ما بين حربين.. شاهد على حياة المصريين «٢»
السبت / 10 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 19:07 - السبت 5 نوفمبر 2022 19:07
لم تنتظم الدراسة في الجامعات المصرية طوال الفصل الدراسي الأول، عقب حرب أكتوبر ١٩٧٣، فقد اشتغل الطلاب بتقديم برامج فنية وثقافية ومسرحية احتفاء بهذا الحدث التاريخي، والكثيرون منهم قد راحوا يتدربون على أعمال عسكرية، في الوقت الذي نشطت فيه قصور الثقافة، ليس في القاهرة فقط وإنما في كل المدن المصرية، وهي المؤسسات التي شيدها وزير الثقافة «ثروت عكاشة» منذ مطلع الستينيات وراحت تقدم الشباب الشعراء والمسرحيين والفنانين التشكيليين، لذا تغيرت الروح المعنوية لدى الطلاب، وإلى حد كبير فقد اكتسب الرئيس السادات شعبية وسط جموع الطلاب، إلا أن قطاعا من بينهم وخصوصًا من ذوي الميول اليسارية راحوا يشككون فيما حققته الحرب من نتائج، بعدما تم اختراق القوات الإسرائيلية فيما عرف بالثغرة ودخولهم أطراف مدينة السويس، وكنت من بين الذين حمّلوا الرئيس السادات شخصيًا مسؤولية هذا الاختراق.
كانت القاهرة والمدن المصرية تموج بحراك سياسي واجتماعي وفني، لم يقتصر على الجامعات بل عم كل المؤسسات والبيوت الثقافية، وكنت أقضي فترة المساء من كل يوم لمشاهدة أعمال مسرحية تعرض على مسارح القاهرة والأقاليم، فضلًا عن الندوات الثقافية التي كانت العنوان الأهم، وهو المشهد الذي كنا نسميه بالمقاومة الناعمة، وكان عبد الناصر حاضرا في كل هذه المناسبات، وكان الطلاب منقسمين، لدرجة أن الكثيرين منا راحوا يقولون إن ما تحقق على الجبهة هو انتصار للرجل الغائب الحاضر جمال عبد الناصر، فهو الذي أعاد بناء الجيش وأشرف على الخطط العسكرية للمعركة، وهو الذي استقدم أسلحة سوفييتية جديدة، والأهم من ذلك كله فهو صاحب فكرة أن الحرب هي مهمة الشباب من خريجي الجامعات، فهو واجبهم الأول الذي لا يتحقق النصر بدونهم، وهي مهمة كانت عظيمة لدرجة أن الكثيرين منهم الذين التحقوا بالجيش عقب حرب ١٩٦٧، لم يخرجوا منه إلا في عام ١٩٧٤.
كان الحراك الطلابي قويا، ومما يُذكر للرئيس السادات أنه لم يقمع هذا الحراك، لدرجة أننا في اتحاد طلاب الجمهورية كنا نُصدر صحيفة نصف شهرية، يحررها ويكتب فيها الطلاب بكل حرية، لدرجة النقد اللاذع أحيانًا، والصور الكاريكاتورية المثيرة، وكنا حريصين على أن تصل إلى الوزراء والمسؤولين التنفيذيين، وعلى رأسهم الرئيس السادات شخصيًا، وكنا نتفنن في ذلك بوسائل مختلفة، وهو ما أغضب الرئيس لدرجة أنه في أحد خطبه قد شن حملة قاسية على الاتحادات الطلابية، لدرجة أنه أعلن بشكل واضح: أن مثل هذه الاتحادات لا وجود لها إلا في البلاد الشيوعية.
امتلأت الجامعات برجال الأمن، والعمل على رصد كل الأنشطة المناوئة للنظام، بل جرت محاولات للعمل على انقسام الحركة الطلابية من خلال أجهزة وزارة الشباب ومحاولة قيام تنظيم موازٍ استطاع أن يستقطب أعدادًا كبيرة من الطلبة، إلا أن المشهد الأكبر كان لغالبية الطلاب الذين لم يسلم السادات ولا نظامه من نقدهم.
