آني إرنو: لست روائية.. والكتابة عندي مكان
الأربعاء / 29 / ربيع الأول / 1444 هـ - 19:05 - الأربعاء 26 أكتوبر 2022 19:05
ترجمة: أحمد شافعي -
في عام 1999، وأنا مقيمة في فرنسا للمرة الأولى، تناولت نسخة من «عشق بسيط» لآني إرنو في متجر «فناك». لم تكن لغتي الفرنسية عظيمة، لكن لغة الكتاب كانت سهلة، وكذلك الموضوع، وهو هوس امرأة بحبيبها الروسي. تكتب «منذ سبتمبر الماضي لم أفعل شيئا إلا انتظار رجل: أن يتصل بي، أن يمر ببيتي». أيام كاملة تمر في هذه الحالة المحتدمة: دائرة الانتظار، ثم وصول خبر عنه أخيرا، أو رؤيته، ثم الفراغ من جديد، ليبدأ على الفور جوع جديد إلى تكرار التجربة. علمني ذلك كثيرا جدا عن نقصان الكمال. أحببت في نثرها اقتصاده، وخلوه تقريبا من العواطف، مع استحضاره طيلة الوقت لأشد التجارب امتلاء بالعواطف، وبمرور الوقت، ومع قراءة أعمال أخرى لها، سوف أتوصل إلى فهم لهذه الإكريتور بلات [écriture plate]، أو القراءة المسطحة، وأنها من أقوى خصالها وأكثر ما يميزها. فمن كتب من قبيل «المكان» (LA PLACE ، 1983، الذي نالت عنه جائزة بري رينودو Prix Renaudot المرموقة في فرنسا) وتتناول فيه وفاة أبيها ثم أمها، وكتاب «السنوات» (2008) الذي صدرت حديثا ترجمته إلى الإنجليزية بقلم أليسن إل ستراير، تظهر إرنو مقدرة لافتة على تناول أقسى التجارب وتأملها دونما إجفال، ودون أحكام أخلاقية.
ولدت إرنو سنة 1940 في نورماندي لأسرة من الطبقة العاملة، وكان أبواها يعملان في مصنع ثم أدارا مقهى صغيرا ومتجرا. وهذه الخلفية تنبئنا بكل أعمال إرنو، من رواياتها المضادة المبكرة من قبيلLES ARMOIRES VIDES (1974) و(إما طريقهم أو لا طريق) (1977) وحتى روائعها الأخيرة L’ÉVÉNEMENT (الحادث، 2000) عن عملية إجهاض غير قانونية أو «صورة للفنان بوصفه امرأة شابة» (2016) [وقد ترجم إلى الإنجليزية بعنوان ترجمته «قصة فتاة»] الذي تجري أحداثه في صيف 1958 حينما عملت مستشارة في مخيم صيفي بنورماندي، وتستكشف فيه العار الذي استشعرته بعد تجربتها الجنسية الأولى مع زميل آخر يعمل مستشارا هناك. لقد وصفت إليزابيث باون نفسها يوما بأنها كاتبة «تبدو لها الأماكن هائلة الضخامة»، وهذا يصدق أيضا في حق إرنو التي يمثل الماضي لها مكانا، والطبقة مكانا، والصور الفوتوغرافية مكانا. ولعل السبب في هذا هو الطريقة التي تتحرك بها بين الأماكن، مثلما وصفت نفسها لميشيل بورت في فيلم وثائقي عن أعمالها: «عاش أبواي الخوف من ’الوقوع مرة أخرى في عمل المصنع’ حسب تعبيرهما، لكن الأمر كان أكبر من ذلك، أكبر كثيرا، كان خوفا حشويا عميقا، كان يقينا بعجزهما. انتقلت إلى عالم ليست له الأخلاقيات نفسها، وطرائق الوجود نفسها، أو طرائق التفكير. ويبقى هذا التمزق بداخلي، حتى على مستوى فيزيقي. ثمة مواقف أشعر فيها... لا، ليس بالجبن، أو بالانزعاج. لكن بمكان. كما لو كنت في غير المكان الصحيح... المكان الذي لا يحدث فيه شيء من هذا هو الكتابة. الكتابة مكان، مكان غير مادي».
لذا، وعلى سبيل تحديد مكان ما توشكون على قراءته: جلسنا في بيت إرنو الجميل، المعرض جيدا للهواء، في مدينة سيرجي الجديدة على بعد نصف ساعة بالسيارة من باريس. جثمت على أريكة مكسوة بقطيفة زرقاء، وفي إحدى اللحظات جاءت حفيدتها البالغة من العمر خمسة عشر عاما للتحية. بقي البيت الذي عاشت فيه لأربعين عاما وكتبت فيها كل أعمالها عدا الروايتين الأوليين باردا على نحو لطيف، برغم هبات من الحرارة، فهو مفتوح على شرفة تطل على حقل أخضر وبعض الشجر الحديث الجميل. جرى الحوار بالفرنسية، وما فيه من أخطاء الترجمة أو الخلط إنما هو يخصني أنا. وقد استمر الحوار لقرابة ساعتين وتم اختصاره، فما اقتطعته منه كان حديثنا ضمن أشياء كثيرة عن حملي، ومرات حملها، وأحفادها، والكتّاب الأمريكيين الذين أحثها على قراءتهم (كريس كراوس وماجي نيسلن). أما ما لم ألتقطه في التفريغ أو الترجمة فضحكها ـ ضحكها العابث اللطيف المدهش الذي ليتكم كنتم سمعتموه.
