أفكار وآراء

حينما احترق المجمع العلمي المصري!

كان كل شيء معدًا لافتتاح معرض القاهرة للكتاب صباح السبت ٢٩ يناير ٢٠١١، بعد أن تم تأجيل افتتاحه، حيث كان مقررا له ٢٦ يناير، إلا أن الاضطرابات والأوضاع الأمنية قد حالت دون عقده في موعده، لذا أرجئ إلى ٢٩ يناير، وبحكم مسؤوليتي عن هيئة الكتاب المنظمة للمعرض، فقد استيقظت مبكرًا صباح ذاك اليوم، وتوجهت إلى المعرض في مكانه الجديد «قاعة المؤتمرات»، فقد كان من المقرر أن يفتتحه الرئيس الأسبق حسني مبارك في تمام الساعة العاشرة من اليوم نفسه، عند وصولي لاحظت خلو المكان من أمن الرئاسة، الذي كان من المعتاد أن يتولى تأمين أماكن تواجد الرئيس، اتصلت بوزير الثقافة فاروق حسني، وقد فاجأني بأن الوزراء جميعًا مجتمعون في مبنى مجلس الوزراء لتقديم استقالة الحكومة، وقد اقترح إلغاء المعرض هذا العام.

خيم الصمت على كل أرجاء المعرض، ورحت أحاور نفسي: ماذا أقول للناشرين الذين تكبدوا مشقة الحضور وجاؤوا من كل أنحاء العالم؟ وماذا عن ضيف الشرف «الصين» الذين بذلوا جهدا مضنيا في إعداد برامجهم من كتب مترجمة، وخصوصًا للأطفال وأعدوا عروضا مسرحية وورشا فنية للكتابة والرسم، بعد أن خصصنا لهم ثلاثة آلاف متر أقاموا عليها مسرحهم ومعارضهم الفنية.

ألقت الحكومة المصرية كرة من اللهب في وجهي، وكان المشهد صعبا وبائسا للغاية، فالمظاهرات قد عمت شوارع القاهرة وميادينها. بدأت على الفور الاجتماع بوزير الثقافة الصيني «رئيس الوفد»، وأخبرته بقرار إلغاء المعرض، إلا أنه استأذنني لكي يجتمع بأعضاء وفده، وقد استمر لمدة ساعة، ثم رحت اجتمع بعدد من الناشرين الذين أصابهم الذهول بسبب حجم الخسائر التي سيتكبدونها.

عند عودة رئيس الوفد الصيني فاجأني بمطلبين غريبين: أولهما، أن يتم افتتاح المعرض الصيني بلا جمهور من خلال العرض المسرحي وبعض أنشطة الأطفال في الرسم والموسيقى وتفاصيل أخرى قال إنها لن تستغرق أكثر من ساعة. ثانيهما، قدم إلي قائمة طويلة بالنفقات المالية التي تكبدوها بما في ذلك مصاريف الإقامة وتذاكر السفر والترجمة وغيرها من المصاريف التي أنفقوها على الوفد الصيني الذي تجاوز المائتين. عندما أخبرته بأن ما حدث هو أمر طارئ خارج عن إرادتنا وعليكم أن تتفهموا ما يحدث في مصر، أجابني بأنه سيعفيني من هذا الحرج، وسوف يترك الأمر إلى وزيري خارجية البلدين.

راح قلب القاهرة يحترق، فقد عمت المظاهرات كل الشوارع والميادين، كان المشهد بائسا، فقد امتدت الحرائق إلى معظم أقسام الشرطة ومقار المحاكم ومباني الإدارات المحلية في المحافظات.

غادرت المعرض ورحت أجوب شوارع القاهرة، سيرا على قدمي وقد رأيت النيران وهي تشتعل في كثير من المباني الحكومية، واستمرت أعمال الشغب والعنف وتفاقمت الحرائق لكي تمتد إلى واحد من أهم المؤسسات الثقافية والتاريخية «المجمع العلمي» بمكتبته العريقة النادرة، ومبناه الشامخ الفريد، وهو المجمع الذي أسسه الفرنسيون خلال احتلالهم مصر ١٧٩٨م، شاهدت عن قرب هذا المبنى العريق وقد أتت عليه النيران، وقفت بالقرب أرقب المشهد البائس وألسنة النيران تتعالى وتشتعل في الموسوعات العلمية والمخطوطات النادرة، والطابق الأعلى وهو ينهار وقد تبعثرت المطبوعات النادرة، وتطايرت المجلدات والملفات الوثائقية، التي يعود معظمها إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

كنت أعرف حجم هذه القيمة العلمية التي يصعب تعويضها، وكنت مذهولًا من هول المأساة، ورحت أتساءل بينما الدموع تنهمر من عيني، بعد أن فقدت القدرة على استيعاب المشهد الذي كان بمثابة كابوس مؤلم، وبينما تلاحقني الأسئلة دون إجابة. إذا بامرأة مصرية يبدو عليها الغضب، تتجه نحوي قائلة: لماذا تبكي؟ لو كنتم علمتم أولادنا قيمة هذا المبنى ما كانوا أحرقوه، إنها مسؤوليتكم. لقد كانت عبارات هذه المرأة صادقة وصادمة! بل هي في صميم المشهد البائس.

كان من الممكن أن أتفهم عبارات هذه المرأة إذا ما كانت المظاهرات ضد الأجهزة الأمنية أو المسؤولين المتنفذين، لكن كان من الصعب أن أتفهم إقدام الغوغاء على إحراق المجمع العلمي، الذي يعد علامة مضيئة في قلب القاهرة، بمكتبته ومقتنياته الفنية النادرة.

عدت إلى مكتبي في دار الكتب المصرية بعد يوم حزين، وفي المساء تلقيت محادثة تليفونية من حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، فقد كان يتابع على التلفاز حريق المجمع الذي أتت عليه النيران، وكان متألما ومتأثرا لكنه راح يخفف عني هول الصدمة قائلا: سوف يعود المجمع بمبناه ومكتبته فلا تقلق!

كنا في دار الكتب نحتفظ بقائمة ورقية كاملة بمقتنيات المجمع، وقد طلب الشيخ سلطان أن أمده بها، في الوقت الذي أعلن فيه المشير حسين طنطاوي القائم بعمل رئيس الجمهورية وقتئذ، إعادة بناء المبنى بتصميمه القديم لكي يفتتح في نفس يوم حرقه في العام التالي. في الوقت الذي كلف فيه الشيخ سلطان مجموعة من تجار الكتب القديمة في روما وباريس ولندن بالعمل على اقتناء ما يمكن الحصول عليه وبأي سعر مهما كلفه ذلك.

كنت أعتقد أن الحصول على مطبوعات قديمة يرجع الكثير منها إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مسألة تكاد تكون مستحيلة، إلا أنني فوجئت عند دعوتي لحضور معرض الكتاب في الشارقة في العالم التالي بإقامة معرض لهذه المقتنيات النادرة، والتي بلغ عددها ٧٥٠ ألف مجلد، في الوقت الذي كانت الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية قد أكملت إعادة بناء المبنى بنفس طرازه الفريد، وعلى طائرة شحن كبيرة تم نقل هذه المقتنيات الثمينة من الشارقة لكي تأخذ مكانها في مكتبة المجمع، وقد تم الاحتفاء بعودة المجمع لكي يؤدي وظيفته الحضارية والإنسانية.