عمان الثقافي

سينما المخيم أو رجال يحلمون ببيع ظهورهم

 
بينما كنت أسيرُ مشيا على الأقدام في شارع أشجار الزيزفون في العاصمة الألمانية «برلين» كانت شعارات اللاجئين الموسومة على الجدران، والملصقات الإعلانية لتجمعات خاصة بهم، تحيط بي من كل اتجاه، لا يغيب عن ذاكرتي مطلقا «المنفى ليس سهلا». وهذه العبارة ينطوي عليها تصريح يواجه سردية راسخة تخبرنا باستمرار أن الوصول إلى «جنة أوروبا» هي كل شيء في رحلة العبور من مناطق منكوبة إلى أخرى آمنة.

الحديث عن سينما المهاجرين يمكن تقسيمه إلى كتابات مختلفة تنطلق من تعريف «الهجرة» نفسها، أو بالنظر إلى مناطق عديدة محتقنة في هذا العالم الذي نعيش فيه، هنالك على سبيل المثال سينما تعالج هجرة المكسيكيين والهنود، حتى أنها أكثر ثيمة يتم معالجتها هناك. كما تقوم بعض المؤسسات في العالم اليوم بدعم السينما القادمة من سوريا وفلسطين فيما يمكن أن أطلق عليه «سينما المخيم» نظرا للوضع الذي تعيشه شعوب هذين البلدين في مآوٍ كانت الفكرة من وجودها حل كارثة مؤقتة ها هي تستمر لما يزيد عن السبعين عاما. وسينما تتابع حياة اللاجئين في منافيهم الإجبارية المختلفة. بحسب برنامج «سياحة إجبارية» المعني بقصص اللاجئين، «فإن مخيمات اللاجئين في عصرنا هي منتج عالمي حديث refugee camps» وكلمة «كامب» المستخدمة في الإنجليزية ولغات أخرى لها دلالات تطورت عبر التاريخ، أصلها من اللغة اللاتينة، استخدمت في روما القديمة للتعبير عن منطقة بين روما ونهر التيب، أطلق عليها الرومانيون «كامب» وكانت مكانا مؤقتا للعسكريين. ومنذ أواخر القرن الثامن العشر تحول معنى هذه الكلمة للتعبير عن وظيفة مؤقتة أخرى، لذا من المهم الإشارة أن الكلمة العربية «المخيم» قد لا تعبر تماما عن الحمولة التاريخية والثقافية لهذا المفهوم تماما. عندما فكرت في الكتابة عن سينما المهاجرين، اخترت أن أكون قريبة أكثر من الواقع الذي أعيش فيه، لذا وقع اختياري على سينما المخيم الحديثة، والتي تقدم لنا حكايات العرب في هذه المخيمات.

في الفيلم البريطاني Limbo الذي تم إنتاجه 2020 يحتجز عُمر الشاب السوري في جزيرة اسكتلندية انتظارا لنتيجة طلب قدمه للجوء السياسي، ويهمني البداية من هذا الفيلم بشكل خاص كأنني أقرر العدّ بطريقة تنازلية فهذه المرحلة التي يعيشها عمر هي ما يتطلع إليه معظم أبطال أفلامنا القادمة الأخرى من مخيمات موجودة في الأردن ولبنان لفلسطينيين وسوريين، عمر يجسد ما كتبه الباحث الفلسطيني عبدالهادي العجلة في دراسته عن عنف التأشيرات واللجوء بالنسبة للفلسطينيين، فالفيلم يجسد استخدام الحدود السياسية كأداة للسيطرة على حياة وحركة الأفراد والجماعات، كما تستخدم هذه الحدود بحسب العجلة كحواجز مصممة للتمييز ضد مجموعات عرقية أو دينية أو لغوية معينة.

يأخذنا هذا مباشرة لفيلم «الرجل الذي باع ظهره» The Man Who Sold His Skin والذي رشح لجائزة الأوسكار «فئة الفيلم الأجنبي» عام 2021 ويحكي قصة شاب يدعى سام علي، يلاحقه النظام في سوريا مما يضطره للهرب إلى لبنان، وهنالك يحاول سام اللحاق بحبيبته عبير التي تزوجت وهاجرت إلى بروكسل في بلجيكا، وأخيرا يلتقي بفنان ثوري، يطلب منه هذا الفنان شراء ظهره، لا بالمعنى المجازي لهذه الكلمة، بل شراء ظهره فعليا لتنفيذ عمل فني عليه، يضطر سام للموافقة تحقيقا لحلم اللجوء إلى مكان آمن أخيرا، فها هو يبدو مشردا في بيروت، ويتمنى لو كان مثل «صيصان الدجاج» التي يعمل معها، إذ لا تنتظر شيئا سوى أن تأكل وتتكاثر في صناديق رمادية.