•أنت إذن لا تعدين نفسك روائية؟
لا، ذلك مصطلح لا يلائمني مطلقا. ويزيد على ذلك أننا نميل إلى أن نقول عن النساء اللاتي يكتبن إنهن «روائيات» بينما نقول عن الذكور إنهم «كتَّاب» وحسب. ودائما يتجاوز عدد الرجال الذين يُطلب منهم الكتابة عن الأدب في صفحات ملحق لوموند للكتب عدد النساء، فـ«الكاتب» في اللاوعي الجمعي يعني «الرجل». أو ربما ذلك هو الحال في فرنسا فقط.
• أعتقد أن الأمر كذلك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أيضا. فهل أنت مع نسونة اللغة feminisation of language ؟ هل تصفين نفسك بالكاتبة [écrivaine](1)؟
نعم. هذا ما أفعله. في البداية لم أشأ أن أفعل، لكن الآن بات ذلك أقرب إلى عادة. لا أمعن في الأمر كثيرا لدرجة استعمال الكتابة الاحتوائية (2)écriture inclusive ، لكنها لا تثير ضيقي.
• هل تصفين ما تكتبينه بالسيرة الذاتية، أم بالكتابة المقالية؟
ـ لا بهذا ولا بذاك. أنا شديدة الاهتمام بفكرة النص عديم النوع. ولكن في ذلك قبولا بمخاطرة أن يقول الآخرون إن هذا ليس أدبا، لأنه لا ينتمي إلى نوع محدد. ولكن ثمة المزيد والمزيد من مثل هذا النص، ويصر هؤلاء الكتاب على وصفها بـ«الروايات» حتى حين لا يكون ما كتبوه كذلك بوضوح، لمجرد أن الروايات تروج. وقد رفضت أن أفعل ذلك.
• في مقالة لك عن [JOURNAL DU DEHORS ] قلت إنها كانت محاولة للكتابة بـ«الأنا العابرة للذات» [ je transpersonnel]. ما معنى ذلك؟
ما أعنيه بهذا هو كل شيء يمكن أن يكون معارضا لـ«أنا» السيرية الذاتية. ففي الأنا كما أفهمها، ليست الهوية هي التي تضعني وتاريخي في قارب واحد، وليست الأنا السيكولوجية، وإنما الأنا التي تتسم بالتجارب المشتركة التي عرفها الكثير منا، كموت أحد الأبوين أو وضع النساء أو الإجهاض غير القانوني. خلاصة هذه الأنا العابرة للذات موجودة في «السنوات» التي تختفي منها الأنا تمام الاختفاء. الأنا بالنسبة لي ليست هوية، وإنما هي مكان، تسمه تجارب بشرية وأحداث إنسانية. وذلك ما أحاول أن أضيئه عبر كتابتي. وإنني أقول «الأنا العابرة للذات» لأن ما يهمني ليس الفرد، وليس الطرفة أو النادرة، وإنما المشترك سواء أهو اجتماعي، أو يقع قليلا في السيكولوجي، أو في نطاق رد الفعل. وبهذه الطريقة قد أكون على يقين من أنني أضع في دائرة الضوء شيئا ليس مقصورا على التاريخ الشخصي. جوهر ما أريد هو أن أنأى بنفسي، أقصى نأي ممكن، عما عشته، عما أنا إياه، فالأمر يتعلق بالقدرة على نأي المرء بنفسه. وذلك موقف يستغرق تكوينه وقتا بالطبع، وكتبي المبكرة تظهر فيها العواطف بشدة. وتبقى بعض العواطف في الكتب التالية، ولكن لا بد من العثور على طريقة للحديث عن العواطف دون إيعازها إلى الكاتبة نفسها.
• هل يتحقق ذلك من خلال أسلوب «الكتابة المسطحة» الذي كثيرا ما يتكلم الناس عنه في ما يتصل بأعمالك؟
نعم، هي مسطحة لأنني أكتب بهذه الطريقة، جاءتني بهذه الطريقة، هي أكثر موضوعية، وانفصالا، ومعلوماتية.
• حينما تقولين إنها جاءتك بهذه الطريقة، هل يعني ذلك أنك لا تكتبين كتلة كاملة في مسودة ثم تحذفين منها كل ما هو مفرط الذاتية أو العاطفية؟
لا، هي تولد من نهج محدد حيال الصفحة الخاوية، ولعل هذا أسهل في وضعي، من المهم للغاية مسألة تغيير الطبقات، لأنني لا أرى الكتابة عطية. أنا أقع بين ما يسميه بورديو بالهابتوس (3) ـ الهابتوس الخاص بطبقتي، ثقافتي الأولى، طريقتي في الحياة في الطبقة العاملة والأدب وما أعرف بتجربتي أنه الأدب. إنني أكدح دائما في الكتابة لحل هذين العالمين، وتكمن الصعوبة في محاولة تحميل الأدب بشيء من ثقافتي الأولى.
• الأمر مكاني للغاية، حسبما تصفينه؟
نعم، مثلما تقولين، مكاني للغاية، وكأن ثمة مكانين مختلفين لا بد من الجمع بينهما: المكان الذي بدأت منه، بما فيه من عنف معين، وعالم الأدب. على نحو ما، في كل مرة أكتب فيها، أغزو شيئا ما. هل تفهمين ما أعنيه؟
• نعم، تماما. هو شيء تكدحين إليه، ليس بعطية؟
لا، ليس بعطية.
