2000/ 20 = 100
أنساغ
الاحد / 12 / ربيع الأول / 1444 هـ - 15:05 - الاحد 9 أكتوبر 2022 15:05
(1)
إضافة إلى السوقيَّة، والسطحيَّة، والجهل، والغثيان، والصُّداع، والصفاقة، والرداءة، والغباء، والدَّهمائيَّة، والسخف، والإسهال، والاستسهال، والرقاعة، والانقباض، والسَّفه، والحماقة، وغياب الدماثة، وقلة الأدب والأدب، والميوعة، والابتذال، والبلادة، والتفاهة، والعته، والرداءة، وانعدام الذوق، وانغلاق البديهة، وعطب الكياسة، إلخ، هناك كارثة كبرى (أيضاً) في وسائل التواصل الاجتماعي: إنها تجعلك مع الأيام أقل حساسيَّة أمام الفواجع والغضب والحنق، وأقل إنسانيَّة في ردة الفعل إزاء ما كان سيصيبك بالشَّلل في الأحوال الطبيعيَّة، و'القادم أخطر'.
كارثة وسائل التواصل الاجتماعي أنها تجعل من الانتحار، مثلاً، فعلاً عابراً فحسب. إنه شيء يتعلق بحدث في الفضاء الأزرق، وليس في لوعة صديق، أو ثكل أم، أو ترمل عاشقة، أو تيتُّم ذاكرة، أو جفاف نبع.
سيكون هناك 'لايك' في أسفل منشور كل منتَحِر (والكارثة هي أنه قد يكون أنا، بنفسي، ممن يضعون أحد تلك 'اللايكات'، مُمَنِّيَاً النفس أن المنتحِر سيراها وهو هناك، بينما أكون منهمكاً بقراءة منشور جديد بنصف عين، ونصف قلب).
(2)
في الحقيقة، حين يتأمل المرء مليَّاً في مقولة 'العفو عند المقدرة' فإنه سيكتشف أنها -- على عكس التسامي الذي تدعي -- أكبر دليل تشريعي وأخلاقي ممكن على وجاهة وضرورة فكرة الانتقام باعتباره حقَّاً، وواجباً، ومُعطى موضوعيَّاً، وضرورة منطقيَّة.
ما من إدارة خدٍّ هنا، إلا بمقتضيات الصفعة (في وجه المصفوع أولاً، أخيراً، وقبل كل شيء، وبعد كل الأشياء)، وسيمكن لسيدنا المسيح عليه السلام أن يأمر بما يشاء دوماً.
سأقول إن مفهوم 'العفو عند المقدرة' هو انتقام بحد ذاته من ناحية الفكرة (بمعنى أنه ليس مفصولاً عن معادلة السبب والنتيجة)، وإن 'العفو عند المقدرة' خيارٌ أخلاقيٌّ متاح للجميع، أما الانتقام فهو إلزام المبدأ في الأصل لكل فرد.
وسأذهب إلى القول إن العفو عمَّن أساء إليك يعني استعدادك وموافقتك الضمنيَّة لقبول الإساءة مرة أخرى، وأخرى، سواء من قِبله أو من قِبل غيره.
(3)
بمجرد أن يبدأ الحديث عن الحزن -- حزنك -- فإنه يتحول إلى موضوع من موضوعات الحياة العامة، والنقاش الشعبي المتداول، مثل مسائل من قبيل درجة الحرارة العالية في مسقط حتى في شهر أكتوبر، وارتفاع أسعار الطماطم والبصل، وثبوت سعر الخِيار والخس والفاصوليا الخضراء عند حدِّه منذ أسبوع، وغلاء إيجارات الشقق وعجلات السيارات، ونفوق الحيتان على شيء من الشواطئ التي تجلبها لنا القنوات الفضائيَّة.
بهذا يصير الحزن (مرة أخرى، وضروريَّة جداً: حزنك أنت وحدك) موقعاً من مواقع تبادل الاستياء، والمفاوضات، والبحث عن العزاء في تشاطر السخط، والاستياء، وتقليب وجهات النظر والمقاربات، وتبادل الخبرات، وسرد التجارب والمعارف، والوصول إلى حل وسط، ومحاولة التغلب على الضجر، كما لو أن حزنك يشبه أحزان الأسواق، والحوار البلدي العام إنْ في سوق الخضار والفاكهة أو في الاعتمالات الجماهيريَّة.
