اغتراب الغريب في الأدب
الأربعاء / 29 / ربيع الأول / 1444 هـ - 19:05 - الأربعاء 26 أكتوبر 2022 19:05
لم يعش الأدباء والفنّانون حال الغربة في المكان فحسب، ولم يُعانوا الخروج من أرض الوطن والحنين إلى ديارهم وذكرياتهم فحسب، بل انضاف إلى غربة المكان اغتراب الروح، وهي الظاهرة التي يعيشها أغلب الفنّانين والأدباء وأصحاب الفكر على مرّ الزمن، غربةٌ تحوّلت إلى أعمال فنيّة وخطابات أدبيّة، أرّخت لتاريخ الحنين إلى الأوطان من جهة وإلى إظهار الحُرقة الحقيقيّة التي تتملّك الفنّان من جهة ثانية.
من الشعراء الملوك الذين فقدوا أوطانهم وسخّروا الخطاب الشعري لحمْل مواجعهم في الحنين إلى الوطن والتعبير عن الغربة الشاعر الأندلسيّ المعتمد بن عبّاد الذي فقد مُلكه في الأندلس وهُجِّر منفيّا إلى بلاد المغرب حيث رُدّ إلى أرذل الحياة وأضيق الحصار، وعاش حياة صعبة بعد أن كان صاحب مُلك وقبلة الشعراء والكُتّاب يغدق عليهم وافر العطاء، وقد تهيّأت هذه الغربة والحنين إلى الجنّة المفقودة في قصيدة شهيرة، مثّلت مرجعا مهمّا في شعر الحنين إلى الأوطان وبيان حال فاقد البلاد، ومنها:
غَريب بِأَرضِ المغربينِ أَسير
سَيَبكي عَلَيهِ مِنبَرٌ وَسَريرٌ
وَتَندُبُهُ البيضُ الصَوارِمُ وَالقَنا
وَينهلُّ دَمعٌ بينَهُنَّ غَزيــــــــرُ
سَيبكيهِ في زاهيه وَالزاهرُ النَدى
وَطُلاّبُهُ وَالعَرفُ ثَمَّ نَكيــــرُ
إِذا قيلَ في أَغماتَ قد ماتَ جودُهُ
فَما يُرتَجى لِلجودِ بَعدُ نُشورُ
مَضى زَمَنٌ وَالمُلكُ مُستأنِسٌ بِهِ
وَأَصبَحَ مِنهُ اليَوم وَهوَ نَفورُ
وهي أبياتٌ مُظهِرةٌ لتحريك السواكن الجامدة تفاعلا مع غُربة الشاعر الملك، في إجراء معجم دالٍّ على منزلة الشاعر السابقة، الذي تبكيه أشياؤه التي كانت تنعم به في صورة مجازيّة يبكي فيها كرسيّ الحكم وسريره، وترثي غيابه أدوات الحرب التي كان يستعملها.
لقد شكّل شعر الحنين إلى الأوطان ورثاء البلدان غرضا توسّع فيه شعراء الأندلس وكُتّابها، خاصّة مع بداية سقوط إماراتها ونفي أهلها أو هروبهم وتوسّعهم في مختلف مناطق المغرب، ولذلك خصّص ابن عبّاد مرحلة نفيه وسجنه إلى رثاء بلاده وبيان شوقه إلى الملك المفقود وإلى الأرض المنهوبة، يقول مبينا عن ذلك:
وَطِّن عَلى الكُرهِ وَاِرقُب إِثرَهُ فَرجاً
يَقُولونَ صَبراً لا سَبيلَ إِلى الصَبرِ
وَاِستَغفِر اللَهَ تَغنَم مِنهُ غُفرانا
سَأَبكي وَأَبكي ما تَطاوَل مِن عُمري
وهي ظاهرةٌ نجدها عند عدد هامّ من الشعراء خاصّة، ومنهم الشاعر ابن حمديس الذي زامن ابن عبّاد وعاصره، والذي عبّر عن هذا الحنين أيضا بقوله:
ذَكرتُ صِقِلِّيَّةً والأسى
يُهَيِّجُ لِلنَّفسِ تِذكَارَها
وَمَنزِلَةً للتَّصابي خَلَتْ
وَكَانَ بَنُو الظَّرفِ عُمَّارَها
فَإِن كُنتُ أُخرِجتُ مِن جَنَّةٍ
فَإِنِّي أُحَدِّثُ أَخبَارَها
وَلَولا مُلوحَةُ ماءِ البُكا
حَسِبْتُ دُموعِيَ أَنهَارَها
غير أنّ الجانب الأخفى والأعمق هو جنوح الأدباء إلى تصوير اغترابهم عن الأوطان وفي الأوطان، فما كان يشكوه الكُتّاب ليس الابتعاد في المكان، بل خيانة الأصدقاء ونكران الزمان وتفرّق الأعضاد والأحباب.