حرص الرئيس السادات على إجراء حوار مباشر مع القيادات الطلابية، كنت أحد المشاركين فيه، وتعددت اللقاءات في استراحة برج العرب «غرب الإسكندرية»، وفي كل مرة كان الرئيس يتحدث عن نشأة حركة الضباط الأحرار، أو عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وكثيرا ما كان يتحدث عن تاريخه الشخصي، وكيف تعرض للفصل من الجيش، ووصل الأمر لدرجة أنه كان ينسب إلى نفسه فكرة إنشاء تنظيم الضباط الأحرار.
كان حديث السادات يمتد أحيانًا لما يقرب من ثلاث ساعات، وفي أحد المرات خاطب وزير الشباب قائلًا: هل تناول أولادي الغداء يا عبد الحميد؟ يرد الوزير عبد الحميد حسن: كله جاهز يا افندم. بعدها يأذن لنا الرئيس بالتوجه لتناول الطعام، الذي لم يكن يتكون بأكثر من سندوتشات جبن ومربى، وزجاجات مياه كان مصدرها من صنابير المياه، بعدها نعود لكي يواصل الرئيس حديثه، وفي كل مرة كان يواصل حديثه بكلام مشوق في كثير من الأحيان، وكان يبدو رقيقًا ومفعمًا بالأمل رغم الوضع السياسي والعسكري المأزوم، ورغم ما حققه الجيش من انتصار وعبور لقناة السويس، في جولة لم تكن قادرة على حسم المعركة نهائيا.
على الرغم من كثرة خطب الرئيس السادات وإشادته بالقوات المسلحة وما حققته في أقل من ست ساعات، لكننا كنا نشعر أن الرجل يواجه العديد من المشاكل، فالوضع الاقتصادي كان صعبا، والبنية الأساسية لمختلف مرافق الدولة متدهورة، والجامعات تموج بحراك سياسي، والسوفييت قد توقفوا عن إمداد الجيش المصري بالأسلحة، والمعركة لم تحسم بعد، وأي جولة قادمة مع إسرائيل هو قرار محفوف بالمخاطر. أعتقد أنه من هنا بدأ الرجل يفكر في فتح حوار مع إسرائيل من خلال عدة وسائط عربية وأمريكية، وراح هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية يواصل رحلاته المكوكية إلى القاهرة، وقد تمخض هذا الجهد عن فض الاشتباك القائم بين الجيشين، وعاد الجنود والضباط الذين حوصروا في الثغرة إلى بيوتهم بعد عدة شهور من هذا الحصار القاسي.
أعتقد أن السادات قد قرر منذ هذا التاريخ أن يدخل في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، حينما أعلن عن رغبته في الذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي لمواجهة الإسرائيليين في عقر دارهم (في ٩ نوفمبر ١٩٧٧)، وكان القرار صادما للغاية، فقد انقسم المصريون، بعد أن نفذ ما أعلن عنه بالذهاب إلى إسرائيل وإلقاء خطابه الشهير في الكنيست ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧، كما كان الموقف العربي رافضا، لدرجة أن عشرة من حكام الدول العربية اجتمعوا في بغداد في نوفمبر ١٩٧٨، وأعلنوا رفضهم لمبادرة السادات، بل ومقاطعة مصر بعد أن انضمت إليهم غالبية الدول العربية، ولم تبق إلا ثلاث دول فقط أعلنت عن موقفها الداعم لمصر، «سلطنة عمان والسودان والصومال»، وكان موقف المرحوم السلطان قابوس هو الموقف الأقوى: «تعترضون على قرار يخص المصريين وحدهم، فهم الذين يحاربون ويستشهد أبناؤهم»، ولم تنسَ مصر والرئيس السادات هذا الموقف الكريم من السلطان قابوس، الذي توثقت علاقته بالرئيس السادات حتى آخر يوم في حياة السادات.