• في كتبك الكثير من المساحات الفارغة، أهذه ترجمة بصرية للعلاقة المكانية بفعل الكتابة وبالكتابة ذاتها؟
نعم، لكن ليس في جميع كتبي، في «السنوات» لا توجد فراغات كثيرة.
• لكن ثمة شيء مثير للاهتمام في طريقة وضعك النص على الصفحة.
نعم، المسافات بين السطور والكلمات. من المهم للغاية بالنسبة لي أن أتيح المجال لهذا الفضاء. هو موقع غير المقروء، موقع الاختلاف، موقع الانقطاع، وأشكال الانقطاع. نعم، الأمر أقرب إلى هذا. لكنه ليس فضاء لي، وإنما هو فضاء للقارئ.
• من أكثر الأمور اللافتة لي في «السنوات» أنه الكتاب الوحيد في كتبك على مدار مسيرتك الذي تستعملين فيه ضمير الغائب. كيف توصلت إلى هذا الصوت؟ ماذا جرى للأنا شديدة الأهمية في كتبك الأخرى؟
تطورت [أي الأنا] إلى حد التلاشي في «السنوات» وفي كتابي الأخير «قصة فتاة» الذي يأتي عبر صوتين مختلفين وشديدي التمايز، لضميري المتكلم والغائب. «أنا» للمرأة التي تكتب و«هي» للشخص الذي أصفه وهو شابة سنة 1958.
• هل كان في «السنوات» أن كتبت للمرة الأولى بضمير الغائب؟
نعم
• كيف كان إحساسك بهذا؟ أنا شخصيا لا أستطيع الكتابة مطلقا بضمير الغائب، يبدو لي دائما بالغ الاصطناع.
لعلك بحاجة فقط إلى وقت. وعلى أي حال هو ليس المثالي بالضرورة. ما حدث معي هو العكس ـ بعد سنين من الكتابة بالأنا، لم يعد بوسعي الآن أن أكتب بضمير المتكلم.
• لم؟
لا أعرف. أشعر به مثلما شعرت أن عليّ أن أكتب بالأناـ أشعر به ضرورة.
• وهل يحتمل أن «هي» تمثل طريقة أخرى مختلفة للكتابة بالأنا. أهي «أنا» ولكن من جانب آخر؟
ثمة كثير من الأنا في الـ(هي)، لأنها ليست (هي) مخترعة، إنها (هي/أنا)، وما أستعمل (هي) فقط إلا للاختصار. كل ما تفعله هي هو أنا. الأمر أن أنا أصبحت مستحيلة علي، ليس نحويا فقط.
• هي طريقة أخرى للنأي عن ذاتك وعن الصفحة.
نعم، مزيد من النأي. ولكنها تيسر عليّ الكلام، والكتابة. أعتقد أنني ما كنت لأستطيع الكتابة عن كل ما جرى لشابة سنة 1958 في «قصة فتاة» لو كنت كتبتها بضمير المتكلم. فـ(هي) هي التي حررتني حقا.
• في LE VRAI LIEU [المكان الحقيقي] تكلمت عن الطرق التي من خلالها يتحدث المجتمع عبر الكتَّاب الذين ينتجهم، وفي ختام «السنوات» عرضت على القارئ طريقة لتناول النصوص:
«ستكون سردية زلقة مكتوبة في زمن نحوي مستمر لا ينقطع، مطلق يلتهم الحاضر في طريقه، وصولا إلى الصورة الأخيرة في الحياة. صبيب مستمر، لا توقفه على مسافات منتظمة إلا صور ومشاهد من أفلام تلتقط تتابع أشكال الجسد والأوضاع الاجتماعية لكينونتها ـ إطارات جامدة من الذكريات، وفي الوقت نفسه تقارير عن تطور وجودها، الأشياء التي جعلتها فريدة، لا بسبب طبيعة عناصر حياتها، سواء أهي خارجية (كالمنحنى الاجتماعي، أو المهنة) أو داخلية (كالأفكار والطموحات والرغبة في الكتابة)، لكن بسبب تركيباتها، التي تتفرد كل منها في ذاتها. وإذا بـ«ليست-هي-المستمرة» الموجودة في الصور تتطابق تطابقا تاما مع «هي» الموجودة في الكتابة.
ما من «أنا» في ما تراه نوعا من السيرة غير الذاتية. ليس هناك سوى «أحدهم» أو «نحن»، وكأنما الآن دورها لتروي قصة الزمن الماضي.
واضعة ذلك في الاعتبار، أردت أن أتكلم قليلا عن هذا السؤال المتعلق بالسيرة الذاتية غير الشخصية أو الجمعية. النساء اللاتي يكتبن عن حيواتهن الخاصة كثيرا ما يتهمن بالنرجسية، والتحديق في الذات، وتبدو لي السيرة الذاتية الجمعية أصدق في معالجة العلاقة بين الأنا والنحن والعالم الذي ينتجنا ويتكلم من خلالنا ويستمر في صوغنا وإعادة صوغنا.
نعم، بالضبط. في البداية لم تكن لدي نية كتابة سيرة ذاتية جمعية. كل الخطوات التي مررت بها محفورة داخل النص. كان ما أردته هو قصة امرأة عاشت حقبة، لكنني أردت لها تقريبا ألا تكون حاضرة، ولم أدر كيف أفعل هذا، فلو استبعدتها تماما لصار الكتاب تاريخا، وكان لا بد من ضمير في الكتاب. فبدأت أراكم صورا وذكريات كانت في الوقت نفسه شخصية وغير شخصية، وكذلك أفلاما وكتبا وذكريات وأغنيات، دون أن أنسبها إلى أحد. بدأت بالزمن الذي وصلت فيه إلى العالم، ليست لدي ذكريات حقيقية عن العالم ذاته، ليس إلا ما بعده. فأصبح العالم عن عالم الماقبل، وكيف بتنا واعين به. لم أكن أكتب عن نفسي، بل من خلال سرديات، من خلال طرقنا في التعرف، من خلال طرق مقابلتنا للعالم. ليس في علاقته بالسيكولوجي وإنما علاقته بالظروف أكبر، وبالوجبات العائلية. خطر لي فورا أنه لا يتناول تجربة شخصية بعينها، وإنما يتناول تاريخ فرنسا، وتاريخ أهل الريف، والعمال، والأيام الخوالي. ثم كان عليّ أن أجد طريقة للاستمرار، فنظرت إلى الصور الفوتوغرافية القديمة، من قبيل صور طفلي، لكن مع ذلك، لم يحدث شيء، لم أجد أحدا هناك. لا أعرف كيف خطرت لي فكرة أن أستعمل الصورة الفوتوغرافية [اللاحقة]، ولكنني عثرت على صورة فوتوغرافية لفتاة صغيرة على البحر، هي أنا بالطبع، ووصفت الصورة، وفيما كنت أفعل ذلك، أدركت أنني يجب أن أختار: إما أن أستعمل «أنا» أو «هي».
• كانت الصورة هي التي دفعتك إلى اتخاذ القرار؟
لم أعد أحتفظ بمسوداتي، فهي في المكتبة الوطنية، لكنني أعرف أنني في قسم منها كنت أستعمل «أنا» وكأنني الراوية، وأصف هذه الصورة الفوتوغرافية وصف راوية، وكأنني صوت من تكتب. ثم وضعت الكتاب لوهلة، ثم تناولته مرة أخرى وبدأت أكتب بـ«هي»، وبعد ذلك توقفت عن استعمال أنا بالمرة مع استغراقي في ذكرياتي عن حقبة الخمسينيات. ثم استطعت أن أصف العالم الذي نشأت فيه، العروض الإذاعية، والإعلانات، وجميع أنواع الذكريات. كتبت عن خرائب ما بعد الحرب، فقد كنت في نورماندي بالطبع، وكذلك الفرحة الاستثنائية في ما بعد التحرير. أردت أن تكون ذكرياتي الفردية بمثابة ذاكرة جمعية. لكن ما من فارق حقيقي، لأن ذكرى أحداث معينة ـ كذكرى أول مرة في السيرك، أو أول مشاركة في جولة فرنسا Tour de Franceـ هي ذكريات جمعية أحتفظ منها بذكريات فردية. أردت ببساطة شديدة أن أستغلها لاقتناص هذه الحقبة. ليس عملا أرشيفيا يقوم به مؤرخ، ما كان ليستعمل ضمير المتكلم في الكتابة هو الآخر، وما كان ليستعمل ذكرياته الخاصة. في حين أستعمل ذكرياتي الخاصة فلا أكاد أتجاوزها على مدار الكتاب. الذاكرة الجمعية هي في النهاية كيف عشت وكيف عاش الجميع وكيف أن طريقة الحياة تلك بداخلي.
• وذلك فعال للغاية؟
أردت حقا أن أكتبه على هذا النحو لكنني خشيت ألا يقبل به محرري. خشيت ألا يكون سلس القراءة أو مفهوما، خشيت أن أكون قد أنتجت نصا طليعيا محضا، أو غير قابل للقراءة. وقلت لنفسي، حسنا، لا يهمني، سأكتبه كيفما أريده. ثم قرأت بعد نشره مقالات كتب فيها النقاد أمورا من قبيل أن «إرنو فعلت شيئا مختلفا بحق هذه المرة». فبدا أن هذه الطريقة من إنكار المركزية التام على الذات قد آتت ثمارها.
