت الذي سعيت إلى أن تجد الحقيقة خارج العلم، خارج الأدوية التي لم تؤمن بها، ورحتَ تكتب، ولم تكن تعلم أن الكتابة هي أيضا فعلٌ قاتلٌ، إن استشعرت حرفَ ما تكتب وآمنتَ به، لم يستيقظ الدبّ الذي أدركتَ كُمونه وخموله في انتظار هيجانه، ما زال الدبّ نائما وإن استشرفت بعين الكاتب المبدع الناجعة أنّ يومه قد اقترب.
نصّك «مسامير» أبهرني فعلا، وأنت تكتب القصّة الومضة التي لا يُتقن كتابتها إلاّ النزر اليسير من الكُتّاب، القصّة الومضة صعبةُ المنال، فعليك أن تقصّ وأن تُبلِّغ المعنى المُكنّى في وجيز من اللفظ، وهو لعمري أمرٌ لا يأتيه إلاّ ضالعٌ في فهم القصّة ماسكٌ بزمامها يُصرّفها أنّى شاء، مساميركُ كانت بنّاءةً واخزة لمن غفت ضمائرهم. لقد أتقنت أيها العزيز كتابة القصّة، وهي نوعٌ من الكتابة عسير وأعقدُ من كتابة الرواية، فالقصّة مجالها خانقٌ خالقٌ، وقد ألزمت نفسك بضيق الفسيح لتُخيّل في ضيِّق المساحات، فألزمت نفسك ما لا يلزم وزدتَ في الوجازة إذ ذهبت إلى الإشارة وإلى لمْح القصص.
تنعتُك هدى حمد بالصيّاد الماهر إذ تقتنص من شخصيّاتك ملامحهم وهواجسهم وتقدر على تمثّل همومهم فتُخرجها في شخصيّات مُعبّأةً بثقل الحياة، ناطقة بلهجتك التي هي لهجتهم، تتبّع التاجر والخائن، المالك والآمر ،المأمور والمهزوز، المرأة والرجل، البائعة والهاوية، الراغبة والراغب، الكاتمة والكاتم، تلتقط من الواقع عوالم عينيّة تهرب بها إلى عوالم القصص، تُعيد صياغتها وتؤدّي دور المعالج لأمراض المجتمع، والحال الحقّ أنّك بذلك تتداوى، وتهرب من آلام من لم يقدر العلم على تخفيف آلامهم.
نمت ولم تشبع بعد من مرجعيّاتك، لم تحفظ «مدن الملح» و»أرض السواد»، ولم ينعدم شغفك بعبد الرحمان منيف، ولا بكلّ الروايات التي أدمنتها، وعملت على مشاركة الصديق الصِدّيق سليمان المعمري رواية تحفظ اسميكما، وكأنّما أردت وشما باقيا لا يلحقه النسيان يؤرّخ لصُحبة بينكما مميّزة، فكانت «شهادة وفاة كلب»، لا تحزن يا صديقي فأصحابك الآن معك، لاقهم وأسألهم عن هواجسك، ولك أن تجد جواب مسألتك لباتريك زوسكيند، فقد صرت في عالم الأجوبة.
عاشرتَ الموت طيلة حياتك حتّى عاشرك وأحبّك واختارك، حتّى الموت أحبّ بسمتك وروحك الطيّبة، فكتب معك ما أحببت من قصير القصص، وأخرجك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وأناسك الذين كانوا يجدون في صورتك طبيبا بعض العزاء والتصبّر قد فارقوا العلاج، حجّتهم أن طبيبهم المُداوي لم يعد موجودا، فكيف يتقبّلون من غيرك علاجا أو نصحا أو عزاء، وطبيبهم الذي جعلهم يثقون في العلم قد غادر.
لم تكن قطعة الجبن فاسدة يا صديقي، وإنّما سبيل الأدب هو الذي أثقل روحك بهموم البشر، وأمراضهم التي تراها ولا يراها الأطبّاء، أثقلك الأدب، فصرت لا تقدر على تحمّل الطبيب فيك، أمّا قطعة الجبن فلا ذنب لها.