المتنبي وهو الشاعر المغترب، يتحرّك في المكان ولا ينشدُّ إليه، وإنّما شعور الغربة الذي يُرافقه ماثل في أنّه في أرض لا تؤمن به ولا تُدرك منزلته، وهي عموما الظاهرة التي ترافق أغلب الفنّانين، وهي الإحساس بالغربة الدائمة نفسيّا وسط جُموع هي من منظور الفنّانين جاهلة تزيد من وقْع الغربة، وكذا كان المتنبي يرى نفسه، يتحرّك في المكان متنقّلا علّه يجد مستقرّا وهدْأة روح، ويُغادر وطنه بحثا عن وطنٍ تهنأ فيه نفسه من اضطرابها، فلا هو مستقرٌّ في المكان، ولا هو واجدٌ في الرحلة راحةً. لذلك كان يُشبّه نفسه بالغرباء وهم الأنبياء والرسل، يقول:
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
في بيانه لغربة لقيها في قومه، وشعوره بغربةٍ تُشاكِلُ في أثرها ووقْعها غُربة المسيح الذي استعمله عددٌ هامٌّ من الشعراء في القديم والحديث صورةً حاملة لمعنى الاغتراب والنكران.
تعود غُربة المتنبي إلى إحساسه بالعلوّ والرفعة، وإلى نرجسيّة تملّكته، وكان الشعر إطارها، وهو القائل:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ ال لاهُ وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
وهي المنزلة التي وضع نفسه فيها، ومنها يرى العالم من حوله، فتبدو له صورته المتعالية التي تعلو منازل كلّ الخلق وكل المخلوقات:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما
تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ
وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ
بِكُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَمٌ
تُرعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ
وهو أمرٌ كما سلف أن ذكرت حاصل عند أغلب الشعراء والأدباء الذين يرون أنّهم بعلمهم أو فنّهم امتلكوا سمة تُفرقهم عن بقيّة الخلق.
ما نجده عند التوحيدي هو اغترابٌ وجوديّ حقيقيّ، يُعبّر فيه عن حالةٍ من حياة الغربة في الوطن، وهو الأمر الذي سينتهي به إلى إحراق كتبه والغياب عن العالم، اندماجا في التجربة العرفانية الصوفيّة. وقد شكّلت تجربة التوحيدي كتابة نثريّة فريدة في الأدب العربي، جامعة بين تفوّق الكتابة النثريّة وبلوغها درجة من الإبداع والتحقّق، والتجربة العرفانيّة في أدائها وتعقّلها للوجود وتمثّلها للحياة وعوارض المادّة وجوهر الروح.
يصف التوحيدي غربته الواصلة بين شكوى الحاجة في حياة المادّة وشكوى الاغتراب في حياة الروح بشكل دقيق فقد خرج من كتابه «الإمتاع والمؤانسة» الواصف لحياة المجالس الغالبة فيه شكوى الحاجة وقلّة ذات اليد إلى كتاب «الإشارات الإلهيّة» المغرق في الروحانيّات، المتحدّث عن الغربة في وسْمها وبيان أصلها وطبيعتها وجوهرها، يقول:
«هذا وصف غريب نأى عن وطنٍ بُني بالماء والطين، وبعد عن آلافٍ له عهدهم الخشونة واللين، ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض، ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض، فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟! قد علاه الشحوب وهو في كنّ، وغلبه الحزن حتى صار كأنّه شنّ».