هوامش:
1-كلمة «كاتب» بالفرنسية هي écrivain ، وتستعمل للمرأة والرجل، لكن الكلمة نفسها في صيغة المذكر، وثمة كلمة تستعمل خصيصا للإشارة إلى الكاتبة المرأة هي écrivaine. والجدال حول نسونة اللغة يتعلق بما إذا كان الأهم هو إبراز الاختلاف، أم احتواء النساء في مفاهيم مطلقة (ذكورية سابقا) ـ هامش المحاورة بتصرف
2- هناك رد فعل على جندرية اللغة الفرنسية وإقصائيتها يتمثل في وضع نقطة وسطى تعقبها علامة التأنيث أو الجمع في الكلمات التي لولا ذلك لظلت مذكرة، ومن ذلك تحويل [écrivains] إلى [écrivain.e.s.] وذلك ما يعرف بالكتابة الاحتوائية écriture inclusive . [ترجمة شارحة لهامش المترجمة الأمريكية]
3- يرد تعريف للهابتوس [habitus] بأنه نسق الاستعداد التي ينشأ عليها الفرد ويكتسبها، وهذا مجتزأ من تعريف أوسع في مسرد كتاب «إعادة الإنتاج» ترجمة د. ماهر تريمش ـ مركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد شافعي مترجم مصري
عن مجلة وايت رفيو ترجمة خاصة بـ « ملحق جريدة عمان الثقافي »
في عام 1999، وأنا مقيمة في فرنسا للمرة الأولى، تناولت نسخة من «عشق بسيط» لآني إرنو في متجر «فناك». لم تكن لغتي الفرنسية عظيمة، لكن لغة الكتاب كانت سهلة، وكذلك الموضوع، وهو هوس امرأة بحبيبها الروسي. تكتب «منذ سبتمبر الماضي لم أفعل شيئا إلا انتظار رجل: أن يتصل بي، أن يمر ببيتي». أيام كاملة تمر في هذه الحالة المحتدمة: دائرة الانتظار، ثم وصول خبر عنه أخيرا، أو رؤيته، ثم الفراغ من جديد، ليبدأ على الفور جوع جديد إلى تكرار التجربة. علمني ذلك كثيرا جدا عن نقصان الكمال. أحببت في نثرها اقتصاده، وخلوه تقريبا من العواطف، مع استحضاره طيلة الوقت لأشد التجارب امتلاء بالعواطف، وبمرور الوقت، ومع قراءة أعمال أخرى لها، سوف أتوصل إلى فهم لهذه الإكريتور بلات [écriture plate]، أو القراءة المسطحة، وأنها من أقوى خصالها وأكثر ما يميزها. فمن كتب من قبيل «المكان» (LA PLACE ، 1983، الذي نالت عنه جائزة بري رينودو Prix Renaudot المرموقة في فرنسا) وتتناول فيه وفاة أبيها ثم أمها، وكتاب «السنوات» (2008) الذي صدرت حديثا ترجمته إلى الإنجليزية بقلم أليسن إل ستراير، تظهر إرنو مقدرة لافتة على تناول أقسى التجارب وتأملها دونما إجفال، ودون أحكام أخلاقية.
ولدت إرنو سنة 1940 في نورماندي لأسرة من الطبقة العاملة، وكان أبواها يعملان في مصنع ثم أدارا مقهى صغيرا ومتجرا. وهذه الخلفية تنبئنا بكل أعمال إرنو، من رواياتها المضادة المبكرة من قبيلLES ARMOIRES VIDES (1974) و(إما طريقهم أو لا طريق) (1977) وحتى روائعها الأخيرة L’ÉVÉNEMENT (الحادث، 2000) عن عملية إجهاض غير قانونية أو «صورة للفنان بوصفه امرأة شابة» (2016) [وقد ترجم إلى الإنجليزية بعنوان ترجمته «قصة فتاة»] الذي تجري أحداثه في صيف 1958 حينما عملت مستشارة في مخيم صيفي بنورماندي، وتستكشف فيه العار الذي استشعرته بعد تجربتها الجنسية الأولى مع زميل آخر يعمل مستشارا هناك. لقد وصفت إليزابيث باون نفسها يوما بأنها كاتبة «تبدو لها الأماكن هائلة الضخامة»، وهذا يصدق أيضا في حق إرنو التي يمثل الماضي لها مكانا، والطبقة مكانا، والصور الفوتوغرافية مكانا. ولعل السبب في هذا هو الطريقة التي تتحرك بها بين الأماكن، مثلما وصفت نفسها لميشيل بورت في فيلم وثائقي عن أعمالها: «عاش أبواي الخوف من ’الوقوع مرة أخرى في عمل المصنع’ حسب تعبيرهما، لكن الأمر كان أكبر من ذلك، أكبر كثيرا، كان خوفا حشويا عميقا، كان يقينا بعجزهما. انتقلت إلى عالم ليست له الأخلاقيات نفسها، وطرائق الوجود نفسها، أو طرائق التفكير. ويبقى هذا التمزق بداخلي، حتى على مستوى فيزيقي. ثمة مواقف أشعر فيها... لا، ليس بالجبن، أو بالانزعاج. لكن بمكان. كما لو كنت في غير المكان الصحيح... المكان الذي لا يحدث فيه شيء من هذا هو الكتابة. الكتابة مكان، مكان غير مادي».
لذا، وعلى سبيل تحديد مكان ما توشكون على قراءته: جلسنا في بيت إرنو الجميل، المعرض جيدا للهواء، في مدينة سيرجي الجديدة على بعد نصف ساعة بالسيارة من باريس. جثمت على أريكة مكسوة بقطيفة زرقاء، وفي إحدى اللحظات جاءت حفيدتها البالغة من العمر خمسة عشر عاما للتحية. بقي البيت الذي عاشت فيه لأربعين عاما وكتبت فيها كل أعمالها عدا الروايتين الأوليين باردا على نحو لطيف، برغم هبات من الحرارة، فهو مفتوح على شرفة تطل على حقل أخضر وبعض الشجر الحديث الجميل. جرى الحوار بالفرنسية، وما فيه من أخطاء الترجمة أو الخلط إنما هو يخصني أنا. وقد استمر الحوار لقرابة ساعتين وتم اختصاره، فما اقتطعته منه كان حديثنا ضمن أشياء كثيرة عن حملي، ومرات حملها، وأحفادها، والكتّاب الأمريكيين الذين أحثها على قراءتهم (كريس كراوس وماجي نيسلن). أما ما لم ألتقطه في التفريغ أو الترجمة فضحكها ـ ضحكها العابث اللطيف المدهش الذي ليتكم كنتم سمعتموه.
