أفكار وآراء

فـي نـسبـيـة الـحـريــة

يصطدم كل تعريف نظري لمفهوم الحرية بواقع موضوعي يرسم له حدودا متواضعة، ويضفي عليه من النسبية ما يـقارب شطبه جملة. إن قلنا، مثلا، إن الحرية هي الشعور بعدم التبعية للحاجات؛ هذه التي تقود المحكوم بها إلى تقييده، بطـل معناها جملة لأن الحاجات موضوعية، في المقام الأول، أي تفرض نفسها على نحو طبيعي أو اجتماعي لا سبيل لدى الواقعة عليه إلى كفه إلا بإشباعها «الحاجات» أو تغطية ما يكفي تغطيته منها. ومن الحاجات ما هو بيولوجي حيوي «الغذاء، التناسل...»، وما هو اجتماعي «الانتماء إلى محيط جامع وحاضن، التعلم، العمل، المشاركة الاجتماعية، الأمن الاجتماعي...إلخ»، وما هو ثقافي وروحي «التخييل، حاجات الذائقة الجمالية، الإيمان...»... إلخ؛ هذا عدا عن الحاجات التي يصطنعها الناس لأنفسهم مع التطور، فتتحول بدورها إلى ما يشبه الحاجات الطبيعية، وتفرض على الناس - بالتالي - إشباعها مثل سائر الحاجات الأولى الحيويـة المشار إليها.

وإن قلنا إن الحريـة تعني استقلال الإرادة، فربطنا بينهما ربطا تلازميـا، انتهينا إلى اختزال معنى الحرية في الإرادة الحرة Free will فيما ليس كل ما يـراد يستطاع تحقيقه، وليست حيازة إرادة في شأن ما مرادفة بالضرورة، لحرية المرء تجاهه. ما من شك في أنـه ما من تلازم منطقي وواقعي بين الحدين؛ فقد لا أكون حرا حين أريد، أو حين أعبـر عن إرادتي، إذا لم يكن ما أريـده من المتاحات؛ وقد لا تكفيني إرادتي لأكون حرا إن لم تتأت لحريتي شروط انبثاقها مما يكبحها من الموانع. ومع ذلك، فإن التفكير في الحرية من زاوية اتصالها بالإرادة، شكلا ما من الاتصال، أدعى إلى الاقتراب من معناها مما لو كان هناك فـك للارتباط بينهما...

وقد نقول إن الحرية هي تلك المساحة من الاستقلالية التي يملكها المرء في عالمه الداخلي (= الحرية الجوانية)، والتي لا يزاحمه عليها أحد أو يحول دونه والشعور بها؛ تلك المساحة المستقلة عن العالم الخارجي والتزاماته التي «اكتشفها» أو تحدث عنها القديس أوغسطين...؛ وحينها نكون قد ربطناها بالشعور وحولناها إلى مجرد حالة سيكولوجية إيجابية، فيما تعامينا عن النظر إليها في وجودها المادي بما هي واقع اجتماعي معيش، وبما هي حقوق ومكتسبات تتولد من وجودها ذاك. وبكلمة، نكون قد أسقطنا الأبعاد الاجتماعية والسياسية للحريـة؛ وهي الأس الأساس فيها.

كما قد نقول إن الحريـة هي الفعل المفتوح على تحقق لا قيـد عليه يلجـمه، أو يمنعه من تحقيق نفسه؛ الفعل المتدفق، الذاهب نحو غايته من غير حدود ترسمها له سلطة أو فكرة أو مؤسسة أو جسم اجتماعي. وحينها نكون قد عرفنا الحرية بأنها الفاعلية المفتوحة التي تعمل من غير ضابط لها يضبطها إلا ما كان من واعزها الذاتي الداخلي. وهو ما يعني أننا نماهي، في هذه الحال، بين الحرية والفوضى؛ حيث الفوضى هي، بالذات، ما لا نظام يعـقـله ويفرض عليه الحـد...

