الإنتاج الاجتماعي.. استحقاقات الإعادة والتأصيل
الاحد / 18 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 19:00 - الاحد 13 نوفمبر 2022 19:00
في البداية يستلزم الأمر تعريف ماهية الإنتاج الاجتماعي؛ حتى تكون الصورة واضحة ومفهومة لدى المتلقي، ومن هنا يمكن القول: أن الإنتاج الاجتماعي هو مجموعة من السلوكيات والممارسات التي يقوم بها أفراد المجتمع في محدد جغرافي ما، وفق شروط وتنظيمات معينة يقرها أبناء هذا المجتمع دون غيرهم، بحيث ينتج عن هذه الممارسات والعلاقات والتنظيمات صورا اجتماعية لا تخرج كثيرا عما كان عليه أبناء المجتمع في زمن ما، أو لا تكون الصور ذاتها مشوهة يوصلها إلى التغريب عما كانت عليه من قبل؛ وإن حدثت تغيرات قليلة أو تحسينات تظل مشروطة بعدم إخلالها بالدور المنوط عليها في تأدية الرسالة في حاضرها؛ مثيلة عما كانت عليه من قبل، بمعنى آخر؛ أن لا يتاح لمجمل الممارسات والسلوكيات الاجتماعية؛ بما فيها القيم الإنسانية، أن تختلط بالتغريب المطلق، بحيث لا تعبر عن هوية انتمائها الجغرافي، وبالتالي فإن حدث تغريب ما وأدى ذلك إلى تشويه الصورة العامة للمجتمع في ممارساته المختلفة، فهنا يمكن القول أن المجتمع فشل في إنتاجه الاجتماعي، أو يكاد، مع الأخذ في الاعتبار مسألة الحوار القائم بين الأجيال؛ وهو الحوار المفضي إلى تبني أفكار أكثر حداثة تصب في خانة هذا الإنتاج، مع التسليم أن بعض الصور الاجتماعية المألوفة في زمن ما قد تتعرض إلى التغيير الجذري؛ وهذا التغيير من هذا النوع مسموح به بعد نيف من السنين؛ كمرور جيل أو جيلين من أجيال المجتمع التراتبية، مع التأكيد أن المنتج الاجتماعي غيره المنتج الذي تدخل فيه الموارد الطبيعية والتصنيعية، فهذا شأن آخر؛ لا يدخل هنا في مفهوم الإنتاج الاجتماعي، وإن كانت بعض الصور؛ وخاصة في الأعمال التقليدية؛ لا تخرج عن خصوصيتها الاجتماعية.
وعند النظر أو تقييم الإنتاج الاجتماعي؛ يستلزم الأمر النظر إلى مجموعة من المعززات لهذا الإنتاج، ويأتي ضمن تسلسلها الأفقي مجموعة القيم الإنسانية في مجالات الحياة المختلفة، كالمؤازرات الاجتماعية، والتكافل الذي يستند بشكل رئيسي على العقد الاجتماعي، كذلك تأتي مجموعة الاتفاقات والتفاهمات التي تنظم العلاقات بين الأفراد في المجتمع، والاحتكام عليها في النزاعات، والاتفاقات، فهي بمثابة القانون العرفي الذي يحكم بين الأفراد، ويحظى باحترام كبير من قبل الجميع، كما ينظر إلى مساحات الأمان الاجتماعي التي يضفيها أبناء المجتمع على بعضهم البعض من خلال مجموعة من الممارسات في المناسبات المختلفة، حيث يكون الجميع أسرة واحدة، يمثلون بيتا واحدا؛ وهو الحي أو القرية، أو الحارة، كما تأتي حمولة المجالات التربوية، من الآداب والسلوكيات، والسمت، واستحقاقات القبيلة، لتضيف أبعاد أخرى في مجال الإنتاج الاجتماعي المتعدد الأوجه، فحتى عهد قريب رسخت مجموعة من الصور الاجتماعية شيئا من مساحات الأمان الاجتماعي تمثل ذلك في السبلة العامة في الأحياء السكنية، وما تضفيه من بعد اجتماعي مميز، وما تعكسه من تكافل، ومن تعاون، ومن تبادل للأفكار والتشاور، ومن غرس القيم في الناشئة، وما تدفع فيه أمان نفسي بحضور هذه اللمة الاجتماعية، كما شكلت 'بئر الحارة' و 'رحى الحارة' – قطعة من الحجر لطحن الحبوب - والمسجد، والفلج، ومدرسة القرية، مناخات مهمة ليس فقط في ما تقدمه من مجموعة الخدمات لأبناء الحي الصغير، بل عضدت، وبشكل قوي من التلاحم القائم بين أفراد المجتمع، فكانت بمثابة محطات مهمة للتزود بالقيم الضابطة لأخلاقيات الأفراد، ودروس استوعبتها الناشئة بصورة غير متكلفة في تأصيلها، واليوم تأتي مؤسسات التكافل الاجتماعي بعناوينها المختلفة، وهي الذاهبة إلى تأصيل الممارسة بالفعل المنجز، ويندرج تحتها مجموعة الفرق التطوعية الاجتماعية والرياضية على حد سواء؛ فتضيف أبعاد مهمة في ذات السياق.