لكن الأمر ليس كذلك أبداً.
الآخرون مجرد مصادفة مؤسفة فحسب (وطبيعة أحزان معظمهم عابرة مثل طبيعتهم).
حزنك له ثلاثة أماكن لا رابع لها: قلبك، والورقة، والقبر.
(4)
أن تعيش الغد قبل أن يأتي، كما في الحالة التي كتب بها بودلير في تاريخ لا نعلمه على وجه الدقة؛ ولكنه ينبغي أن يكون في حوالي منتصف القرن التاسع عشر ما يلي: 'رجل يذهب إلى ملعب الرماية مصحوباً بزوجته. يصوِّب في اتجاه دمية ويقول لزوجته: أتخيَّل أنها أنتِ. يغمض عينيه ويصيب الدُّمية ثم يقول مقبِّلاً يد رفيقته: مَلاكي، يجب أن أشكرك على مهارتي' ('اليوميَّات').
حسن جداً، أليس ذلك ما سيسميه أفضل النُّقاد الأدبيين اليوم، في القرن الحادي والعشرين: ق ق ج، مُحْكَمَة ورائعة لا يمكن حتى لبودلير-- الذي ظهر قبل عصر القصة القصيرة جداً-- أن يكتب مثلها حتى في أفضل أشعاره هو القائل: 'كُن دائماً شاعراً حتى في النثر'؟
(5)
--أ--
'الأمم لا تنجِبُ العظماء إلا مرغمَة، شأنها في ذلك شأن العائلات. وغالباً ما تعمل قدر جهدها كي لا يكون لها عظماء. هكذا، يحتاج الرجل العظيم كي يكون، إلى قوَّة هجوميَّة أكبر من قوة التصدي الناشئة عن تضافر جهود ملايين الأفراد، و'لن يكون الرجل عظيماً إلا إذا انتصر على أمَّته جمعاء' (بودلير، 'اليوميات').
--ب--
'الأمَّة طريق التفافيٌّ للطبيعة من أجل الوصول إلى خمسة أو ستَّة رجال عظماء-- نعم، ثم الالتفاف حولهم بعد ذلك' (نيتشه، 'غروب الأوثان').
--ج--
في الأيام الأخيرة من حملة حرب العصابات التي شنَّها تشي غيفارا في بوليفيا كان الواقع القتالي على الأرض من ناحية التكافؤ العددي واللوجستي أن هناك ألفي جندي مدجج بخيرة السلاح والذخيرة ووسائل التواصل اللاسلكي، موصول بكافة أنواع الدعم براً وجوَّاً في مقابل عشرين من الثوار الذين تبقوا قبل المعركة الأخيرة، وهم كل ثائر حالته هي أنه إما أن يكون محدود التسليح والذخيرة، أو جائعاً، أو مريضاً، أو جريحاً، أو فاقد العزم، أو في غاية الإنهاك، أو ذلك كلَّه؛ فالمعادلة هي أن هناك، في ميدان العمليات، مائة جندي مقابل كل ثائر: 2000 / 20 = 100.
وقبيل المعركة النهائية (التي، في الحقيقة، كانت كميناً عديم الثغرات من كل الجهات) أرسل تشي أحد رفاقه، وهو دارييل آلاركون راميرس (بِنِغِنو)، وقد كان من الجرحى -- ليستطلع الموقف الميداني، فرجع هذا ليقول: 'إن الجنود يملؤون المكان مثل النمل'، فربت تشي على ذراعه الجريحة بصورة انتحاريَّة نبيلة قائلاً: 'لا أدري لماذا أشعر أننا على وشك خوض معركتنا الأخيرة'.
وحين وقع تشي في الأسر بسبب تعطل سلاحه أثناء اندلاع المعركة قال لجلاديه الذين سيعدمونه لاحقاً: 'ما كان ينبغي أن أدعكم تأسروني حيَّاً'؛ أي أنه لو لم يتعطل سلاحي لما تمكنتم من القبض عليَّ حيَّاً، فالعيب حدث في السلاح وليس في الشخص الذي يحمله.
