أفكار وآراء

مفارقات الاستشراق

أيّـا يكُـن موقف الدّارس من حركة الاستشراق، وخاصّـةً، من الصّلات التي انتسجت بين بعض تيّاراتها والسّياسات الكولونياليّة الأوروبيّة في القرن التّاسع عشر (وهي استمرّت حتّى يوم النّاس هذا، ولكن في أشكالٍ أخرى مختلفة)، فإنّ الذي لا مجال للشّكّ فيه أنّ الفكر العربيّ غَنِـمَ من حقبة الاستشراق هذه مغانِـمَ معرفيّة لا تَـقْبل التّجاهُـل، ولا سبيل إلى تبخيس قيمتها بدعوى ما يحيطها من شبهةِ علاقةٍ بميدانٍ من المعرفة الغربيّة (= الاستشراق) سُخِّر لأغراضٍ استعماريّة. والحقّ أنّه ليس إلّا لجاحدٍ أو جاهـلٍ أن يُنْكِـر ما كان للمستشرقين من عظيمِ الصّنيع في دراسة تاريخ الإسلام الثّقافيّ والحضاريّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ، وإطْلاعِـنا على مصادره المجهولة لدينا. ولكن، في الوقت عينِه وبالقدرِ ذاته، ليس لدارسٍ موضوعيّ أن يَطْمس تلك اللّحظات المُعتمة في تاريخ الاستشراق، فيتصرّف مع سَقْطاتها العلميّة والأخلاقيّة وكأنْ لم تكن ولا تَوَلَّـد من وجودها ما أحْدَثَ أمرا جللا في الصّلة بتراث الإسلام؛ أَكانت صلةَ الغربيّين به أو صِلةَ العرب والمسلمين به.

نحن، في الواقع، أمام مسألة إشكاليّة بأتـمِّ معاني العبارة. ومَأْتَـى الإشكاليِّ فيها أنّ الظّاهرة موضوعَ الدّرس (= الاستشراق) تنطوي على معنَيَيْن وتُضْمِر وجهيْن في الآن عينِه، بحيث ما من سبيلٍ إلى تظهيرِ واحدٍ منهما وطمس الثّاني وتعريف الاستشراق، رُمَّـةً، على ذلك المقتضى الانتقائيّ والأيديولوجيّ. الاستشراق، بالتّعريف، معرفةٌ وأيديولوجيا في الوقت عينِه؛ تقاليدٌ علميّة دراسيّة رصينة وتمثُّلاتٌ نمطيّة وترّهاتٌ مُغْرِضة؛ فضولٌ علميّ يقود إلى التّخصُّص الدّقيق وجهْـل متعالم يُغري بإطلاق الأحكام العامّة السّائبة؛ تعاطف مع العالَم المدروس (= الإسلام) وتفهُّـم لمادّته الفكريّـة وكـره جهير له ينتقل -في تعبيره عن نفسه- من المضمون إلى لغة مزدحمة بمفردات العنف اللّفظيّ...إلخ! إنّه هذا ونقيضُه في آنٍ واحد، حتّى لقد يتعسّر على المرء أن يجاهر برأيٍ قاطعٍ فيه أمام هذه الحال التي هو فيها، والتي تُـشْبه الحال التي يحصل فيها ما يَنْعَـتُه الفقهاء بتكافؤ الدّليلين. لِنُـلْقِ إذن، وفي إسراعٍ، نظرة على تيْنِك الحركتين الدّافعتين اللّتين تُحرِّكان الاستشراق وتدفعانه نحو هذه أو تلك من الوجهتين المتعاكستين.

لا مِـرْية في أنّ الكثير ممّا غنِـمْناه من معرفة بتراثـنا الثّقافيّ والحضاريّ، خلال المائتيْ عام الأخيرة، إنّما مَـأْتاهُ ممّا أنجزهُ الرّعيل الأوّل من كبار المستشرقين الأوروبيّين على صعيد ميدان الإسلاميّات (= علم الدّراسات الإسلاميّة الذي أسّسوه ضمن مباحث الاستشراق)، منذ شُرِع في وضْع أساساته في الهزيع الأخير من القرن الثّامن عشر؛ فإلى المستشرقين أُولاء (ألمانًا وفرنسيّين وبريطانيّين ونيذرلانديين وهنغارًا وإسبانًا...) يعود الفضل في إِظْهارنا على كنوزٍ من تراثـنا ظلّت مغيّـبَـةً لمئات السّنين، وهي كناية عن آلاف المخطوطات العربيّة القديمة في العلوم الدّينيّة، والعلوم العقليّة، والآداب، واللّغة والنّحو والبلاغة، والعلوم الطّبيعيّة، والجغرافيا والتّاريخ... إلخ. والأهمّ من اكتشافها وجمْعها ونسْخ نُـسَخٍ من مخطوطاتها المتوفّرة في كبرى مكتبات جامعات أوروبا وتركيا وإيران ومِصْر وتونسَ والمغرب...إلخ، هي تلك الحلقات العلميّة الهائلة التي شُرِع فيها، منذ ذلك الحين، لتحقيق تلك المصادر على الأصولِ العلميّة للتّحقيق المرعيّة والمطبَّـقة، طويلًا، في دراسة التّراثين اليونانيّ والرّومانيّ، بل في ميدان دراسات العهديْن القديم والجديد.