قد يتم طرح السؤال التالي: هل إعادة الإنتاج الاجتماعي هو ضرورة مادية، أو ضرورة معنوية؛ ومن هو المخول في الحرص على فعل ذلك؛ وهل المسألة اختيارية؛ أم أنها تأتي في مرتبة الإلزام، وأن هذا الإلزام شمولي؟ أجزم أن وجود الممارسة اليومية المستمرة لمختلف القيم الاجتماعية هي التي ترسخ مصادر هذا المنتج، وهم كبار السن؛ عندما يصدرون مجموعة هذه القيم إلى من يأتي بعدهم من خلال هذه الممارسة، أما من حيث الضرورة؛ فهي ضرورية إلى حد بعيد لأنها الهوية الجامعة، فالمجتمع بشموليته يتضمن مجموعة من الهويات الفرعية، وهي تدخل ضمن هذا المنتج، فالمنتج الاجتماعي هو الحاضنة لكل ما في المجتمع، كما أنه يتضمن الجانبين المادي والمعنوي، فالمادي يتضمن السلوكيات والممارسات الملموسة، مباشرة، والمعنوي هو ما تحتضنه الذاكرة الجمعية من مفاهيم تحرص على تطبيقها وتنفيذها على واقع الناس، وإلزامهم على ذلك بصورة غير مباشرة، حيث تلعب القدوة دورها الفاعل والمؤثر، ولذلك يثمن دور الالتزام الاجتماعي، وينظر إليه على أنه واحد من مقومات الهوية الاجتماعية، سواء الهوية الجامعة للمجتمع ككل؛ أو الهويات المتفرعة كهوية القبيلة، أو هوية الأسرة، ومن خلاله يمكن التفريق بين المجتمعات (هذا مجتمع شرقي؛ وهذا مجتمع غربي، هذا مجتمع متحضر؛ وهذا مجتمع متخلف، هذا مجتمع محافظ؛ وهذا مجتمع متحرر) فسلوكيات الأفراد هي التي تعكس مدى التزامها بإعادة الإنتاج من عدمه، وهذه ترتهن كثيرا على مستوى القناعات عند هؤلاء الأفراد.
وبنظرة عامة، أو تقييم عام؛ يمكن القول: أن كل المجتمعات تحرص – بجهود أبنائها؛ وحرصهم على تأصيل هوياتهم – على إنتاجها الاجتماعي، حتى وإن تغرب بعض أفرادها في مجتمعات بديلة، يبدو ذلك في مجموع الممارسات والسلوكيات التي يقومون بها، ومجموع الصور والمشاهد التي يملؤون بها بيوتهم في الداخل، ومجموع الصور التي يبدون بها خارج المنزل سواء من ارتداء الملابس المعبرة عن هويتهم، وسواء في التعبير بلغتهم الأم، أو في مشاركاتهم في المناسبات العامة من خلال عرض منتوجاتهم الحرفية؛ على وجه الخصوص؛ وهي المنتوجات المعبرة عن عاداتهم وتقاليدهم، وممارساتهم الاجتماعية في البلد الأم، ولكن يتخلل هذه الصورة أو يربكها، أو يحاول كسرها تمددها هو عندما تتعرض الدول إلى الاحتلال البغيض، حيث يبدأ المحتل في تكريس صوره وممارساته، وسلوكياته الاجتماعية المستوردة من بلده، وإسقاطها على البلد المحتل، بل وإلزام أبنائه على تبني البديل، وإن واجه صدا، ومقاومة، فتغريب الهويات أمر ليس سهلا حتى لو جوبه بالقوة العسكرية المتمردة، فإن قناعات الناس؛ يظل تغييرها؛ ليس بالأمر السهل، وتحتاج إلى كم من السنين؛ وفي هذا الكم من السنين قد تحدث بعض الخروقات التي تسيل لعاب المحتل، وقد لا يحدث ذلك إطلاقا، وذلك يعتمد على قوة المجتمع وتماسكه، وإيمانه القوي بهويته، وبانتمائه الوطني القوي، ولعلنا نرى هذه الصورة الماثلة في الحالة الفلسطينية، التي لا تزال تتمسك بشخصيتها وبقيمها، وبقناعاتها، على الرغم من قوة المحتل وغطرسته، وانتهاكه لجميع القيم الإنسانية.
