الخوف من الخوف
الثلاثاء / 6 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 18:53 - الثلاثاء 1 نوفمبر 2022 18:53
عندما أتحدث مع من ألتقيهم في المناسبات القليلة التي أرى فيها الآخرين، يثير اهتمامي دوما ذلك القناع الذي نرتديه لنخفي خوفنا وهشاشتنا الداخلية، بتُ مع مرور الوقت 'أتحسسُ مسدسي' ما إن أصطدم به مع أنني أستطيع تخيل كل ما يقف وراء هذا السلوك. وباتت القدرة على الانكشاف والتنازل عن مكانة المحارب هذه، دليلي لمن سيصبحون في دائرتي المقربة. تمكن الأدب من تربيتي وما زال يفعل على شم رائحة الخوف من على بعد أمتار، وبتُ أؤمن أن أكثر المشتركات الإنسانية وضوحا هي خوفنا جميعا، الخوف من كل شيء، المحرك الأول لكل ما نفعل. لكن ثمة حساسية خاصة لدي تجاه ما بدأت به هذا النص، الخوف من الخوف.
إحدى أكثر 'الألعاب' أو فلنسمها 'الأدوار' انتشارا بيننا اليوم، هي ادعاء اللامبالاة، فكلما كنت قادرا على إظهار شكل من الصرامة الانفعالية في عدم اهتمامك، بدوت أكثر نضجا وحكمة، وبأنك استطعت الإمساك بجوهر التجربة الوجودية ونجوت. إن هذا لا يعدو كونه تمظهرا للنفعية الصارمة، وتغلغلها في استجاباتنا لما يحدث معنا ومن حولنا. وهكذا تكشف لي أن كل إنسان أتحدث معه خائف حتى عظامه.
يسببُ لنا الخوف تذبذبا مستمرا في مجال الرؤية، وكل من يخاف خصوصا من يعبرون عن ذلك في مجتمعات تسعى لقتل الانفعال غير المفيد، بينما وللمفارقة الشديدة تستخدمه ولا ضير معها مع عده سلعة هو الآخر، يتم بناء مشاريع اقتصادية على وجوده، كل من يخاف هو تحت عدسة المجهر، يمكن رؤيته وهو كائن متلو ومتضرر ويتعذر إصلاحه على غرار ما حدث مع الشخصية الرئيسية في فيلم راينر فاسبندر الذي أحبه كثيرا والذي أنتج عام 1975 وهو fear of fear على حد تعبير الكاتب إد جونزاليس في مراجعة له عن الفيلم.
جادلت الخبيرة الاقتصادية في جامعة ماساتشوستس-بوسطن، جولي نيلسون بحسب موقع psychologytoday في مقال لها نشر عام 2015 بأن تجربة الخوف أصبحت شديدة التمييز بين الجنسين، وهي مشكلة تطبقها على النظرية والممارسة في مجال الاقتصاد. فالرجال يتعلمون الخوف من الخوف لأنهم يربطون مشاعر الخوف بنقص خطير في السيطرة على الذات والعالم. فعادة ما يدفع الرجال أنفسهم بعيدا عن عالم الخوف والقلق العاطفي لعالم يعتمد على التحليل والموضوعية.
وبهذا فإن الرجال يفضلون عدم إبداء خوفهم من 'كراهية المخاطرة' إذ قد ينظر لهم على أنهم جبناء و'غير رجوليين' الأمر الذي طور أسواق اقتصادية حول رغبة الرجال في تجنب 'عدم المخاطرة' مما جعل السوق عرضة للانهيار التام كما حدث أواخر عام 2000، أما النساء فيحاولن الظهور بمظهر أكثر كفاءة وهو بلا شك المظهر الذي يعني بالنسبة لمنظومتنا مظهرا 'أكثر شبها بالرجال' فهن أيضا يحاولن إخفاء ردود أفعالهن العاطفية.
في علم النفس يطلق على الخوف من الخوف مصطلح 'Phobophobia' ويصنفه كأحد الاضطرابات النفسية التي تجعل الشخص حبيسا لعقله الذي يكون بمثابة قنبلة موقوتة حساسة وتتوقع مزيدا من الأحداث التي تفاقم من أعراض هذا الاضطراب. لكنني لا أتحدث في مقالي هذا عن الحالة المتطرفة من هذا الرهاب، بل أشير إلى تطبيعه في حياتنا اليومية وأن يصبح بفعل المنظومة التي نعيش فيها رازحين تحت رحمة خوفنا من التعبير عن مخاوفنا أو حتى إدراك أنها مجودة هناك خلف تلك السلوكيات الصغيرة والمعقدة التي تخبرنا عن أنفسنا بأننا شجعان ومقدامون، وقد تعلمنا درس الحياة، وهزمناها قبل أن تفعل.