هي غربة كثيرا ما ذُكرت في مؤلّفات المتصوّفة الذين عاشوا منافرة الحياة الدنيا العارضة، في انتظار توحّد الروح واستقرارها في الوطن الأصل. الغربة عند التوحيدي ليست غربة جسد ولا مكان، وإنّما هي شعور بحال من فوران الروح ورغبتها في مفارقة كون المادّة، هي إحساس الكائن بأنّه منبوذ لا يلقى من زمنه قبولا ولا رضى، هي غربة وجوديّة أثقلت كاهل التوحيدي، بدءا بالتقرّب إلى ذوي الجاه والمال، والرغبة في مفارقة حياة الفقر والجوع وبلوغا إلى حالٍ من التزهّد ورفض هذه الحياة، فهو في كلا الحالين يعيش غربة، غير أنّ الثانية أعمق وأجدى وأهنأ، يقول في بيان حال الغريب: «وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب».
أمّا في حديث الأدب فإنّ مظاهر الغربة والاغتراب تنوّعت وتفارقت مظاهرها وأنواعها، وقد ساهمت عوامل عديدة في بعثها وتشكيل مظاهرها، يُمكن أن نذكر منها عاملين أساسيين، الأوّل هو الانفتاح على الغرب المتقدّم المستعمر، ووجود سلطة سياسيّة مُنفّرة، طاردة للأدباء، وتَكَوّن مظهر ثقافيّ توجّه إلى الاغتراب في بلاد الآخر الغربي، رغبةً أو كَرها، والثاني هو انبعاث الكيان الصهيونيّ وتكوّن حركة أدبيّة شعريّة وقصصيّة ومسرحيّة تعبّر عن حال الغربة والاغتراب في محاولة المستوطِن سلب المُستوطَن ثقافته وتاريخه وحضارته.
في العامل الأوّل يُمكن أن نشير إلى ثلاث ظواهر أدبيّة، الأولى ظاهرة «أدباء المهجر» الذين عاشوا غربة المكان واغتراب الوجود خاصّة في منزعهم الرومنسي، وقد عبّروا عن هذه الغربة حنينا إلى زمن الصبا وشوقا إلى الخروج عن دائرة الغرباء، وشوقا إلى معانقة الطبيعة بوجهيها، طبيعة الإنسان الخيّر في أصله، وطبيعة الكون الخارجيّة، يقول جبران خليل جبران في قصيدة يُخصّصها لهذا الموضوع بعنوان «هو ذا الفجر فقومي ننصرف»:
«هوَ ذا الفَجرُ فَقُومي نَنصَرِف
عَن دِيارٍ ما لَنا فيها صَديق
ما عَسى يَرجو نَباتٌ يختلف
زَهرُه عَن كُلِّ وردٍ وَشَقيق
وَجَديدُ القَلبِ أَنّى يَأتَلف
مع قُلوب كُلُّ ما فيها عَتيق
هوَ ذا الصُّبحُ يُنادي فَاِسمَعي
وَهَلمّي نَقتَفي خُطواته»
وفي المظهر الثاني، يُمكن أن نعرض بشكل عامّ إلى صنف من الكتّاب الذين عبّروا عن حياة الغربة في أعمالهم الأدبيّة، منهم توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» والطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، وما زالت الظاهرة متواصلة مع عدد من الروائيين والقُصّاص والشعراء الذين اختاروا منافيهم طوعا، وعاشوا فيها بحثا عن حريّة في التعبير وعن حياة أفضل، ولكنّهم حملوا معهم أوطانهم في أذهانهم صاغوها قصصا وروايات مبينة في تشكيل حوادثها وشخصيّاتها عن شوق للوطن الأصليّ وتوق إلى استحضاره لا إلى الحضور فيه.
ولعلّ هذه الظاهرة قد أثارت هذه الأيام تساؤلات عديدة عند تصريح الكاتب الليبي إبراهيم الكوني الذي أعلن أكثر من مرّة أنّه سويسري وليس ليبيّا، وقدّم رؤية لمفهوم الوطن، مفادها أنّ الوطن هو الذي يحويك ويكرمك وليس حفنة تُراب ينتسب إليها المرء مهما فعلت فيه!
المظهر الثالث، يخصّ عددا من الكُتّاب الذين عاشوا الغربة القسريّة وعلى رأسهم كاتبان هما بيرم التونسيّ الذي أُكره على الاغتراب وعانى ما عانى بسبب ذلك، وقد عبّر عن هذه الغربة في ما عُرف به من زجل، يقول على سبيل المثال في قصيدة بعنوان «حياتي»:
«الأوله آه. والتانية آه. والتالتة آه.
الأوله: مصر، قالوا تونسي ونفوني
والتانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالتة: باريس، وفى باريس جهلوني
الأوله: مصر، قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير
والتانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير
والتالتة: باريس، وفى باريس جهلوني ونا موليير»
والثاني هو الشاعر بدر شاكر السيّاب الذي امتلأت قصائده بالحنين إلى الوطن، وتذكّر أيّامه فيه، ومن أهمّ القصائد الدالّة على الغربة والاغتراب في الآن ذاته، قصيدة «غريب على الخليج» وقصيدة «أنشودة المطر»، يقول متحدّثا عمّا يعانيه في غربته، في صورٍ تشكّلت في قصيدة غريب على الخليج:
«واحسرتاه فلن أعود إلى العراق!
وهل يعود
من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود
به الكرام على الطعام؟
لتبكينَّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع!»
شكّل العامل الثاني الذي اختصّ بالأدب الفلسطيني، مظهرا أدبيّا موسّعا دالاّ على الاغتراب القسريّ للأدباء شعرا وسردا ومسرحا، وهي ظاهرةٌ أدبيّة تشكّل فيها مفهوم الغربة في المكان أي دون الخروج عنه بالضرورة بوجود مظاهر حياتيّة تُفْقِدُ الأرض سمتها وتاريخها ومظهرها، فعبّروا عن حبّهم للوطن وعن ارتباطهم به، ومنهم معين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي. لقد مثّل موضوع الغربة والاغتراب غرضا صاغه الأدباء شعرا ونثرا، واختلفت مظاهر تحقّقه، بين التعبير عن فقدان الوطن والحنين إليه واقعا ماديّا موضوعيّا، توسّل الأدباء بمختلف أدوات التمثيل والتصوير لتأدية المعنى، والتعبير عن غربة الروح صوغا وجوديّا لفورة الروح وانعدام استقرارها في أرض تُنكر أصحابها.
محمد زروق أكاديمي تونسي
من الشعراء الملوك الذين فقدوا أوطانهم وسخّروا الخطاب الشعري لحمْل مواجعهم في الحنين إلى الوطن والتعبير عن الغربة الشاعر الأندلسيّ المعتمد بن عبّاد الذي فقد مُلكه في الأندلس وهُجِّر منفيّا إلى بلاد المغرب حيث رُدّ إلى أرذل الحياة وأضيق الحصار، وعاش حياة صعبة بعد أن كان صاحب مُلك وقبلة الشعراء والكُتّاب يغدق عليهم وافر العطاء، وقد تهيّأت هذه الغربة والحنين إلى الجنّة المفقودة في قصيدة شهيرة، مثّلت مرجعا مهمّا في شعر الحنين إلى الأوطان وبيان حال فاقد البلاد، ومنها:
غَريب بِأَرضِ المغربينِ أَسير
سَيَبكي عَلَيهِ مِنبَرٌ وَسَريرٌ
وَتَندُبُهُ البيضُ الصَوارِمُ وَالقَنا
وَينهلُّ دَمعٌ بينَهُنَّ غَزيــــــــرُ
سَيبكيهِ في زاهيه وَالزاهرُ النَدى
وَطُلاّبُهُ وَالعَرفُ ثَمَّ نَكيــــرُ
إِذا قيلَ في أَغماتَ قد ماتَ جودُهُ
فَما يُرتَجى لِلجودِ بَعدُ نُشورُ
مَضى زَمَنٌ وَالمُلكُ مُستأنِسٌ بِهِ
وَأَصبَحَ مِنهُ اليَوم وَهوَ نَفورُ
وهي أبياتٌ مُظهِرةٌ لتحريك السواكن الجامدة تفاعلا مع غُربة الشاعر الملك، في إجراء معجم دالٍّ على منزلة الشاعر السابقة، الذي تبكيه أشياؤه التي كانت تنعم به في صورة مجازيّة يبكي فيها كرسيّ الحكم وسريره، وترثي غيابه أدوات الحرب التي كان يستعملها.