في ختام هذه المناقشة يمكن الوقوف عند نقطتين رئيسيتين:
الأولى: يتم؛ وبصورة قاطعة؛ في إعادة الإنتاج الاجتماعي التنازل الواضح عن مفهوم السوق القائم على تبادل المنافع المباشرة بين أفراد المجتمع، فهنا يسمو الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، ويتسامى عن أي مبرر مادي منتظر أو مقبول، كما لاتحتاج هذه المسؤولية إلى مؤسسة ترعاها، فالأفراد بوحي الإحساس الاجتماعي 'تكليف معنوي' يقومون بمختلف الممارسات التي تعزز من أوجه هذا الإنتاج.
الثانية: أن هذا الدور خاص بالفرد نفسه، أو في جماعته المحيطة، ولا يمكن أن يدخل ضمن المؤسسة الرسمية، نعم؛ قد تعمل المؤسسة الرسمية على وضع قوانين تنضم العلاقات بين الأفراد؛ تلافيا لوقوع أخطاء متعمدة، كالتعدي على الحريات مثلا؛ ولكن لا يمكن أن تقوم بدور الإنتاج الاجتماعي؛ فالمسؤولية اجتماعية بحتة.
وعند النظر أو تقييم الإنتاج الاجتماعي؛ يستلزم الأمر النظر إلى مجموعة من المعززات لهذا الإنتاج، ويأتي ضمن تسلسلها الأفقي مجموعة القيم الإنسانية في مجالات الحياة المختلفة، كالمؤازرات الاجتماعية، والتكافل الذي يستند بشكل رئيسي على العقد الاجتماعي، كذلك تأتي مجموعة الاتفاقات والتفاهمات التي تنظم العلاقات بين الأفراد في المجتمع، والاحتكام عليها في النزاعات، والاتفاقات، فهي بمثابة القانون العرفي الذي يحكم بين الأفراد، ويحظى باحترام كبير من قبل الجميع، كما ينظر إلى مساحات الأمان الاجتماعي التي يضفيها أبناء المجتمع على بعضهم البعض من خلال مجموعة من الممارسات في المناسبات المختلفة، حيث يكون الجميع أسرة واحدة، يمثلون بيتا واحدا؛ وهو الحي أو القرية، أو الحارة، كما تأتي حمولة المجالات التربوية، من الآداب والسلوكيات، والسمت، واستحقاقات القبيلة، لتضيف أبعاد أخرى في مجال الإنتاج الاجتماعي المتعدد الأوجه، فحتى عهد قريب رسخت مجموعة من الصور الاجتماعية شيئا من مساحات الأمان الاجتماعي تمثل ذلك في السبلة العامة في الأحياء السكنية، وما تضفيه من بعد اجتماعي مميز، وما تعكسه من تكافل، ومن تعاون، ومن تبادل للأفكار والتشاور، ومن غرس القيم في الناشئة، وما تدفع فيه أمان نفسي بحضور هذه اللمة الاجتماعية، كما شكلت 'بئر الحارة' و 'رحى الحارة' – قطعة من الحجر لطحن الحبوب - والمسجد، والفلج، ومدرسة القرية، مناخات مهمة ليس فقط في ما تقدمه من مجموعة الخدمات لأبناء الحي الصغير، بل عضدت، وبشكل قوي من التلاحم القائم بين أفراد المجتمع، فكانت بمثابة محطات مهمة للتزود بالقيم الضابطة لأخلاقيات الأفراد، ودروس استوعبتها الناشئة بصورة غير متكلفة في تأصيلها، واليوم تأتي مؤسسات التكافل الاجتماعي بعناوينها المختلفة، وهي الذاهبة إلى تأصيل الممارسة بالفعل المنجز، ويندرج تحتها مجموعة الفرق التطوعية الاجتماعية والرياضية على حد سواء؛ فتضيف أبعاد مهمة في ذات السياق.