أعلن السادات في الكنيست الإسرائيلي أنه لم يأت إليهم لعقد صلح منفرد، وإنما لحل القضية الفلسطينية برمتها، وكان المسرح مهيئا في اجتماع مينا هاوس بالقاهرة بمشاركة دول المواجهة، وفي مقدمتهم منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الضغوط التي تعرض لها أبو عمار قد حالت دون المشاركة، ولعلها كانت الفرصة الأخيرة لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
على الرغم من أنني كنت من الرافضين للمبادرة في حينها، إلا أنه بعد مرور كل هذه العقود الطويلة- أعتقد الآن أن السادات كان على صواب فيما اتخذه من قراري الحرب والسلام. بينما كان موقف دول الرفض مخيبًا للآمال، فلو كانت الدول العربية في حينها قد دعمت السادات في سياسته لكان الموقف مختلفًا، وخصوصًا وقد شعرت إسرائيل والولايات المتحدة أن الرجل يخوض مفاوضات شاقة بمفرده، بعيدًا عن دعم عربي، وهي نقطة ضعف أضرت بنتائج المفاوضات، وظلت القضية الفلسطينية معلقة بعد أن انفض من حولها الكثير من العرب.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان السادات مصيبا في موقفه؟ وهل يتحمل العرب نتائج ما آلت إليه القضية الفلسطينية؟
كانت القاهرة والمدن المصرية تموج بحراك سياسي واجتماعي وفني، لم يقتصر على الجامعات بل عم كل المؤسسات والبيوت الثقافية، وكنت أقضي فترة المساء من كل يوم لمشاهدة أعمال مسرحية تعرض على مسارح القاهرة والأقاليم، فضلًا عن الندوات الثقافية التي كانت العنوان الأهم، وهو المشهد الذي كنا نسميه بالمقاومة الناعمة، وكان عبد الناصر حاضرا في كل هذه المناسبات، وكان الطلاب منقسمين، لدرجة أن الكثيرين منا راحوا يقولون إن ما تحقق على الجبهة هو انتصار للرجل الغائب الحاضر جمال عبد الناصر، فهو الذي أعاد بناء الجيش وأشرف على الخطط العسكرية للمعركة، وهو الذي استقدم أسلحة سوفييتية جديدة، والأهم من ذلك كله فهو صاحب فكرة أن الحرب هي مهمة الشباب من خريجي الجامعات، فهو واجبهم الأول الذي لا يتحقق النصر بدونهم، وهي مهمة كانت عظيمة لدرجة أن الكثيرين منهم الذين التحقوا بالجيش عقب حرب ١٩٦٧، لم يخرجوا منه إلا في عام ١٩٧٤.
كان الحراك الطلابي قويا، ومما يُذكر للرئيس السادات أنه لم يقمع هذا الحراك، لدرجة أننا في اتحاد طلاب الجمهورية كنا نُصدر صحيفة نصف شهرية، يحررها ويكتب فيها الطلاب بكل حرية، لدرجة النقد اللاذع أحيانًا، والصور الكاريكاتورية المثيرة، وكنا حريصين على أن تصل إلى الوزراء والمسؤولين التنفيذيين، وعلى رأسهم الرئيس السادات شخصيًا، وكنا نتفنن في ذلك بوسائل مختلفة، وهو ما أغضب الرئيس لدرجة أنه في أحد خطبه قد شن حملة قاسية على الاتحادات الطلابية، لدرجة أنه أعلن بشكل واضح: أن مثل هذه الاتحادات لا وجود لها إلا في البلاد الشيوعية.
امتلأت الجامعات برجال الأمن، والعمل على رصد كل الأنشطة المناوئة للنظام، بل جرت محاولات للعمل على انقسام الحركة الطلابية من خلال أجهزة وزارة الشباب ومحاولة قيام تنظيم موازٍ استطاع أن يستقطب أعدادًا كبيرة من الطلبة، إلا أن المشهد الأكبر كان لغالبية الطلاب الذين لم يسلم السادات ولا نظامه من نقدهم.
حرص الرئيس السادات على إجراء حوار مباشر مع القيادات الطلابية، كنت أحد المشاركين فيه، وتعددت اللقاءات في استراحة برج العرب «غرب الإسكندرية»، وفي كل مرة كان الرئيس يتحدث عن نشأة حركة الضباط الأحرار، أو عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وكثيرا ما كان يتحدث عن تاريخه الشخصي، وكيف تعرض للفصل من الجيش، ووصل الأمر لدرجة أنه كان ينسب إلى نفسه فكرة إنشاء تنظيم الضباط الأحرار.
