أعمدة

موت الرواية بقاء الحكاية

 
في كتابه «جوع الواقع» يتساءل ديفيد شيلدز عن موت الرواية، في أطروحةٍ يدافع فيها عن التخلّي عن الخيال والرجوع إلى الواقع، وقد توسّع كذلك ميلان كونديرا في طرح هذا السؤال هازئا من الإعلان عن موت الرواية، إذ يُناقش هذا الطرح ويفكّك آليّات بسْطه، يقول: «يجري الحديث منذ وقت طويل عن نهاية الرواية ولا سيّما على ألسنة المستقبليين والسرياليين وكلّ الطليعيين.

كانوا يرون الرواية تختفي على طريق التقدّم لصالح مستقبل مختلف جذريّا، لصالح فنّ لا يُشبه في شيء ما كان موجودا قبله. وستُدفن الرواية باسم العدالة التاريخيّة، تماما كالبؤس، والطبقات المهيمنة، والنماذج العتيقة من السيّارات، والقبّعات ذات الشكل العالي».

فهل فعلًا يُمكن أن تموت الرواية وتنقضي، كما انقضت عبر التاريخ أشكالٌ وأجناسٌ أدبيّة لم يعد لها وجودٌ في راهن أدبنا، مثل المقامة والنادرة والحكاية المثليّة والقصص العرفانيّ؟

إنّ الرواية جنس أدبي هي شكلٌ من أشكال تحقّق الحكاية، وقد تموت الرواية من حيث هي شكلُ حكاية، ولكن هل من الممكن أن تموت الحكايةُ؟

لم تمت الحكاية بأشكالها المختلفة المتنوّعة عبر تاريخ الإنسان، الحكاية مرتبطة ارتباط وجودٍ بحياة الإنسان، فالإنسانُ كائنٌ حكّاءٌـ رافقته الحكاية منذ وجوده الأوّل، تظهر في النقوش الحجريّة مع الإنسان البدائي الذي غابت عنّا آثاره الشفويّة والمكتوبة، وبقيت دلائل نقوشه الكهفيّة المنبئة بوجود حكايا الأبطال والبطولات وصراع البدائيّ مع الحيوان ومع عناصر الوجود، إلى أن تقدّمت الحضارة الإنسانيّة وتركت لنا بقايا الحكايات في النصوص السرديّة الكبرى المؤسّسة وفي الملاحم اليونانيّة والإغريقيّة والبابليّة والفارسيّة، ثمّ تنوّعت أشكال الحكايات الكونيّة وبقي الحكْي جوهرًا وحاجة يقتضيها الوجود.

الحكاية مرتبطة بالتسلية وبإعادة تشكيل الكون، وبتفسير ما لم يقدر العلم على تفسيره وبحاجة الإنسان إلى ملء الفراغ الميتافيزيقي الغيبي، الحكاية مرتبطة بحاجة الإنسان إلى حكْي سيرته وسير من عرفهم أو من سمع عنهم، الحكاية مرتبطة بتجسيد البطولات وحالات الحب وبتشكيل عوالم ممكنة أو غير ممكنة.

إذا كانت الرواية -جنسا أدبيّا- نتاجا غربيّا تشكّل ونما وفق حاجات حضاريّة واجتماعيّة أدبيّة، فإنّ انقضاءها وفناءها يكون بانتفاء الحاجات التي أدّت إلى كونها، وهو المنطق الذي بنى عليه منظّرو موت الرواية وجهة نظرهم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّهم رأوا أيضًا أنّ الرواية قد استنفدت إمكاناتها التعبيريّة وطرق تحديث أشكالها، وبذلك تكون قد دخلت في حال من التآكل واستهلاك الذات، ومن جهة ثالثة فإنّهم قد بنوا آراءهم على أنّ الرواية قد بلغت الآن أوج أثرها وقمّة نجاعتها، ومنطق التاريخ يقتضي أنّ من بلغ القمّة من الكائنات عاد إلى الانحدار والاضمحلال.