•أنت إذن لا تعدين نفسك روائية؟
لا، ذلك مصطلح لا يلائمني مطلقا. ويزيد على ذلك أننا نميل إلى أن نقول عن النساء اللاتي يكتبن إنهن «روائيات» بينما نقول عن الذكور إنهم «كتَّاب» وحسب. ودائما يتجاوز عدد الرجال الذين يُطلب منهم الكتابة عن الأدب في صفحات ملحق لوموند للكتب عدد النساء، فـ«الكاتب» في اللاوعي الجمعي يعني «الرجل». أو ربما ذلك هو الحال في فرنسا فقط.
• أعتقد أن الأمر كذلك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أيضا. فهل أنت مع نسونة اللغة feminisation of language ؟ هل تصفين نفسك بالكاتبة [écrivaine](1)؟
نعم. هذا ما أفعله. في البداية لم أشأ أن أفعل، لكن الآن بات ذلك أقرب إلى عادة. لا أمعن في الأمر كثيرا لدرجة استعمال الكتابة الاحتوائية (2)écriture inclusive ، لكنها لا تثير ضيقي.
• هل تصفين ما تكتبينه بالسيرة الذاتية، أم بالكتابة المقالية؟
ـ لا بهذا ولا بذاك. أنا شديدة الاهتمام بفكرة النص عديم النوع. ولكن في ذلك قبولا بمخاطرة أن يقول الآخرون إن هذا ليس أدبا، لأنه لا ينتمي إلى نوع محدد. ولكن ثمة المزيد والمزيد من مثل هذا النص، ويصر هؤلاء الكتاب على وصفها بـ«الروايات» حتى حين لا يكون ما كتبوه كذلك بوضوح، لمجرد أن الروايات تروج. وقد رفضت أن أفعل ذلك.
• في مقالة لك عن [JOURNAL DU DEHORS ] قلت إنها كانت محاولة للكتابة بـ«الأنا العابرة للذات» [ je transpersonnel]. ما معنى ذلك؟
ما أعنيه بهذا هو كل شيء يمكن أن يكون معارضا لـ«أنا» السيرية الذاتية. ففي الأنا كما أفهمها، ليست الهوية هي التي تضعني وتاريخي في قارب واحد، وليست الأنا السيكولوجية، وإنما الأنا التي تتسم بالتجارب المشتركة التي عرفها الكثير منا، كموت أحد الأبوين أو وضع النساء أو الإجهاض غير القانوني. خلاصة هذه الأنا العابرة للذات موجودة في «السنوات» التي تختفي منها الأنا تمام الاختفاء. الأنا بالنسبة لي ليست هوية، وإنما هي مكان، تسمه تجارب بشرية وأحداث إنسانية. وذلك ما أحاول أن أضيئه عبر كتابتي. وإنني أقول «الأنا العابرة للذات» لأن ما يهمني ليس الفرد، وليس الطرفة أو النادرة، وإنما المشترك سواء أهو اجتماعي، أو يقع قليلا في السيكولوجي، أو في نطاق رد الفعل. وبهذه الطريقة قد أكون على يقين من أنني أضع في دائرة الضوء شيئا ليس مقصورا على التاريخ الشخصي. جوهر ما أريد هو أن أنأى بنفسي، أقصى نأي ممكن، عما عشته، عما أنا إياه، فالأمر يتعلق بالقدرة على نأي المرء بنفسه. وذلك موقف يستغرق تكوينه وقتا بالطبع، وكتبي المبكرة تظهر فيها العواطف بشدة. وتبقى بعض العواطف في الكتب التالية، ولكن لا بد من العثور على طريقة للحديث عن العواطف دون إيعازها إلى الكاتبة نفسها.
• هل يتحقق ذلك من خلال أسلوب «الكتابة المسطحة» الذي كثيرا ما يتكلم الناس عنه في ما يتصل بأعمالك؟
نعم، هي مسطحة لأنني أكتب بهذه الطريقة، جاءتني بهذه الطريقة، هي أكثر موضوعية، وانفصالا، ومعلوماتية.
• حينما تقولين إنها جاءتك بهذه الطريقة، هل يعني ذلك أنك لا تكتبين كتلة كاملة في مسودة ثم تحذفين منها كل ما هو مفرط الذاتية أو العاطفية؟
لا، هي تولد من نهج محدد حيال الصفحة الخاوية، ولعل هذا أسهل في وضعي، من المهم للغاية مسألة تغيير الطبقات، لأنني لا أرى الكتابة عطية. أنا أقع بين ما يسميه بورديو بالهابتوس (3) ـ الهابتوس الخاص بطبقتي، ثقافتي الأولى، طريقتي في الحياة في الطبقة العاملة والأدب وما أعرف بتجربتي أنه الأدب. إنني أكدح دائما في الكتابة لحل هذين العالمين، وتكمن الصعوبة في محاولة تحميل الأدب بشيء من ثقافتي الأولى.
• الأمر مكاني للغاية، حسبما تصفينه؟
نعم، مثلما تقولين، مكاني للغاية، وكأن ثمة مكانين مختلفين لا بد من الجمع بينهما: المكان الذي بدأت منه، بما فيه من عنف معين، وعالم الأدب. على نحو ما، في كل مرة أكتب فيها، أغزو شيئا ما. هل تفهمين ما أعنيه؟
• نعم، تماما. هو شيء تكدحين إليه، ليس بعطية؟
لا، ليس بعطية.