في أكتوبر عام 1976 نشرت نيويورك تايمز مراجعة عن فيلم 'الخوف من الخوف' لفاسبندر، لفنسنت كانبي أحاول ترجمة بعض ما جاء فيها هنا:
'الخوف الأكثر رعبا هو ذلك الذي ليس له سبب واضح. إنه موجود هناك ببساطة مثل الهواء، ونبتة لا تتطلب تربة خصبة لتزدهر وتنمو، بل تربة بمثابة مضيف أي مضيف. لديها زوج وطفلان صغيران تحبهما، سيارة وشقة ووجود مثالي في الطبقة المتوسطة. ومع ذلك هنالك شيء خاطئ، ففي بعض الأوقات تشعر مارغوت كما لو أنها تعيش تحت الماء. كل شيء باهت بما فيها الاتصالات، والحركة تصبح بطيئة، عليها إذن أن ترفع صوت الموسيقى عاليا لدرجة تهتز معها خلايا دماغها. عندما تنظر لوجهها المثالي في المرآة، لا تكاد تتعرف عليه، تدرك أن هذا هو الجنون. في الخوف من الخوف لفاسبندر نشاهد خلاصة للواقع -حلم فيه كل شيء- بدلا من ريبورتاج مصور عن الطريقة التي تسير بها الأمور'.
وبهذا صديقي القارئ أنا لا أدعو لنوع من الخوف الذي يعني بالضرورة الإفراط في حراسة الذات ومراقبتها، أو التحرز من الآخرين والذعر منهم، ولا أدعو بالتأكيد لنفض الخوف تماما في المقابل، فغريزة الخوف أنقذتنا في أكثر من مكان. تقول دراسات علم النفس التطوري إنه لولا الخوف أثناء قيادة سيارة مسرعة، لربما متنا ولم نبق على قيد الحياة لنمرر جيناتنا كمهمة أولى لا يمكن إلا الإمعان في التفكير فيها دائما. ولنقس على ذلك الكثير من الأمثلة. فقط لو أننا قبلنا هشاشتنا وخوفنا، ولم ندّعِ أننا أبطال في حياة، تقبض عليها سلطات عديدة وتسلبها منا أمام أعيننا. ما رأيك بأن لا تكابر اليوم، وبأن تخاف وتصبح ضعيفا على الأقل أمام من تحبهم ويبادلونك هذا الحب.
إحدى أكثر 'الألعاب' أو فلنسمها 'الأدوار' انتشارا بيننا اليوم، هي ادعاء اللامبالاة، فكلما كنت قادرا على إظهار شكل من الصرامة الانفعالية في عدم اهتمامك، بدوت أكثر نضجا وحكمة، وبأنك استطعت الإمساك بجوهر التجربة الوجودية ونجوت. إن هذا لا يعدو كونه تمظهرا للنفعية الصارمة، وتغلغلها في استجاباتنا لما يحدث معنا ومن حولنا. وهكذا تكشف لي أن كل إنسان أتحدث معه خائف حتى عظامه.
يسببُ لنا الخوف تذبذبا مستمرا في مجال الرؤية، وكل من يخاف خصوصا من يعبرون عن ذلك في مجتمعات تسعى لقتل الانفعال غير المفيد، بينما وللمفارقة الشديدة تستخدمه ولا ضير معها مع عده سلعة هو الآخر، يتم بناء مشاريع اقتصادية على وجوده، كل من يخاف هو تحت عدسة المجهر، يمكن رؤيته وهو كائن متلو ومتضرر ويتعذر إصلاحه على غرار ما حدث مع الشخصية الرئيسية في فيلم راينر فاسبندر الذي أحبه كثيرا والذي أنتج عام 1975 وهو fear of fear على حد تعبير الكاتب إد جونزاليس في مراجعة له عن الفيلم.