أمّا الرأي عندي، فإنّ الرواية يُمكن أن تتراجع أداء وتلقّيّا في الواقع الأوروبي للأسباب المذكورة، وخاصّة منها استهلاك المخزون الأسطوريّ والتاريخيّ للشعوب، غير أنّها لا يُمكن أن تتراجع أو تموت في حضارات حادثة في إجرائها وإعْمالها في التعبير عن حكاياها المخزونة وعن مجتمعاتها المتحوّلة التي ما زالت تحتاج إلى حركيّة وتغيّرات اجتماعيّة وفكريّة ممكنة الحكْي.

الروايةُ العربيّة تنحو هذه السنوات منحى التحقّق والتحوّل إلى الشكل الأدبيّ القادر على تمثّل هموم الإنسان وتمثيل مختلف مشاغله واحتواء حضارته وأساطيره وتاريخه وحاضره المليء بحكايات لم تُرْوَ بعد، وفي الآن ذاته فإنّ المتلقّي على الرغم من تحوّل مصادر الفنّ وهيمنة أشكال تعبيريّة يُمكن أن تُلهي المتلقّي عن القراءة، فإنّه لا يزال مقبلًا على الرواية في شغف يجعلها قادرة على البقاء زمنا أطول.

البعضُ يُبشّر بموت شكل الرواية وهيمنة شكل السيرة الذاتيّة، ولعلّ الجوائز العربيّة والدوليّة تؤكّد هذا المنحى، ولكن متى خرجت الروايةُ في تشكّلها عن السيرة الذاتية، أو بالأحرى عن ذاتيةٍ فيها كامنة أو ظاهرة، مخفيّة أو معلنة؟

لم تخرج الرواية في أقصى حالات تجنيحها التخييلي المفارق للواقع عن ذاتيّة فيها ثاوية، تُعبّر عن إدراك الذات الكاتبة وعن تمثّلها للكون والأشياء، ولكنّها لم تكن بالضرورة تُشكّل نوعا من الكتابة له تشقّقاته وهو السيرة الذاتيّة التي داخلت الرواية عبر تكوّنها التاريخيّ، وكانت فرعا منها وما زالت، فالسيرة الذاتيّة التي خرجت عن الحدّ الضيّق الذي ضبطه لها فيليب لوجون من حيث هي قصّة نثريّة استرجاعيّة يقوم فيها المتكلّم برواية حكايته، قد أصبحت سيرًا وأشكالًا منها ما يُصنّف بأنّه سيرة ذاتيّة محضة، ومنها ما يُصنف بأنّه سيرة روائيّة، ومنها ما يُصنّف بأنّه سيرة ذاتيّة اجتماعيّة والتي بُرِّزت في كتابتها الروائيّة الفرنسية أرني أرنو، ولكنّ كتابة السيرة لا يُمكن أن تكون روائيّة بشكل مطلق، فقد تكون من قبيل اليوميّات أو المذكّرات التي يكتبها أشخاص لا علاقة لهم بالرواية ولا بأشكالها وإنّما صلتهم قد تكون بالاعترافات أو بالتشهير أو بكشف حقائق، وعلى ذلك، فإنّ السيرة الذاتيّة العالقة بالرواية هي جنس روائيّ، وإن ساد وغُلِّب على الأصل فهو داخلٌ في نطاق الرواية.

يُمكن أن تموت الرواية شكلا تعبيريّا بما تمظهرت عليه من أجناس صغرى، ولكنّ الحكاية لا تموت وتجد دوما صيغةً تتشكّل فيها.

السؤال الآن، هل أنّ الكتابة الروائيّة العربيّة داخلةٌ في هذا التنازع النظريّ المبشّر بموت الرواية؟ وهل أنّ العوامل التي يُمكن أن تُنهي الرواية الغربيّة متحقّقةٌ في العالم العربيّ؟