قد يتم طرح السؤال التالي: هل إعادة الإنتاج الاجتماعي هو ضرورة مادية، أو ضرورة معنوية؛ ومن هو المخول في الحرص على فعل ذلك؛ وهل المسألة اختيارية؛ أم أنها تأتي في مرتبة الإلزام، وأن هذا الإلزام شمولي؟ أجزم أن وجود الممارسة اليومية المستمرة لمختلف القيم الاجتماعية هي التي ترسخ مصادر هذا المنتج، وهم كبار السن؛ عندما يصدرون مجموعة هذه القيم إلى من يأتي بعدهم من خلال هذه الممارسة، أما من حيث الضرورة؛ فهي ضرورية إلى حد بعيد لأنها الهوية الجامعة، فالمجتمع بشموليته يتضمن مجموعة من الهويات الفرعية، وهي تدخل ضمن هذا المنتج، فالمنتج الاجتماعي هو الحاضنة لكل ما في المجتمع، كما أنه يتضمن الجانبين المادي والمعنوي، فالمادي يتضمن السلوكيات والممارسات الملموسة، مباشرة، والمعنوي هو ما تحتضنه الذاكرة الجمعية من مفاهيم تحرص على تطبيقها وتنفيذها على واقع الناس، وإلزامهم على ذلك بصورة غير مباشرة، حيث تلعب القدوة دورها الفاعل والمؤثر، ولذلك يثمن دور الالتزام الاجتماعي، وينظر إليه على أنه واحد من مقومات الهوية الاجتماعية، سواء الهوية الجامعة للمجتمع ككل؛ أو الهويات المتفرعة كهوية القبيلة، أو هوية الأسرة، ومن خلاله يمكن التفريق بين المجتمعات (هذا مجتمع شرقي؛ وهذا مجتمع غربي، هذا مجتمع متحضر؛ وهذا مجتمع متخلف، هذا مجتمع محافظ؛ وهذا مجتمع متحرر) فسلوكيات الأفراد هي التي تعكس مدى التزامها بإعادة الإنتاج من عدمه، وهذه ترتهن كثيرا على مستوى القناعات عند هؤلاء الأفراد.
وبنظرة عامة، أو تقييم عام؛ يمكن القول: أن كل المجتمعات تحرص – بجهود أبنائها؛ وحرصهم على تأصيل هوياتهم – على إنتاجها الاجتماعي، حتى وإن تغرب بعض أفرادها في مجتمعات بديلة، يبدو ذلك في مجموع الممارسات والسلوكيات التي يقومون بها، ومجموع الصور والمشاهد التي يملؤون بها بيوتهم في الداخل، ومجموع الصور التي يبدون بها خارج المنزل سواء من ارتداء الملابس المعبرة عن هويتهم، وسواء في التعبير بلغتهم الأم، أو في مشاركاتهم في المناسبات العامة من خلال عرض منتوجاتهم الحرفية؛ على وجه الخصوص؛ وهي المنتوجات المعبرة عن عاداتهم وتقاليدهم، وممارساتهم الاجتماعية في البلد الأم، ولكن يتخلل هذه الصورة أو يربكها، أو يحاول كسرها تمددها هو عندما تتعرض الدول إلى الاحتلال البغيض، حيث يبدأ المحتل في تكريس صوره وممارساته، وسلوكياته الاجتماعية المستوردة من بلده، وإسقاطها على البلد المحتل، بل وإلزام أبنائه على تبني البديل، وإن واجه صدا، ومقاومة، فتغريب الهويات أمر ليس سهلا حتى لو جوبه بالقوة العسكرية المتمردة، فإن قناعات الناس؛ يظل تغييرها؛ ليس بالأمر السهل، وتحتاج إلى كم من السنين؛ وفي هذا الكم من السنين قد تحدث بعض الخروقات التي تسيل لعاب المحتل، وقد لا يحدث ذلك إطلاقا، وذلك يعتمد على قوة المجتمع وتماسكه، وإيمانه القوي بهويته، وبانتمائه الوطني القوي، ولعلنا نرى هذه الصورة الماثلة في الحالة الفلسطينية، التي لا تزال تتمسك بشخصيتها وبقيمها، وبقناعاتها، على الرغم من قوة المحتل وغطرسته، وانتهاكه لجميع القيم الإنسانية.
في ختام هذه المناقشة يمكن الوقوف عند نقطتين رئيسيتين:
الأولى: يتم؛ وبصورة قاطعة؛ في إعادة الإنتاج الاجتماعي التنازل الواضح عن مفهوم السوق القائم على تبادل المنافع المباشرة بين أفراد المجتمع، فهنا يسمو الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، ويتسامى عن أي مبرر مادي منتظر أو مقبول، كما لاتحتاج هذه المسؤولية إلى مؤسسة ترعاها، فالأفراد بوحي الإحساس الاجتماعي 'تكليف معنوي' يقومون بمختلف الممارسات التي تعزز من أوجه هذا الإنتاج.
الثانية: أن هذا الدور خاص بالفرد نفسه، أو في جماعته المحيطة، ولا يمكن أن يدخل ضمن المؤسسة الرسمية، نعم؛ قد تعمل المؤسسة الرسمية على وضع قوانين تنضم العلاقات بين الأفراد؛ تلافيا لوقوع أخطاء متعمدة، كالتعدي على الحريات مثلا؛ ولكن لا يمكن أن تقوم بدور الإنتاج الاجتماعي؛ فالمسؤولية اجتماعية بحتة.