كان حديث السادات يمتد أحيانًا لما يقرب من ثلاث ساعات، وفي أحد المرات خاطب وزير الشباب قائلًا: هل تناول أولادي الغداء يا عبد الحميد؟ يرد الوزير عبد الحميد حسن: كله جاهز يا افندم. بعدها يأذن لنا الرئيس بالتوجه لتناول الطعام، الذي لم يكن يتكون بأكثر من سندوتشات جبن ومربى، وزجاجات مياه كان مصدرها من صنابير المياه، بعدها نعود لكي يواصل الرئيس حديثه، وفي كل مرة كان يواصل حديثه بكلام مشوق في كثير من الأحيان، وكان يبدو رقيقًا ومفعمًا بالأمل رغم الوضع السياسي والعسكري المأزوم، ورغم ما حققه الجيش من انتصار وعبور لقناة السويس، في جولة لم تكن قادرة على حسم المعركة نهائيا.
على الرغم من كثرة خطب الرئيس السادات وإشادته بالقوات المسلحة وما حققته في أقل من ست ساعات، لكننا كنا نشعر أن الرجل يواجه العديد من المشاكل، فالوضع الاقتصادي كان صعبا، والبنية الأساسية لمختلف مرافق الدولة متدهورة، والجامعات تموج بحراك سياسي، والسوفييت قد توقفوا عن إمداد الجيش المصري بالأسلحة، والمعركة لم تحسم بعد، وأي جولة قادمة مع إسرائيل هو قرار محفوف بالمخاطر. أعتقد أنه من هنا بدأ الرجل يفكر في فتح حوار مع إسرائيل من خلال عدة وسائط عربية وأمريكية، وراح هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية يواصل رحلاته المكوكية إلى القاهرة، وقد تمخض هذا الجهد عن فض الاشتباك القائم بين الجيشين، وعاد الجنود والضباط الذين حوصروا في الثغرة إلى بيوتهم بعد عدة شهور من هذا الحصار القاسي.
أعتقد أن السادات قد قرر منذ هذا التاريخ أن يدخل في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، حينما أعلن عن رغبته في الذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي لمواجهة الإسرائيليين في عقر دارهم (في ٩ نوفمبر ١٩٧٧)، وكان القرار صادما للغاية، فقد انقسم المصريون، بعد أن نفذ ما أعلن عنه بالذهاب إلى إسرائيل وإلقاء خطابه الشهير في الكنيست ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧، كما كان الموقف العربي رافضا، لدرجة أن عشرة من حكام الدول العربية اجتمعوا في بغداد في نوفمبر ١٩٧٨، وأعلنوا رفضهم لمبادرة السادات، بل ومقاطعة مصر بعد أن انضمت إليهم غالبية الدول العربية، ولم تبق إلا ثلاث دول فقط أعلنت عن موقفها الداعم لمصر، «سلطنة عمان والسودان والصومال»، وكان موقف المرحوم السلطان قابوس هو الموقف الأقوى: «تعترضون على قرار يخص المصريين وحدهم، فهم الذين يحاربون ويستشهد أبناؤهم»، ولم تنسَ مصر والرئيس السادات هذا الموقف الكريم من السلطان قابوس، الذي توثقت علاقته بالرئيس السادات حتى آخر يوم في حياة السادات.
أعلن السادات في الكنيست الإسرائيلي أنه لم يأت إليهم لعقد صلح منفرد، وإنما لحل القضية الفلسطينية برمتها، وكان المسرح مهيئا في اجتماع مينا هاوس بالقاهرة بمشاركة دول المواجهة، وفي مقدمتهم منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الضغوط التي تعرض لها أبو عمار قد حالت دون المشاركة، ولعلها كانت الفرصة الأخيرة لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
على الرغم من أنني كنت من الرافضين للمبادرة في حينها، إلا أنه بعد مرور كل هذه العقود الطويلة- أعتقد الآن أن السادات كان على صواب فيما اتخذه من قراري الحرب والسلام. بينما كان موقف دول الرفض مخيبًا للآمال، فلو كانت الدول العربية في حينها قد دعمت السادات في سياسته لكان الموقف مختلفًا، وخصوصًا وقد شعرت إسرائيل والولايات المتحدة أن الرجل يخوض مفاوضات شاقة بمفرده، بعيدًا عن دعم عربي، وهي نقطة ضعف أضرت بنتائج المفاوضات، وظلت القضية الفلسطينية معلقة بعد أن انفض من حولها الكثير من العرب.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان السادات مصيبا في موقفه؟ وهل يتحمل العرب نتائج ما آلت إليه القضية الفلسطينية؟