أعمدة

قدريّة المفكّر

فوزية الفهدية
 
فوزية الفهدية
قدريّة أنا..

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أعرف فيه أنه ليس محض صدفة ذلك التشابه بين ضوء القمر وتلألئ الماء.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أعرف فيه أنه لا يمكن أن تنتقل خطوة للأمام، بلا خطوة أخرى السابقة منها واللاحقة.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أعرف فيه أن طريقنا الذي نمشيه بإرادتنا يوصلنا الى مناطق محفوفة بالمشيئة الإلهية.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أرى فيه ما يتحقق ما هو إلا ما دنا قدره ليتحقق.

قدريّة أنا الى الحد الذي أعرف به أن فنتازيا الخيال الابتكاري سيظل وفق سياق ما جُبل عليه الكون من قوانين.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أعرف فيه أن اختيارية الفكرة وحريتها تكون وفق منظومة الخلق الأولى.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أرى فيه موضع القدم ونقطة النهاية، وأبصر فيها وبرؤى قلبية الخط الوهمي الفاصل بين النقطتين.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أرى فيه الإناء جاهزا، وما علينا سوى أن نملأه بالتفاصيل.

قدريّة أنا الى الحدّ الذي أعرف فيه مقدار التشابه ما بين أقدارنا والصدى.

قدريّة أنا...

ففي حين يجد البعض صعوبة كبيرة في الخروج عن الأفكار المألوفة المتتابعة في نمط محبوك عبر الزمان، يجد بعضهم أنهم قادرون على توليد الأفكار الجديدة، القادرة على الإسهام في منظومة الخلق الابتكارية لعالم الغد، ليتم بعد ذلك تحديد نسب واضحة لأولئك الذين يمتلكون العقول الإبداعية، والقادرين على صنع العلامات الفارقة في النقلات التطورية الحضارية، فكما أن للزمن سيرورته النمطية التتابعية، الا أنه تظل هناك بعض الخطوات الفارقة التي غيرت مسار ذلك الخط التتابعي، أو أنها اجتازت الخطوات التدريجية، الى خطوات فارقة وفق خارطة الطريق.

وبمزيد من التقصّي وفي حين يفكر الآخرون تفكيرا جمعيا، نجد أننا بحاجة من حين الى الآخر الى تلك الأفكار المتفرّدة، التي بدورها تهبنا القفزات وتغير المسارات، فذلك التفكير الجمعي يكون منقادا لمسيرة طويلة من التراكمات المعرفية والافتراضات المبنية وفق مبادئ الوعي، حتى باتت كالبنيان المرصوص يصعب هدمه، إنما يمكننا البناء عليه، أو إعادة هندسته وفق رؤيتنا المتجددة والاكتشافات المتتالية، فيظل الفرد العادي غير قادر على رؤية ما هو خلف ذلك السّياج، فيأتي المبدع ليكون له رأي آخر، وإضافة أخرى فارقة في ذلك البناء المعرفي، وما علينا سوى أن نُفسح الطريق له.

وفي حين يظن الفرد أن فكرته جاءت من الفراغ أو العدم، الا أنه حتى تلك الأفكار البديهية الفجائية ليست منفصلة تماما عما سبقها لكنها تفوقها بمراحل، ومن يعرف الإلهام حقا مدركا مبادئه يعرف أنه يحدث نتيجة اختمار الأفكار، وليس خلقا جديدا يتصف بالحداثة كليا، فلو تخيلنا فرضا أن تلك الفكرة هي مادة أولية، كتلك المواد الأولية الموجودة مع الخلق والتكوين الأولي للكون، الا أن الدمج بين تلك المواد الأولية وبنسب متفاوتة، هو ما أوجد الأشياء من حولنا، فكما يقول كارلو باليورو: ' المادة لها بداية ونهاية، لكن من خلال الفن فإن هذه المواد خالدة '، كذلك الأفكار فإنها وإن بدت لك متمظهرة بعزّة وكبرياء متفرد بحداثتها، الا أنها ما هي إلا نتاج لبذور أولية لا نهائية، من أفكار مسبقة تنامت داخلك، وعلى نحوٍ يصعب تحديد مكانها، متوزعة ما بين الوعي واللاوعي، في ذاكرة تخزينية اكتشف مؤخرا أنها غير مرتبطة ببقعة محددة من الدماغ في الفصّ الصدغي من قشرة المخ، فهي متوزعة على أجزاء الدماغ بنسب وأنواع معينة كما تبين من الدراسات الحديثة مؤخرا.

وتجارب الكتّاب وخلافه من أصحاب القرارات الفارقة يعرفون جيدا أن لقراراتهم تلك وأفكارهم الإبداعية جانب قدري، فكثيرا ما يحدث أن يبدأ الكاتب عمله بخطة معينة، فيفاجأ أخيرا بأن نهاية الكتاب منقادة الى نقطة، ما كان ليحسب لها حسابا من الأساس، حتى يكاد عندما يُسأل عن تفاصيل النهايات والأعمال الفكرية، يقول بأنها نتيجة لتلاقح الأفكار، ويجد نفسه منقادا لها، كما عبّر عن ذلك الكاتب أسامة علاّم كونها لعبة قدريّة: ' أنا ككاتب لست سوى جسر للكلمات '، مؤكداً بذلك على أن الإرادة البشرية تقودنا الى تحقق إرادة الله، والوعي يطوّقنا كالهواء، فيشكلنا على النحو الذي يريده، ومما يؤكد قدريّة المفكّر أيضا، تلك المصادفة التي جنت منها البشرية الكثير من الاختراعات، التي تحفظ ديمومة الوجود، كقصة اكتشاف أعواد الكبريت للعالِم البريطاني جون والكر، حيث أدى جفاف بعض المواد في مختبره الى اشتعال النار، لتُسفر عن اختراع سهّل للبشرية أداء مهامّها، وكما يقول غيليمفولتس: ' إن الجمال يظهر في الفنّان دون وعي منه، ليس بوسعه أن يخضع للتحليل'، فلا يتراءى لنا شيء من البعيد؛ إلا وفق المنظور الذي تطاله قدراتنا، ولا يقترب منا حقيقة؛ سوى ما كان وشيكا حدوثه.