وحين دخل الرقيب ماريو تيران إلى الكوخ الذي كان فيه تشي غيفارا الأسير مقيَّداً كي يطلق رصاصات الإعدام، هتف تشي به: 'أعرف أنك جئت كي تقتلني. أطلق النار أيها الجبان، فكل ما ستفعله هو أنك ستقتل إنساناً'!؛ أي أنك لن تستطيع قتل الفكرة التي يحملها ذلك الإنسان، ولا القضية التي يعتنقها، ويقاتل من أجلها.
--د--
أي إيضاح أو تعليق على ما ورد أعلاه سيكون فيه كل الإساءة لكل ما ورد أعلاه حول ما حدث في برهة من تاريخ هذه الأرض: 2000/ 20 = 100
إضافة إلى السوقيَّة، والسطحيَّة، والجهل، والغثيان، والصُّداع، والصفاقة، والرداءة، والغباء، والدَّهمائيَّة، والسخف، والإسهال، والاستسهال، والرقاعة، والانقباض، والسَّفه، والحماقة، وغياب الدماثة، وقلة الأدب والأدب، والميوعة، والابتذال، والبلادة، والتفاهة، والعته، والرداءة، وانعدام الذوق، وانغلاق البديهة، وعطب الكياسة، إلخ، هناك كارثة كبرى (أيضاً) في وسائل التواصل الاجتماعي: إنها تجعلك مع الأيام أقل حساسيَّة أمام الفواجع والغضب والحنق، وأقل إنسانيَّة في ردة الفعل إزاء ما كان سيصيبك بالشَّلل في الأحوال الطبيعيَّة، و'القادم أخطر'.
كارثة وسائل التواصل الاجتماعي أنها تجعل من الانتحار، مثلاً، فعلاً عابراً فحسب. إنه شيء يتعلق بحدث في الفضاء الأزرق، وليس في لوعة صديق، أو ثكل أم، أو ترمل عاشقة، أو تيتُّم ذاكرة، أو جفاف نبع.
سيكون هناك 'لايك' في أسفل منشور كل منتَحِر (والكارثة هي أنه قد يكون أنا، بنفسي، ممن يضعون أحد تلك 'اللايكات'، مُمَنِّيَاً النفس أن المنتحِر سيراها وهو هناك، بينما أكون منهمكاً بقراءة منشور جديد بنصف عين، ونصف قلب).
(2)
في الحقيقة، حين يتأمل المرء مليَّاً في مقولة 'العفو عند المقدرة' فإنه سيكتشف أنها -- على عكس التسامي الذي تدعي -- أكبر دليل تشريعي وأخلاقي ممكن على وجاهة وضرورة فكرة الانتقام باعتباره حقَّاً، وواجباً، ومُعطى موضوعيَّاً، وضرورة منطقيَّة.
ما من إدارة خدٍّ هنا، إلا بمقتضيات الصفعة (في وجه المصفوع أولاً، أخيراً، وقبل كل شيء، وبعد كل الأشياء)، وسيمكن لسيدنا المسيح عليه السلام أن يأمر بما يشاء دوماً.
سأقول إن مفهوم 'العفو عند المقدرة' هو انتقام بحد ذاته من ناحية الفكرة (بمعنى أنه ليس مفصولاً عن معادلة السبب والنتيجة)، وإن 'العفو عند المقدرة' خيارٌ أخلاقيٌّ متاح للجميع، أما الانتقام فهو إلزام المبدأ في الأصل لكل فرد.
وسأذهب إلى القول إن العفو عمَّن أساء إليك يعني استعدادك وموافقتك الضمنيَّة لقبول الإساءة مرة أخرى، وأخرى، سواء من قِبله أو من قِبل غيره.
(3)
بمجرد أن يبدأ الحديث عن الحزن -- حزنك -- فإنه يتحول إلى موضوع من موضوعات الحياة العامة، والنقاش الشعبي المتداول، مثل مسائل من قبيل درجة الحرارة العالية في مسقط حتى في شهر أكتوبر، وارتفاع أسعار الطماطم والبصل، وثبوت سعر الخِيار والخس والفاصوليا الخضراء عند حدِّه منذ أسبوع، وغلاء إيجارات الشقق وعجلات السيارات، ونفوق الحيتان على شيء من الشواطئ التي تجلبها لنا القنوات الفضائيَّة.