لقد شكّل شعر الحنين إلى الأوطان ورثاء البلدان غرضا توسّع فيه شعراء الأندلس وكُتّابها، خاصّة مع بداية سقوط إماراتها ونفي أهلها أو هروبهم وتوسّعهم في مختلف مناطق المغرب، ولذلك خصّص ابن عبّاد مرحلة نفيه وسجنه إلى رثاء بلاده وبيان شوقه إلى الملك المفقود وإلى الأرض المنهوبة، يقول مبينا عن ذلك:
وَطِّن عَلى الكُرهِ وَاِرقُب إِثرَهُ فَرجاً
يَقُولونَ صَبراً لا سَبيلَ إِلى الصَبرِ
وَاِستَغفِر اللَهَ تَغنَم مِنهُ غُفرانا
سَأَبكي وَأَبكي ما تَطاوَل مِن عُمري
وهي ظاهرةٌ نجدها عند عدد هامّ من الشعراء خاصّة، ومنهم الشاعر ابن حمديس الذي زامن ابن عبّاد وعاصره، والذي عبّر عن هذا الحنين أيضا بقوله:
ذَكرتُ صِقِلِّيَّةً والأسى
يُهَيِّجُ لِلنَّفسِ تِذكَارَها
وَمَنزِلَةً للتَّصابي خَلَتْ
وَكَانَ بَنُو الظَّرفِ عُمَّارَها
فَإِن كُنتُ أُخرِجتُ مِن جَنَّةٍ
فَإِنِّي أُحَدِّثُ أَخبَارَها
وَلَولا مُلوحَةُ ماءِ البُكا
حَسِبْتُ دُموعِيَ أَنهَارَها
غير أنّ الجانب الأخفى والأعمق هو جنوح الأدباء إلى تصوير اغترابهم عن الأوطان وفي الأوطان، فما كان يشكوه الكُتّاب ليس الابتعاد في المكان، بل خيانة الأصدقاء ونكران الزمان وتفرّق الأعضاد والأحباب.
المتنبي وهو الشاعر المغترب، يتحرّك في المكان ولا ينشدُّ إليه، وإنّما شعور الغربة الذي يُرافقه ماثل في أنّه في أرض لا تؤمن به ولا تُدرك منزلته، وهي عموما الظاهرة التي ترافق أغلب الفنّانين، وهي الإحساس بالغربة الدائمة نفسيّا وسط جُموع هي من منظور الفنّانين جاهلة تزيد من وقْع الغربة، وكذا كان المتنبي يرى نفسه، يتحرّك في المكان متنقّلا علّه يجد مستقرّا وهدْأة روح، ويُغادر وطنه بحثا عن وطنٍ تهنأ فيه نفسه من اضطرابها، فلا هو مستقرٌّ في المكان، ولا هو واجدٌ في الرحلة راحةً. لذلك كان يُشبّه نفسه بالغرباء وهم الأنبياء والرسل، يقول:
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
في بيانه لغربة لقيها في قومه، وشعوره بغربةٍ تُشاكِلُ في أثرها ووقْعها غُربة المسيح الذي استعمله عددٌ هامٌّ من الشعراء في القديم والحديث صورةً حاملة لمعنى الاغتراب والنكران.
تعود غُربة المتنبي إلى إحساسه بالعلوّ والرفعة، وإلى نرجسيّة تملّكته، وكان الشعر إطارها، وهو القائل:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ ال لاهُ وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
وهي المنزلة التي وضع نفسه فيها، ومنها يرى العالم من حوله، فتبدو له صورته المتعالية التي تعلو منازل كلّ الخلق وكل المخلوقات:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما
تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ
وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ
بِكُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَمٌ
تُرعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ
وهو أمرٌ كما سلف أن ذكرت حاصل عند أغلب الشعراء والأدباء الذين يرون أنّهم بعلمهم أو فنّهم امتلكوا سمة تُفرقهم عن بقيّة الخلق.
ما نجده عند التوحيدي هو اغترابٌ وجوديّ حقيقيّ، يُعبّر فيه عن حالةٍ من حياة الغربة في الوطن، وهو الأمر الذي سينتهي به إلى إحراق كتبه والغياب عن العالم، اندماجا في التجربة العرفانية الصوفيّة. وقد شكّلت تجربة التوحيدي كتابة نثريّة فريدة في الأدب العربي، جامعة بين تفوّق الكتابة النثريّة وبلوغها درجة من الإبداع والتحقّق، والتجربة العرفانيّة في أدائها وتعقّلها للوجود وتمثّلها للحياة وعوارض المادّة وجوهر الروح.
يصف التوحيدي غربته الواصلة بين شكوى الحاجة في حياة المادّة وشكوى الاغتراب في حياة الروح بشكل دقيق فقد خرج من كتابه «الإمتاع والمؤانسة» الواصف لحياة المجالس الغالبة فيه شكوى الحاجة وقلّة ذات اليد إلى كتاب «الإشارات الإلهيّة» المغرق في الروحانيّات، المتحدّث عن الغربة في وسْمها وبيان أصلها وطبيعتها وجوهرها، يقول:
«هذا وصف غريب نأى عن وطنٍ بُني بالماء والطين، وبعد عن آلافٍ له عهدهم الخشونة واللين، ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض، ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض، فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟! قد علاه الشحوب وهو في كنّ، وغلبه الحزن حتى صار كأنّه شنّ».
هي غربة كثيرا ما ذُكرت في مؤلّفات المتصوّفة الذين عاشوا منافرة الحياة الدنيا العارضة، في انتظار توحّد الروح واستقرارها في الوطن الأصل. الغربة عند التوحيدي ليست غربة جسد ولا مكان، وإنّما هي شعور بحال من فوران الروح ورغبتها في مفارقة كون المادّة، هي إحساس الكائن بأنّه منبوذ لا يلقى من زمنه قبولا ولا رضى، هي غربة وجوديّة أثقلت كاهل التوحيدي، بدءا بالتقرّب إلى ذوي الجاه والمال، والرغبة في مفارقة حياة الفقر والجوع وبلوغا إلى حالٍ من التزهّد ورفض هذه الحياة، فهو في كلا الحالين يعيش غربة، غير أنّ الثانية أعمق وأجدى وأهنأ، يقول في بيان حال الغريب: «وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب».
أمّا في حديث الأدب فإنّ مظاهر الغربة والاغتراب تنوّعت وتفارقت مظاهرها وأنواعها، وقد ساهمت عوامل عديدة في بعثها وتشكيل مظاهرها، يُمكن أن نذكر منها عاملين أساسيين، الأوّل هو الانفتاح على الغرب المتقدّم المستعمر، ووجود سلطة سياسيّة مُنفّرة، طاردة للأدباء، وتَكَوّن مظهر ثقافيّ توجّه إلى الاغتراب في بلاد الآخر الغربي، رغبةً أو كَرها، والثاني هو انبعاث الكيان الصهيونيّ وتكوّن حركة أدبيّة شعريّة وقصصيّة ومسرحيّة تعبّر عن حال الغربة والاغتراب في محاولة المستوطِن سلب المُستوطَن ثقافته وتاريخه وحضارته.
في العامل الأوّل يُمكن أن نشير إلى ثلاث ظواهر أدبيّة، الأولى ظاهرة «أدباء المهجر» الذين عاشوا غربة المكان واغتراب الوجود خاصّة في منزعهم الرومنسي، وقد عبّروا عن هذه الغربة حنينا إلى زمن الصبا وشوقا إلى الخروج عن دائرة الغرباء، وشوقا إلى معانقة الطبيعة بوجهيها، طبيعة الإنسان الخيّر في أصله، وطبيعة الكون الخارجيّة، يقول جبران خليل جبران في قصيدة يُخصّصها لهذا الموضوع بعنوان «هو ذا الفجر فقومي ننصرف»:
«هوَ ذا الفَجرُ فَقُومي نَنصَرِف
عَن دِيارٍ ما لَنا فيها صَديق
ما عَسى يَرجو نَباتٌ يختلف
زَهرُه عَن كُلِّ وردٍ وَشَقيق
وَجَديدُ القَلبِ أَنّى يَأتَلف
مع قُلوب كُلُّ ما فيها عَتيق
هوَ ذا الصُّبحُ يُنادي فَاِسمَعي
وَهَلمّي نَقتَفي خُطواته»
وفي المظهر الثاني، يُمكن أن نعرض بشكل عامّ إلى صنف من الكتّاب الذين عبّروا عن حياة الغربة في أعمالهم الأدبيّة، منهم توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» والطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، وما زالت الظاهرة متواصلة مع عدد من الروائيين والقُصّاص والشعراء الذين اختاروا منافيهم طوعا، وعاشوا فيها بحثا عن حريّة في التعبير وعن حياة أفضل، ولكنّهم حملوا معهم أوطانهم في أذهانهم صاغوها قصصا وروايات مبينة في تشكيل حوادثها وشخصيّاتها عن شوق للوطن الأصليّ وتوق إلى استحضاره لا إلى الحضور فيه.
ولعلّ هذه الظاهرة قد أثارت هذه الأيام تساؤلات عديدة عند تصريح الكاتب الليبي إبراهيم الكوني الذي أعلن أكثر من مرّة أنّه سويسري وليس ليبيّا، وقدّم رؤية لمفهوم الوطن، مفادها أنّ الوطن هو الذي يحويك ويكرمك وليس حفنة تُراب ينتسب إليها المرء مهما فعلت فيه!
المظهر الثالث، يخصّ عددا من الكُتّاب الذين عاشوا الغربة القسريّة وعلى رأسهم كاتبان هما بيرم التونسيّ الذي أُكره على الاغتراب وعانى ما عانى بسبب ذلك، وقد عبّر عن هذه الغربة في ما عُرف به من زجل، يقول على سبيل المثال في قصيدة بعنوان «حياتي»:
«الأوله آه. والتانية آه. والتالتة آه.
الأوله: مصر، قالوا تونسي ونفوني
والتانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالتة: باريس، وفى باريس جهلوني
الأوله: مصر، قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير
والتانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير
والتالتة: باريس، وفى باريس جهلوني ونا موليير»
والثاني هو الشاعر بدر شاكر السيّاب الذي امتلأت قصائده بالحنين إلى الوطن، وتذكّر أيّامه فيه، ومن أهمّ القصائد الدالّة على الغربة والاغتراب في الآن ذاته، قصيدة «غريب على الخليج» وقصيدة «أنشودة المطر»، يقول متحدّثا عمّا يعانيه في غربته، في صورٍ تشكّلت في قصيدة غريب على الخليج:
«واحسرتاه فلن أعود إلى العراق!
وهل يعود
من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود
به الكرام على الطعام؟
لتبكينَّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع!»
شكّل العامل الثاني الذي اختصّ بالأدب الفلسطيني، مظهرا أدبيّا موسّعا دالاّ على الاغتراب القسريّ للأدباء شعرا وسردا ومسرحا، وهي ظاهرةٌ أدبيّة تشكّل فيها مفهوم الغربة في المكان أي دون الخروج عنه بالضرورة بوجود مظاهر حياتيّة تُفْقِدُ الأرض سمتها وتاريخها ومظهرها، فعبّروا عن حبّهم للوطن وعن ارتباطهم به، ومنهم معين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي. لقد مثّل موضوع الغربة والاغتراب غرضا صاغه الأدباء شعرا ونثرا، واختلفت مظاهر تحقّقه، بين التعبير عن فقدان الوطن والحنين إليه واقعا ماديّا موضوعيّا، توسّل الأدباء بمختلف أدوات التمثيل والتصوير لتأدية المعنى، والتعبير عن غربة الروح صوغا وجوديّا لفورة الروح وانعدام استقرارها في أرض تُنكر أصحابها.
محمد زروق أكاديمي تونسي