انتقلت هذه التّقاليد العلميّة الاستشراقـيّة في تحقيق النّصوص، على الأصول المنهجيّة الفيلولوجيّة (المستقاة من التّاريخانيّة الألمانيّة)، إلى البلاد العربيّة وإلى بيئات الدّارسين العرب الذين تَلْمَذُوا للمستشرقين -إمّا مباشرةً أو على نحوٍ غيرِ مباشر- وأخذوا عنهم صنْعَة البحث العلميّ في مصادر التّراث. وتكفي المرءَ عودةٌ إلى كتابات الأجيال الأولى من النّهضويّين العرب في التّاريخ الثّقافيّ والتّراث الإسلاميّ للوقوف على ذلك الأثر العلميّ الكبير الذي أحدثه الاستشراق في الوعي الذّاتيّ العربيّ (= الوعي بالأنا الحضاريّة)، والذي كان معدّلُه يرتفع من جِيـلٍ لجِيـلٍ آخر: من الجيل الأوّل (فارس الشّدياق، بطرس البستانيّ، جمال الدّين الأفغانيّ...)، إلى الجِيل الثّاني (محمّد عبده، فرح أُنْطُون، جرجي زيدان...)، إلى الثّالث (طه حسين، أحمد أمين، مصطفى عبدالرّازق، محمّد حسين هيكل...)، إلى الرّابع (محمّد عبدالهادي أبوريدة، عبدالرّحمن بدويّ، محسن مهدي، إحسان عبّاس...)، إلى أجيال الحداثة منذ خمسينيّات القرن العشرين الماضي؛ أعني إلى اللّحظة التي اسْتَـتَبـَّتْ فيها هذه التّقاليد العلميّة في التّأليف العربيّ.

إذا كان السّياق السّابق يلْحظ وجـها مضيئا في الاستشراق وفي فتوحاته العلميّة المسلَّم بوجاهتها وخصوبتها المعرفيّة، فإنّ وجْها ثانيا (كالحا) للاستشراق يمكن أن يُلْحَـظ في أعمال عشرات -بل مئات- المستشرقين الذين لم يلتـزموا قواعد البحث العلميّ (من موضوعيّة، وحياد، وتسليم بأحكام التّاريخ وشروط التّطـوُّر...)، ولا كان العِـلمُ من بنود جداول أعمالهم، بل طفِقوا يؤسّسون رؤيةً إنكاريّة للمساهمة الحضاريّة والثّقافيّة العربيّة- الإسلاميّة، ويُشنِّعون على الإسلام دينا وتراثا وتجربةً تاريخيّةً. بَـدَا هؤلاء، ومنذ اللّحظة الأولى، في صورة مليشيا ثقافيّة مجنَّـدة لأداء أدوارٍ تخريبيّة ضدّ صورة العرب والمسلمين، وبَدَتْ مُعَـدَّةً لتقديم السُّخْرة السّياسيّة لدولها (الأوروبيّة) في لحظة تعبيرها عن نفسها في مشروعٍ كولونياليّ كان قد شرع في اشتباكه مع العالم العربيّ الإسلامي. هكذا أتى هذا النّوع المأجور من الاستشراق يؤدّي وظيفـته في تمكين المؤسّسة الكولونياليّة من حاجتها إلى بعض موارد المعرفة بعالم الإسلام؛ في زمنٍ لم تكن قد نشأت فيه مؤسّساتٌ استخباريّة تنهض بهذا الدّور. ولمّا كانت بلدان الاستشراق في حالة مواجهة مع عدوّ خارجيّ (المجتمعات العربيّة الإسلاميّة)، كان لا بدّ من أن يستبطن الاستشراق فكرةَ العدوّ فيعيد إنتاجها وإقامة «الأدلّة» عليها. وإذا كان الاستشراق الألمانيّ قد شذّ عن هذه الطّريق، فليس فقط لأنّه ظلّ ملتزما تقاليد العلم، بل -أيضا- لأنّه لم يرتبط بالمؤسّسة، بل لم يكن لدى بلده (ألمانيا) مشروعٌ كولونياليّ تجاه الشّرق وتجاه الإسلام.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثّاني بالدّار البيضاء وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب