أنس النفوس: في صحبة الجاحظ «١»
الثلاثاء / 13 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 19:04 - الثلاثاء 8 نوفمبر 2022 19:04
يتنزل الجاحظ في الثقافة العربية الإسلامية منزلة أرسطو من الثقافة الغربية، فهو أصل ومؤسس، وله فضل السبق في بعث التفكير العربي الموسوعي، هذا الكاتب الساخر إن أراد السخرية، العالم إن أراد الكتابة في الحيوان وفي أصل البيان، ومنبت الإنسان، البلاغي إن أراد «البيان والتبيين»، والوقوف على أثر القول في العباد، وتقصي سياسة الخطاب، باعث الفكاهة ومخترع فن السخرية العالمة في كتاب يعرض فيه إلى البخلاء، يتقصى أعمالهم وحيلهم وحججهم، ويجعل لهم مجلسا لتباحث أخبار مقتصدي النفقة أصحاب الجمع والمنع، وهو كاتب الرسائل الأدبية التي تتنقّل من جد الجاد إلى سخرية الساخر. الجاحظ قاص وبلاغي ومعتزلي وكاتب رسائل وعالم، وله في السياسة أحكام وآراء، وله في تأسيس الخطاب وتوجيهه مقاصده من المتكلم ألوان وأحوال، وهو صاحب القول المربك في وسائط ضبط خطاب الملوك، وبيان الاختلاف في صياغة القول وفقا لمقتضى منزلة المخاطب.
صحبته لسنوات وما زلت أرافقه، فأرى بعينه الجاحظة، القادرة على النفاذ إلى عمق الإنسان وإرادة الحيوان، عالما يعقِّده فينظر في تراكبه وتشابكه، ويُبسِّطه في سلاسة المقتدر فيبدو سطحا من الماء هادئا. صحبة الجاحظ ممتعة ومفيدة، ملهمة ومؤنسة، ومع الأسف فإن العرب -أغلبهم- يصنفونه منزلة عموم الأدباء، ويحتفون منه بالبخلاء ويتركون حكمة التفكير في ما يخط من متنوع الكتب التي يستغل الجاحظ مقدمة كتاب الحيوان ليعرض شطرا منها، في منطق محاججة تغلب على مجمل ما يكتب، فيفترض منكرا جاحدا لما يكتب ويستند عليه لعرض ما فات ولتسويغ ما هو داخل فيه من تأليف في الحيوان. كتب الجاحظ ثروة في ذاتها ودرس في منطق كتابة لكاتب لا يصدر منه بسيط قول دون جسيم قصد. ولنا أن نعرض مثالا من هذا التنوع في التأليف، يقول الجاحظ: «ثم عبتني بكتاب حيل اللصوص وكتاب غش الصناعات، وعبتني بكتاب المُلح والطُّرف، وما حرّ من النوادر وما برد، وعبتني بكتاب حجج البخلاء، ومناقضتهم للسمحاء، والقول في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّا في العاجل، والكذب إذا كان نافعا في الآجل، وعبتني بكتاب الصرحاء والهجناء، ومفاخرة السودان والحمران، وموازنة ما بين حقّ الخؤولة والعمومة، وعبتني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب، وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرق ما بين الذكور والإناث، وعبتني بكتاب القحطانية والعدنانية في الرد على القحطانية، وعبتني بكتاب العرب والموالي، وعبتني بكتاب العرب والعجم، وعبتني بكتاب الأصنام، وعبتني بكتاب المعادن، والقول في جواهر الأرض، وعبتني بكتاب فرق ما بين هاشم وعبد شمس، وكتاب فرق ما بين الجن والإنس، وفرق ما بين الملائكة والجن، وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضيات، وعبتني برسائلي الهاشميّات، وعبتني برسائلي وبكل ما كتبت إلى إخواني وخلطائي من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال ميسمه باقيا، ومديح لا يزال أثره ناميا، ومن مُلح تضحك، ومواعظ تبكي. وعبتني برسائلي الهاشميات، وعبت كتابي في خلق القرآن، كما عبت كتابي في الرد على المشبهة، وعبت كتابي في القول في أصول الفتيا والأحكام، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن، وعبت كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على