• في كتبك الكثير من المساحات الفارغة، أهذه ترجمة بصرية للعلاقة المكانية بفعل الكتابة وبالكتابة ذاتها؟
نعم، لكن ليس في جميع كتبي، في «السنوات» لا توجد فراغات كثيرة.
• لكن ثمة شيء مثير للاهتمام في طريقة وضعك النص على الصفحة.
نعم، المسافات بين السطور والكلمات. من المهم للغاية بالنسبة لي أن أتيح المجال لهذا الفضاء. هو موقع غير المقروء، موقع الاختلاف، موقع الانقطاع، وأشكال الانقطاع. نعم، الأمر أقرب إلى هذا. لكنه ليس فضاء لي، وإنما هو فضاء للقارئ.
• من أكثر الأمور اللافتة لي في «السنوات» أنه الكتاب الوحيد في كتبك على مدار مسيرتك الذي تستعملين فيه ضمير الغائب. كيف توصلت إلى هذا الصوت؟ ماذا جرى للأنا شديدة الأهمية في كتبك الأخرى؟
تطورت [أي الأنا] إلى حد التلاشي في «السنوات» وفي كتابي الأخير «قصة فتاة» الذي يأتي عبر صوتين مختلفين وشديدي التمايز، لضميري المتكلم والغائب. «أنا» للمرأة التي تكتب و«هي» للشخص الذي أصفه وهو شابة سنة 1958.
• هل كان في «السنوات» أن كتبت للمرة الأولى بضمير الغائب؟
نعم
• كيف كان إحساسك بهذا؟ أنا شخصيا لا أستطيع الكتابة مطلقا بضمير الغائب، يبدو لي دائما بالغ الاصطناع.
لعلك بحاجة فقط إلى وقت. وعلى أي حال هو ليس المثالي بالضرورة. ما حدث معي هو العكس ـ بعد سنين من الكتابة بالأنا، لم يعد بوسعي الآن أن أكتب بضمير المتكلم.
• لم؟
لا أعرف. أشعر به مثلما شعرت أن عليّ أن أكتب بالأناـ أشعر به ضرورة.
• وهل يحتمل أن «هي» تمثل طريقة أخرى مختلفة للكتابة بالأنا. أهي «أنا» ولكن من جانب آخر؟
ثمة كثير من الأنا في الـ(هي)، لأنها ليست (هي) مخترعة، إنها (هي/أنا)، وما أستعمل (هي) فقط إلا للاختصار. كل ما تفعله هي هو أنا. الأمر أن أنا أصبحت مستحيلة علي، ليس نحويا فقط.
• هي طريقة أخرى للنأي عن ذاتك وعن الصفحة.
نعم، مزيد من النأي. ولكنها تيسر عليّ الكلام، والكتابة. أعتقد أنني ما كنت لأستطيع الكتابة عن كل ما جرى لشابة سنة 1958 في «قصة فتاة» لو كنت كتبتها بضمير المتكلم. فـ(هي) هي التي حررتني حقا.
• في LE VRAI LIEU [المكان الحقيقي] تكلمت عن الطرق التي من خلالها يتحدث المجتمع عبر الكتَّاب الذين ينتجهم، وفي ختام «السنوات» عرضت على القارئ طريقة لتناول النصوص:
«ستكون سردية زلقة مكتوبة في زمن نحوي مستمر لا ينقطع، مطلق يلتهم الحاضر في طريقه، وصولا إلى الصورة الأخيرة في الحياة. صبيب مستمر، لا توقفه على مسافات منتظمة إلا صور ومشاهد من أفلام تلتقط تتابع أشكال الجسد والأوضاع الاجتماعية لكينونتها ـ إطارات جامدة من الذكريات، وفي الوقت نفسه تقارير عن تطور وجودها، الأشياء التي جعلتها فريدة، لا بسبب طبيعة عناصر حياتها، سواء أهي خارجية (كالمنحنى الاجتماعي، أو المهنة) أو داخلية (كالأفكار والطموحات والرغبة في الكتابة)، لكن بسبب تركيباتها، التي تتفرد كل منها في ذاتها. وإذا بـ«ليست-هي-المستمرة» الموجودة في الصور تتطابق تطابقا تاما مع «هي» الموجودة في الكتابة.
ما من «أنا» في ما تراه نوعا من السيرة غير الذاتية. ليس هناك سوى «أحدهم» أو «نحن»، وكأنما الآن دورها لتروي قصة الزمن الماضي.
واضعة ذلك في الاعتبار، أردت أن أتكلم قليلا عن هذا السؤال المتعلق بالسيرة الذاتية غير الشخصية أو الجمعية. النساء اللاتي يكتبن عن حيواتهن الخاصة كثيرا ما يتهمن بالنرجسية، والتحديق في الذات، وتبدو لي السيرة الذاتية الجمعية أصدق في معالجة العلاقة بين الأنا والنحن والعالم الذي ينتجنا ويتكلم من خلالنا ويستمر في صوغنا وإعادة صوغنا.