نفاجأ مع تقدم الأحداث، أن اللوحة التي ستوشم على ظهر سام هي «تأشيرة شنغن» وبذلك فإن الفنان المشهور يقدم مفارقة سوداء كوميدية بامتياز فهذا الباركود المرسوم على ظهر سام سيسمح له بدخول أوروبا أخيرا بل والتنقل فيها براحة كبيرة. وهذا ما سيحدث بالفعل، إلا أن سام سيتحول لـ «شيء»/«موضوع» للفرجة بالنسبة للأوربيين فحسب. وعلى الرغم من أن سام سيطلب متململا «الكافيار» على الغداء إلا أنه سيكون في قلب المعاناة والألم الناجمين عن تشييئه الذي لولاه لما أُنقذ من مصيره في الرقة السورية، إن لم يكن على يد النظام فعلى يد داعش. الجدير بالذكر أن القصة مستوحاة عن حكاية حقيقية كما صرحت المخرجة كوثر بلهنية في أكثر من حوار صحفي معها، فهي تستدعي زيارتها لمعرض في متحف اللوفر باريس عام 2012 رأت فيها شابا يجلس في المتحف عارضا ظهره كلوحة فنية للفنان البلجيكي «فيم ديلفوي» أشهرها كانت هذه اللوحة الموشومة على ظهر رجل. والذي وبحسب الاتفاق بينهما فإنه وبمجرد موته يسلخ جلد هذا الرجل ويؤطر الوشم لعرضه مستقلا.

أما فيلم «كباتن الزعتري» إنتاج 2021 فإن فوزي الشاب السوري الذي يبلغ من العمر الثامنة عشرة يحلم بالعودة لسوريا ولعب كرة القدم واحترافها ليصبح اسما لامعا مثل كريستيانو رونالدو أو ميسي، هو يعيش الآن في مخيم يقع في الأردن، يتصرف هذا الشاب الصغير كما لو أنه رجل كبير طيلة الفيلم، حتى عندما يغضب، وعندما ينفعل عموما لا نرى منه سوى ذلك الجانب الذي تم قمعه وترتيبه ليناسب حياة الكبار التي تفرضها الحياة في مخيم يبدو متهالكا كما يظهر في الفيلم. يعتقد هذا الشاب أنه وبسبب من كونه لاجئا فإن أي شهادة لن تفيده، فوزي المولود عام 1998 والذي سيحول عمره دون تحقيق حلمه في البداية، لأنه أكبر من أقرانه بعام واحد، سينظر لحلمه الذي يتبدد أمام عينيه ليعلن «بتكره الفوتبول... بتكره الحياة كلها»، فهذا هو مخرجه الوحيد من ذلك البؤس الواقع عليه هناك، فعائلته تحتاج للمال، لتهريب والده أولا من سوريا للمخيم، ولعلاجه تاليا من السرطان. لكن فوزي في مرحلة ما ينجح في الالتحاق بزملائه في أكاديمية اسباير في «الدوحة» ليستمتع هو والآخرين قبل كل شيء، بشلح أحذيتهم والإحساس بالعشب في إحدى ملاعب الأكاديمية الشهيرة. كما أن هنا كهرباء وإنترنت طيلة الوقت! يا لها من مميزات فعلا! نعيش الحلم إذن بهروب الشباب من المخيم قبل عودتهم إليه وجلوسهم على ناصية الشارع، نعيش فرحة الأهالي بنجاة أولادهم حتى وإن كانت جزئية. يذكرني هذا على نحو ما بحوار أجريته مع أحد أصدقائي من غزة، قلتُ له، أنكم البلد الوحيد الذي رأيتُ العائلة تتصرف فيه بطريقة مختلفة، الأهل يتمنون ويعدون العدة لسفر أولادهم، يشعرون بالخيبة إن لم يسافر الأولاد، السفر يعد النجاح الأبرز، ليس مهما ما تفعل فيما بعد، المهم أن تهرب، أن تستطيع الابتعاد عن هذا المكان نحو أبعد مكان منه، فعلا كلما زادت المسافة كلما كان هذا الإنجاز يدعو للفخر أكثر.

في كل أحداث الفيلم التي تصور في الدوحة، وبينما يتحدث كباتن الزعتري مع عائلاتهم، يكونون جالسين على حواف نافذة غرفتهم الفندقية، كأنهم يتطلعون للبعيد، أو ربما لا يفعلون ذلك، ففي هذا الموقع على الحافة تماما التي يُنظر منها للخارج كانوا يقفون طوال الوقت، وبهذا فإنهم يعودون للعائلة، لبيوتهم الضيقة في المخيم، إن هذا الكادر الذي برع المخرج في تصويره وتكراره، استعارة ماكنة لحياة الكباتن في هذا العالم وحدوده المغلقة دون كثير من الأمل.