هذه تعريفات أربعـة لا تحيط بمعنى الحريـة في كليـته؛ بل تلحـظ جزئيـات في الظاهرة وتذهل عن أخرى. وليس مرد ذلك إلى قصور نظري في التعريف أو، قـل، إلى استعصاء المفهوم على تحديد نظري دقيق له يكون جامعا مانعا - بلغة المناطقـة - بل مرده إلى ما ينطوي عليه المفهوم نفسه من نسبية تفرض على النظر إليه عدم وضعه، كمفهوم، أمام مقابلات أخرى حـدية واشتقاق معناه مما يقابله أو يناقضه (مثلا: الحرية/الضرورة؛ الحريـة/ الإلزام...إلخ)؛ فقد لا تكون هذه المقابلات مناقضات، وبالتالي، قد لا يستفاد منها معنى ما للحرية نشـتـقه من علاقة التنافي، على نحو اشتقاقنا معنى الصدق من مقابله الكذب، مثلا، أو معنى الضعف من مقابله القوة وهلمجـرا.

حين نقول إن الحريـة نسبية المعنى والكينونة وليست مطلقة، نسلم بأنها لا تقاس بمعيار تجريدي نظري، بل بميزان واقعي. إن وزنها يقل، في هذه الحال، كلما قلت شروطها أو تناقصت بينما يزيد بزيادتها وارتفاعها. هكذا يشعر المرء بأنه أقل حرية إذا كان فقيرا مما لو كان يملك مالا؛ فهو لا يقوى، حينها، على إجابة حاجاته بما فيها الحيوية والضرورية، ولكن الشعور بحيازته هامشا ما من الحرية يتسع أكثر كلما توفر له هذا الشرط المادي الذي يغالب به حاجاته. بالمثل، يشعر المرء بأن حيز حريته يضيق كلما كان أمـيا يجهل القراءة والكتابة، أو لا يعرف من اللغات - وهو خارج وطنه - غير لغته، الأمر الذي يقـيد حركة التصرف والمبادرة لديه ويشعره بالهامشية والغربة. ولكن هذه الأوضاع والمشاعر سرعان ما تجلو عنه؛ فتعود إليه الثقة بالنفس، ويتسع نطاق اختياراته - وبالتالي - حريته ما إن يحصـل القدر الضروري من العلم والمعرفة اللذين يسمحان له بسد حاجياته. وهكذا تتحدد الحرية نسبة إلى وضعية خاصة وحاجات بعينها، فتكون (الحرية) بوجودها وتنعدم بارتفاعها أو غيابها.

ويؤدينا الوعي بنسبية الحرية إلى نتيجة تلزم عنه، حكما، هي ضرورة الانتقال من مبناها النظري، الذي يعبر عنه مفهوم الحرية، إلى تعيناتها المادية الواقعية التي يعبر عنها مفهوم الحريات. نكون، بهذا، قد انتقلنا من المقاربة الفلسفية للمفهوم إلى المقاربات السوسيولوجية والسياسية له، وهي المقاربات التي ترصد حالات الحرية وتمظهراتها ، وبالتالي، نسبها المتحققة. نحن، هنا، لسنا أمام حرية مجردة نبحث عن مفهومها، بل أمام حريات ملموسة قابلة للقياس وللتكميم (بالمعنى الرياضي)، وقابلة للتمييز بين أنواعها. لذلك لا يتعسر على التحليل، في مثل هذه الحال، أن يضع تصنيفا للحريات على قاعدة مراتبها التي تنتظم فيها رتبا ودرجات متفاوتة تبعا لكثافة - أو قلة - كـم الحقوق ونوعها في كل واحدة منها. وهكذا يقع التمييز بين حريات فردية وحريات جماعية؛ حريات مدنية وحريات سياسية، وداخل هذه بين حريات التعبير والنشر وحريات التمثيل وحريـات المشاركة... إلخ.

ما من شك في أن كل محاولة من الباحث لأن يـمسئـل الحرية (= يحولها إلى مسألة للتفكير) تلفي نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: أمام تفكير فلسفي يبحث في «ماهية» هذه الحرية، أو أمام تفكير سياسي - اجتماعي يحلل أوضاعها في الواقع المادي؛ حضورا أو غيابا، ارتفاعا أو انخفاضا، اكتسابا أو حرمانا، امتناعا أو إمكانا... إلخ. ونحن - مع علمنا بالقيمة الرفيعة للمقاربة الفلسفية - نميل إلى الاعتقاد بأن المدخل الفلسفي إلى سؤال الحرية مسدود لأنه مكبوح بالفكرة التي تحول دون معرفة الحرية؛ أعني «ماهيتها» وجوهرها، لذلك فإن تشييد معرفة عن الموضوع يقتضي توسـل مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية، في هذا الباب، في المقام الأول.