النصارى واليهود، ثم عبت جملة كتبي في المعرفة»، وهذا غيض من فيض ما كتب الجاحظ الموسوعي الذي إن زار واقعنا وجده مليئا بمشتقاته ونسخه الرديئة. ولم يكن الجاحظ في تنوع ما يقول ويكتب متطفلا ولا شكليّ المعرفة، بل كان كما سلف أن ذكرنا مؤسّسا في كل المجالات والمعارف التي قال فيها (ولنا لاحق في الحديث عن أسلوبه في كتاب الحيوان وفي غيره من مصادر البيان). فأي كاتب أنتجته الثقافة العربية حقق هذا الامتلاء، وانفلت من دهر الرداءة ومسايرة الموجود، ووجد من الزمن مواقيت لإنجاز موسوعات في الفقه وعلم الكلام والتأريخ للنزاع والتمذهب ورصْد المجتمع في كونه وضحكه وبكائه، وتعريف الناس بواقع مذهبي معقد. هل كان الجاحظ في كل هذا التنويع والتعديد المعرفي فكرة واحدة تجلت في اللغة وفي الحيوان وفي التاريخ؟ هل كان الأصل هو عالم الكلام صاحب الحجة والبيان الذي طبق هذه الأداة التي يجيد استعمالها على فروع في المعرفة مختلفة؟
رغم تراكم المعارف وحدة البحث فيها وشدة إيمانه بضرورة تحصيل معرفتين إحداهما قائمة على الرواية ونقل ما انتهى إليه من تجارب السلف، وثانيهما قائمة على المشاهدة والمعاينة، فقد كان دقيقا في الرواية حاد النظر في الدراية، بأسلوب يغلب عليه الجاحظ الساخر، ومن سخريته أنه كان يروي ما يعرض له من مواقف يتحول فيها صاحبنا الجاحظ إلى مصدر سخرية، هذا العالم الفطن السامع الجيد الحافظ المتدبر لا يخجل أن يسخر منه كما يسخر منهم، «وحكى الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا. فبقيت مبهوتا، ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان فقلت: لا أدري كيف أصوِّره فأتت بك إليَّ لأصوره على صورتك. وفي الجاحظ يقول بعضهم:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه... وهو القذى في عين كل ملاحظ
لو أن مرآةً جلت لمثاله... ورآه كان له كأعظم واعظ»
فهذا الجاحظ قبيح المنظر في أغلب ما روى عن نفسه وما رُوِيَ عنه، يصدر عنه علمٌ جمٌّ، ويُحوّل كبار المنازل من فقهاء وعلماء كلام وأصحاب مذاهب وأدباء إلى موضوع للسخريّة بأسلوب يحوي من التضمين والتكنية ما به صار سيفا جارحا، يُخشى كتابه ولسانه، فإذا اجتمع العلمُ مع المنطق مع مقصد السخريّة نتج خطاب في المراتب العليا من الأثر.
صحبته لسنوات وما زلت أرافقه، فأرى بعينه الجاحظة، القادرة على النفاذ إلى عمق الإنسان وإرادة الحيوان، عالما يعقِّده فينظر في تراكبه وتشابكه، ويُبسِّطه في سلاسة المقتدر فيبدو سطحا من الماء هادئا. صحبة الجاحظ ممتعة ومفيدة، ملهمة ومؤنسة، ومع الأسف فإن العرب -أغلبهم- يصنفونه منزلة عموم الأدباء، ويحتفون منه بالبخلاء ويتركون حكمة التفكير في ما يخط من متنوع الكتب التي يستغل الجاحظ مقدمة كتاب الحيوان ليعرض شطرا منها، في منطق محاججة تغلب على مجمل ما يكتب، فيفترض منكرا جاحدا لما يكتب ويستند عليه لعرض ما فات ولتسويغ ما هو داخل فيه من تأليف في الحيوان. كتب الجاحظ ثروة في ذاتها ودرس في منطق كتابة لكاتب لا يصدر منه بسيط قول دون جسيم قصد. ولنا أن نعرض مثالا من هذا التنوع في التأليف، يقول الجاحظ: «ثم عبتني بكتاب حيل اللصوص وكتاب غش الصناعات، وعبتني بكتاب المُلح والطُّرف، وما حرّ من النوادر وما برد، وعبتني بكتاب حجج البخلاء، ومناقضتهم للسمحاء، والقول في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّا في العاجل، والكذب إذا كان نافعا في الآجل، وعبتني بكتاب الصرحاء والهجناء، ومفاخرة السودان والحمران، وموازنة ما بين حقّ الخؤولة والعمومة، وعبتني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب، وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرق ما بين الذكور والإناث، وعبتني بكتاب القحطانية والعدنانية في الرد على القحطانية، وعبتني بكتاب العرب والموالي، وعبتني بكتاب العرب والعجم، وعبتني بكتاب الأصنام، وعبتني بكتاب المعادن، والقول في جواهر الأرض، وعبتني بكتاب فرق ما بين هاشم وعبد شمس، وكتاب فرق ما بين الجن والإنس، وفرق ما بين الملائكة والجن، وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضيات، وعبتني برسائلي الهاشميّات، وعبتني برسائلي وبكل ما كتبت إلى إخواني وخلطائي من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال ميسمه باقيا، ومديح لا يزال أثره ناميا، ومن مُلح تضحك، ومواعظ تبكي. وعبتني برسائلي الهاشميات، وعبت كتابي في خلق القرآن، كما عبت كتابي في الرد على المشبهة، وعبت كتابي في القول في أصول الفتيا والأحكام، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن، وعبت كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على النصارى واليهود، ثم عبت جملة كتبي في المعرفة»، وهذا غيض من فيض ما كتب الجاحظ الموسوعي الذي إن زار واقعنا وجده مليئا بمشتقاته ونسخه الرديئة. ولم يكن الجاحظ في تنوع ما يقول ويكتب متطفلا ولا شكليّ المعرفة، بل كان كما سلف أن ذكرنا مؤسّسا في كل المجالات والمعارف التي قال فيها (ولنا لاحق في الحديث عن أسلوبه في كتاب الحيوان وفي غيره من مصادر البيان). فأي كاتب أنتجته الثقافة العربية حقق هذا الامتلاء، وانفلت من دهر الرداءة ومسايرة الموجود، ووجد من الزمن مواقيت لإنجاز موسوعات في الفقه وعلم الكلام والتأريخ للنزاع والتمذهب ورصْد المجتمع في كونه وضحكه وبكائه، وتعريف الناس بواقع مذهبي معقد. هل كان الجاحظ في كل هذا التنويع والتعديد المعرفي فكرة واحدة تجلت في اللغة وفي الحيوان وفي التاريخ؟ هل كان الأصل هو عالم الكلام صاحب الحجة والبيان الذي طبق هذه الأداة التي يجيد استعمالها على فروع في المعرفة مختلفة؟
رغم تراكم المعارف وحدة البحث فيها وشدة إيمانه بضرورة تحصيل معرفتين إحداهما قائمة على الرواية ونقل ما انتهى إليه من تجارب السلف، وثانيهما قائمة على المشاهدة والمعاينة، فقد كان دقيقا في الرواية حاد النظر في الدراية، بأسلوب يغلب عليه الجاحظ الساخر، ومن سخريته أنه كان يروي ما يعرض له من مواقف يتحول فيها صاحبنا الجاحظ إلى مصدر سخرية، هذا العالم الفطن السامع الجيد الحافظ المتدبر لا يخجل أن يسخر منه كما يسخر منهم، «وحكى الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا. فبقيت مبهوتا، ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان فقلت: لا أدري كيف أصوِّره فأتت بك إليَّ لأصوره على صورتك. وفي الجاحظ يقول بعضهم:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه... وهو القذى في عين كل ملاحظ
لو أن مرآةً جلت لمثاله... ورآه كان له كأعظم واعظ»
فهذا الجاحظ قبيح المنظر في أغلب ما روى عن نفسه وما رُوِيَ عنه، يصدر عنه علمٌ جمٌّ، ويُحوّل كبار المنازل من فقهاء وعلماء كلام وأصحاب مذاهب وأدباء إلى موضوع للسخريّة بأسلوب يحوي من التضمين والتكنية ما به صار سيفا جارحا، يُخشى كتابه ولسانه، فإذا اجتمع العلمُ مع المنطق مع مقصد السخريّة نتج خطاب في المراتب العليا من الأثر.