الفيلم الأخير في هذه القراءة هو الأجمل والأكثر إتقانا وهو فيلم «عالم ليس لنا» والذي رشح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم وثائقي عام 2015 عنوان هذا الفيلم مقتبس عن رواية الفلسطيني غسان كنفاني «عالم ليس لنا» وأتذكر بهذه المناسبة الأحداث التي جرت في غزة العام الماضي، مع تداعيات المشهد في «الشيخ جراح» عندما قصفت مكتبة سمير ومنصور، واحدة من أهم مكتبات القطاع، إذ تُظهر إحدى الصور، نسخة من رواية كنفاني وهي محروقة وممزقة وسط الأنقاض. يكتب كنفاني في الرواية: («لقد قطع على نفسه عهدا بألا يطلب شيئا من أحد قط.. إنه لا يستطيع أن يحتمل خذلانا جديدا، ولو كان خذلانا تافها» و«لقد انتهى العمر ولم يعد في القلب طاقة لمزيد من النبض» و«يحس بأنه إنما يسير في دوامة تؤدي إلى مستقبل قميء مترع بالضجة والسخف٠٠ الضجة والسخف وليس غيرهما!») وكلها بطريقة ما تجسد حياة «أبو إياد» في فيلم «عالم ليس لنا» للمخرج الدنماركي الفلسطيني مهدي فليفل. والذي تظهر فيه أيضا لقطة فيها رواية «عالم ليس لنا» لغسان كنفاني وهي مهترئة وممزقة، وبهذا فإن فلسطين كعادتها، تلغي الحدود بين الحلم والواقع بين (الفن والحقيقة).

يقدم لنا الفيلم حياة ثلاثة أجيال في «مخيم الحلوة» في لبنان. مستعرضا حياة وأحلام الناس في هذا المخيم، علاقتهم بكأس العالم في دورات مختلفة، حماسهم لإيطاليا، بسبب دعمها للقضية في مرحلة ما. والرغبة في نسيان فلسطين بينما يعيشون نهبها منهم كل يوم تماما مثل بسام إحدى شخصيات المتتالية السردية «إحلمي يا سيدي» الصادرة 2022 لسارة غزال والذي يحكي أيضا قصة الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية فلنتأمل هذا المقطع: « كان بسام يدخن كثيرا ويتكلم باستمرار عن أشياء لا تهم أحدا في الحقيقة، كان نضال يهتم بقصص الأجانب الذين يعيشون معه، لم يكن مهتما بالحكومة، وكان بسام يحاول محادثته عن فلسطين كثيرا. لم يقل لبسام إن فلسطين تعيش معه في البيت، وحتى الآن وهو يجالسه ليرفه عن نفسه، فإن فلسطين معه أيضا كأنها تحاصره، وكل ما يريده نضال أن ينساها لساعات فقط.»

نعيش ضجر أبو إياد انتظاره في المكتب التابع للمنظمة، وعيشه هناك، ثم وقوفه في الشارع أو جلوسه، بينما يدخن ويشتم العالم كله. وعمره ينفرط كرمل ساعة رملية لا يكترث أحد لها، يغادر مهدي فليفل المخيم ويعود، وأبو إياد في مكانه وبالهيئة ذاتها. لكن الفرج قد اقترب، فها هو حلم السفر يقترب من أبو إياد الذي جمع كل المال الذي يملك ليشتري تهريبه إلى اليونان ثم إلى أوروبا «جنة العالم» لكنه وما إن يصل إلى هناك بشق الأنفس وبمواجهة الموت حقيقيا وحاسما هذه الحياة البائسة، حتى يُقبض عليه.

من المهم أن نلاحظ في هذه الأفلام رغبة صناعها في الثورة على سردية التضحية، أو كما يقول الكاتب الفلسطيني محمود عمر في معرض كتابته عن سينما فلسطينية أخرى، إنها «أفلام تصوّر معاناة الفلسطينيين وشتاتهم لكنّها لا تثبِّت الفلسطينيّ في حيّز الضحيّة. في هذه الأفلام، يظهر الفلسطينيّ باعتباره حالة رفض لإسرائيل وأنظمة القهر العربيّة، ولكنه يظهر أيضا في حالة ضجر خلّاقة من ضحويِّته ومحاولات تقديمها على أنها سرديّته الوحيدة».

في المشهد الختامي لفيلم «عالم ليس لنا»، يجلس أبو إياد على درج أحد شوارع أثينا، بعد معانقة رفاقه مودعا إياهم، وقبل ترحيله من السلطات اليونانية إلى لبنان بيومين، يذهب ما تبقى من رفاقه للحديث بعيدا عن كاميرا مهدي فليفل، ليسأل مهدي «شو أبو إياد» «شو الآن» ينظر أبو إياد للعدسة نظرة بين الحزن والغضب ولا يرد.

أمل السعيدي قاصة عمانية