جادلت الخبيرة الاقتصادية في جامعة ماساتشوستس-بوسطن، جولي نيلسون بحسب موقع psychologytoday في مقال لها نشر عام 2015 بأن تجربة الخوف أصبحت شديدة التمييز بين الجنسين، وهي مشكلة تطبقها على النظرية والممارسة في مجال الاقتصاد. فالرجال يتعلمون الخوف من الخوف لأنهم يربطون مشاعر الخوف بنقص خطير في السيطرة على الذات والعالم. فعادة ما يدفع الرجال أنفسهم بعيدا عن عالم الخوف والقلق العاطفي لعالم يعتمد على التحليل والموضوعية.
وبهذا فإن الرجال يفضلون عدم إبداء خوفهم من 'كراهية المخاطرة' إذ قد ينظر لهم على أنهم جبناء و'غير رجوليين' الأمر الذي طور أسواق اقتصادية حول رغبة الرجال في تجنب 'عدم المخاطرة' مما جعل السوق عرضة للانهيار التام كما حدث أواخر عام 2000، أما النساء فيحاولن الظهور بمظهر أكثر كفاءة وهو بلا شك المظهر الذي يعني بالنسبة لمنظومتنا مظهرا 'أكثر شبها بالرجال' فهن أيضا يحاولن إخفاء ردود أفعالهن العاطفية.
في علم النفس يطلق على الخوف من الخوف مصطلح 'Phobophobia' ويصنفه كأحد الاضطرابات النفسية التي تجعل الشخص حبيسا لعقله الذي يكون بمثابة قنبلة موقوتة حساسة وتتوقع مزيدا من الأحداث التي تفاقم من أعراض هذا الاضطراب. لكنني لا أتحدث في مقالي هذا عن الحالة المتطرفة من هذا الرهاب، بل أشير إلى تطبيعه في حياتنا اليومية وأن يصبح بفعل المنظومة التي نعيش فيها رازحين تحت رحمة خوفنا من التعبير عن مخاوفنا أو حتى إدراك أنها مجودة هناك خلف تلك السلوكيات الصغيرة والمعقدة التي تخبرنا عن أنفسنا بأننا شجعان ومقدامون، وقد تعلمنا درس الحياة، وهزمناها قبل أن تفعل.
في أكتوبر عام 1976 نشرت نيويورك تايمز مراجعة عن فيلم 'الخوف من الخوف' لفاسبندر، لفنسنت كانبي أحاول ترجمة بعض ما جاء فيها هنا:
'الخوف الأكثر رعبا هو ذلك الذي ليس له سبب واضح. إنه موجود هناك ببساطة مثل الهواء، ونبتة لا تتطلب تربة خصبة لتزدهر وتنمو، بل تربة بمثابة مضيف أي مضيف. لديها زوج وطفلان صغيران تحبهما، سيارة وشقة ووجود مثالي في الطبقة المتوسطة. ومع ذلك هنالك شيء خاطئ، ففي بعض الأوقات تشعر مارغوت كما لو أنها تعيش تحت الماء. كل شيء باهت بما فيها الاتصالات، والحركة تصبح بطيئة، عليها إذن أن ترفع صوت الموسيقى عاليا لدرجة تهتز معها خلايا دماغها. عندما تنظر لوجهها المثالي في المرآة، لا تكاد تتعرف عليه، تدرك أن هذا هو الجنون. في الخوف من الخوف لفاسبندر نشاهد خلاصة للواقع -حلم فيه كل شيء- بدلا من ريبورتاج مصور عن الطريقة التي تسير بها الأمور'.
وبهذا صديقي القارئ أنا لا أدعو لنوع من الخوف الذي يعني بالضرورة الإفراط في حراسة الذات ومراقبتها، أو التحرز من الآخرين والذعر منهم، ولا أدعو بالتأكيد لنفض الخوف تماما في المقابل، فغريزة الخوف أنقذتنا في أكثر من مكان. تقول دراسات علم النفس التطوري إنه لولا الخوف أثناء قيادة سيارة مسرعة، لربما متنا ولم نبق على قيد الحياة لنمرر جيناتنا كمهمة أولى لا يمكن إلا الإمعان في التفكير فيها دائما. ولنقس على ذلك الكثير من الأمثلة. فقط لو أننا قبلنا هشاشتنا وخوفنا، ولم ندّعِ أننا أبطال في حياة، تقبض عليها سلطات عديدة وتسلبها منا أمام أعيننا. ما رأيك بأن لا تكابر اليوم، وبأن تخاف وتصبح ضعيفا على الأقل أمام من تحبهم ويبادلونك هذا الحب.