وبمزيد من التفصيل للأمر، فإن مخططاتك الإبداعية في لحظة ما، كانت وليدة لأفكار الماضي، وفكرتك التي تستشعر بأنك تضيفها فإنها جاءت بناء لأحداث قدريّة، مما يؤثر على جوهر قراراتك وتفكيرك، فمهما بدا للإنسان ما هو صانع، فإن ذلك يظل محكوما بالقوانين الأزلية، التي جاءت مع خلق الكون، فإن الأمر بالنسبة لك غير مرئي بتاتا، إلا أن الخبرات تتراكم داخلك، لتنبثق عنها خبرات أكثر حداثة وتطورا، محكومة بزاويتين رصينتين، ما بين الوعي المتنامي عبر الزمان ومنذ لحظة الميلاد، الى تلك الزاوية القدريّة التي يظل فيها الأمر وِفق العناية الإلهية، ورغم أن الطفل يولد على الفطرة، الا أن الوعي السائد له سطوة كبرى في تشكيله، فيكتسب ذلك الوعي بوعي كلّي، فيعود بنا الى كينونة الجماعة، بلا استفحال وإيغال في الاختلاف والتفرّد، وبدون أن نواصل بدأب في الانفلات عن خط سير الزمان.

فأنت تضع هناك الأفكار متقوقعا في زاويتك المحصورة منكفئاً على نفسك، تظن بأن صنيعك سيخلق الجديد، وسيوازي الخلق الإلهي، رغم زخم الأفكار فأنت لن تعي ما هو أبعد من مقدرة الإنسان، ولم تعرف القدرة الحقيقية التي جُبل عليها الكون، فما صنيعك سوى فرشاة تلوّن بها ما رُسم، ومزمار تنفخ فيها ما تعلمت من ألحان منذ بداية تشكلك الجنيني الأوّلي، وجميعها تكون مؤطّرة وفق الإرادة الإلهية فلا مناص من القدر.

لا شيء يحدث فجأة لا شيء يحدث مصادفة، تلك هي التدابير الإلهية، فلا يمكنك أن تتقوقع هناك بعملك الإبداعي، دون أن تعزل الأمر عن كل شيء، عن ذلك الوعي المتنامي عبر الأزمان والحضارات، وعن تلك القوانين التي يسير الكون وِفق مشيئته، التي خُلق عليها ليكون، وعلى ما هو مجبول عليه دائما.

لذا فنحن نقوم بأدوار من سبقونا لا نستطيع الفكاك من الماضي، ومن القوانين الكونية عبر مزاليج القدر، فلا تصنع الا ما هو وشيك الصنع، ولا يخطر في بالنا الا تلك الأفكار المتواردة حقاً، ولا تحقق الا ما قد اقترب أوانه لتصدق مقولة الشاعر سليم عبدالقادر: ' مرة أخرى القدر يقول كلمته بوضوح '.

وإن لم يكن الإبداع محكوما بوعي تراكمي يسير بنمط معين، وان لم يكن الإبداع يسير وفق المشيئة الإلهية، لكانت هناك اختلافات شاسعة ما بين الناس والمخلوقات بشكل عام، ولوجدت هناك مخترعين قد انفصلو تماما عن المنظومة الكونية، ولكانت هناك بين الاختراعات بون شاسع، الا أنه ولأن الأمر محكوم بالوعي المتنامي، وقدرية المفكّر فنجد أن الأمر يسير وفق وحدة واحدة، يشابه الى حد كبير المدارات الإهليليجية الحلزونية لأطراف مجرة درب التبانة، فهناك ما نتفق عليه ويجمعنا لنختلف من بعدها بمزيد من التوسع، ونتفرّد ببصمات أصابع وهوّية خاصة، لنعود ونجتمع على المركزية ذاتها.

ولنتساءل أخيراً وعلى نحو جدلي، إن كانت نقطة بدء الفكرة تقابلها نقطة وصول بمشيئة إلهية، ماذا نسمي تلك المرحلة ما قبل بدء ظهور الفكرة؟ لا بدّ بأنه ستكون الإجابة على نحو حتمي بديهي، ستكون الرحلة حينها خاصة بأفكار أخرى، لنعود مجددا الى النقطة القدرية ذاتها، لأصل الى الحدّ الذي أقول فيه: قدريّة أنا الى الحدّ الذي أرى فيه أن الأفكار جاءت مع بذرة الخلق الأولية، قدريّة أنا الى الحدّ الذي أتساءل فيه، ولا أنتظر الإجابة..قدريّة أنا.