نعم، بالضبط. في البداية لم تكن لدي نية كتابة سيرة ذاتية جمعية. كل الخطوات التي مررت بها محفورة داخل النص. كان ما أردته هو قصة امرأة عاشت حقبة، لكنني أردت لها تقريبا ألا تكون حاضرة، ولم أدر كيف أفعل هذا، فلو استبعدتها تماما لصار الكتاب تاريخا، وكان لا بد من ضمير في الكتاب. فبدأت أراكم صورا وذكريات كانت في الوقت نفسه شخصية وغير شخصية، وكذلك أفلاما وكتبا وذكريات وأغنيات، دون أن أنسبها إلى أحد. بدأت بالزمن الذي وصلت فيه إلى العالم، ليست لدي ذكريات حقيقية عن العالم ذاته، ليس إلا ما بعده. فأصبح العالم عن عالم الماقبل، وكيف بتنا واعين به. لم أكن أكتب عن نفسي، بل من خلال سرديات، من خلال طرقنا في التعرف، من خلال طرق مقابلتنا للعالم. ليس في علاقته بالسيكولوجي وإنما علاقته بالظروف أكبر، وبالوجبات العائلية. خطر لي فورا أنه لا يتناول تجربة شخصية بعينها، وإنما يتناول تاريخ فرنسا، وتاريخ أهل الريف، والعمال، والأيام الخوالي. ثم كان عليّ أن أجد طريقة للاستمرار، فنظرت إلى الصور الفوتوغرافية القديمة، من قبيل صور طفلي، لكن مع ذلك، لم يحدث شيء، لم أجد أحدا هناك. لا أعرف كيف خطرت لي فكرة أن أستعمل الصورة الفوتوغرافية [اللاحقة]، ولكنني عثرت على صورة فوتوغرافية لفتاة صغيرة على البحر، هي أنا بالطبع، ووصفت الصورة، وفيما كنت أفعل ذلك، أدركت أنني يجب أن أختار: إما أن أستعمل «أنا» أو «هي».
• كانت الصورة هي التي دفعتك إلى اتخاذ القرار؟
لم أعد أحتفظ بمسوداتي، فهي في المكتبة الوطنية، لكنني أعرف أنني في قسم منها كنت أستعمل «أنا» وكأنني الراوية، وأصف هذه الصورة الفوتوغرافية وصف راوية، وكأنني صوت من تكتب. ثم وضعت الكتاب لوهلة، ثم تناولته مرة أخرى وبدأت أكتب بـ«هي»، وبعد ذلك توقفت عن استعمال أنا بالمرة مع استغراقي في ذكرياتي عن حقبة الخمسينيات. ثم استطعت أن أصف العالم الذي نشأت فيه، العروض الإذاعية، والإعلانات، وجميع أنواع الذكريات. كتبت عن خرائب ما بعد الحرب، فقد كنت في نورماندي بالطبع، وكذلك الفرحة الاستثنائية في ما بعد التحرير. أردت أن تكون ذكرياتي الفردية بمثابة ذاكرة جمعية. لكن ما من فارق حقيقي، لأن ذكرى أحداث معينة ـ كذكرى أول مرة في السيرك، أو أول مشاركة في جولة فرنسا Tour de Franceـ هي ذكريات جمعية أحتفظ منها بذكريات فردية. أردت ببساطة شديدة أن أستغلها لاقتناص هذه الحقبة. ليس عملا أرشيفيا يقوم به مؤرخ، ما كان ليستعمل ضمير المتكلم في الكتابة هو الآخر، وما كان ليستعمل ذكرياته الخاصة. في حين أستعمل ذكرياتي الخاصة فلا أكاد أتجاوزها على مدار الكتاب. الذاكرة الجمعية هي في النهاية كيف عشت وكيف عاش الجميع وكيف أن طريقة الحياة تلك بداخلي.
• وذلك فعال للغاية؟
أردت حقا أن أكتبه على هذا النحو لكنني خشيت ألا يقبل به محرري. خشيت ألا يكون سلس القراءة أو مفهوما، خشيت أن أكون قد أنتجت نصا طليعيا محضا، أو غير قابل للقراءة. وقلت لنفسي، حسنا، لا يهمني، سأكتبه كيفما أريده. ثم قرأت بعد نشره مقالات كتب فيها النقاد أمورا من قبيل أن «إرنو فعلت شيئا مختلفا بحق هذه المرة». فبدا أن هذه الطريقة من إنكار المركزية التام على الذات قد آتت ثمارها.
هوامش:
1-كلمة «كاتب» بالفرنسية هي écrivain ، وتستعمل للمرأة والرجل، لكن الكلمة نفسها في صيغة المذكر، وثمة كلمة تستعمل خصيصا للإشارة إلى الكاتبة المرأة هي écrivaine. والجدال حول نسونة اللغة يتعلق بما إذا كان الأهم هو إبراز الاختلاف، أم احتواء النساء في مفاهيم مطلقة (ذكورية سابقا) ـ هامش المحاورة بتصرف
2- هناك رد فعل على جندرية اللغة الفرنسية وإقصائيتها يتمثل في وضع نقطة وسطى تعقبها علامة التأنيث أو الجمع في الكلمات التي لولا ذلك لظلت مذكرة، ومن ذلك تحويل [écrivains] إلى [écrivain.e.s.] وذلك ما يعرف بالكتابة الاحتوائية écriture inclusive . [ترجمة شارحة لهامش المترجمة الأمريكية]
3- يرد تعريف للهابتوس [habitus] بأنه نسق الاستعداد التي ينشأ عليها الفرد ويكتسبها، وهذا مجتزأ من تعريف أوسع في مسرد كتاب «إعادة الإنتاج» ترجمة د. ماهر تريمش ـ مركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد شافعي مترجم مصري
عن مجلة وايت رفيو ترجمة خاصة بـ « ملحق جريدة عمان الثقافي »