بهذا يصير الحزن (مرة أخرى، وضروريَّة جداً: حزنك أنت وحدك) موقعاً من مواقع تبادل الاستياء، والمفاوضات، والبحث عن العزاء في تشاطر السخط، والاستياء، وتقليب وجهات النظر والمقاربات، وتبادل الخبرات، وسرد التجارب والمعارف، والوصول إلى حل وسط، ومحاولة التغلب على الضجر، كما لو أن حزنك يشبه أحزان الأسواق، والحوار البلدي العام إنْ في سوق الخضار والفاكهة أو في الاعتمالات الجماهيريَّة.
لكن الأمر ليس كذلك أبداً.
الآخرون مجرد مصادفة مؤسفة فحسب (وطبيعة أحزان معظمهم عابرة مثل طبيعتهم).
حزنك له ثلاثة أماكن لا رابع لها: قلبك، والورقة، والقبر.
(4)
أن تعيش الغد قبل أن يأتي، كما في الحالة التي كتب بها بودلير في تاريخ لا نعلمه على وجه الدقة؛ ولكنه ينبغي أن يكون في حوالي منتصف القرن التاسع عشر ما يلي: 'رجل يذهب إلى ملعب الرماية مصحوباً بزوجته. يصوِّب في اتجاه دمية ويقول لزوجته: أتخيَّل أنها أنتِ. يغمض عينيه ويصيب الدُّمية ثم يقول مقبِّلاً يد رفيقته: مَلاكي، يجب أن أشكرك على مهارتي' ('اليوميَّات').
حسن جداً، أليس ذلك ما سيسميه أفضل النُّقاد الأدبيين اليوم، في القرن الحادي والعشرين: ق ق ج، مُحْكَمَة ورائعة لا يمكن حتى لبودلير-- الذي ظهر قبل عصر القصة القصيرة جداً-- أن يكتب مثلها حتى في أفضل أشعاره هو القائل: 'كُن دائماً شاعراً حتى في النثر'؟
(5)
--أ--
'الأمم لا تنجِبُ العظماء إلا مرغمَة، شأنها في ذلك شأن العائلات. وغالباً ما تعمل قدر جهدها كي لا يكون لها عظماء. هكذا، يحتاج الرجل العظيم كي يكون، إلى قوَّة هجوميَّة أكبر من قوة التصدي الناشئة عن تضافر جهود ملايين الأفراد، و'لن يكون الرجل عظيماً إلا إذا انتصر على أمَّته جمعاء' (بودلير، 'اليوميات').
--ب--
'الأمَّة طريق التفافيٌّ للطبيعة من أجل الوصول إلى خمسة أو ستَّة رجال عظماء-- نعم، ثم الالتفاف حولهم بعد ذلك' (نيتشه، 'غروب الأوثان').
--ج--
في الأيام الأخيرة من حملة حرب العصابات التي شنَّها تشي غيفارا في بوليفيا كان الواقع القتالي على الأرض من ناحية التكافؤ العددي واللوجستي أن هناك ألفي جندي مدجج بخيرة السلاح والذخيرة ووسائل التواصل اللاسلكي، موصول بكافة أنواع الدعم براً وجوَّاً في مقابل عشرين من الثوار الذين تبقوا قبل المعركة الأخيرة، وهم كل ثائر حالته هي أنه إما أن يكون محدود التسليح والذخيرة، أو جائعاً، أو مريضاً، أو جريحاً، أو فاقد العزم، أو في غاية الإنهاك، أو ذلك كلَّه؛ فالمعادلة هي أن هناك، في ميدان العمليات، مائة جندي مقابل كل ثائر: 2000 / 20 = 100.
وقبيل المعركة النهائية (التي، في الحقيقة، كانت كميناً عديم الثغرات من كل الجهات) أرسل تشي أحد رفاقه، وهو دارييل آلاركون راميرس (بِنِغِنو)، وقد كان من الجرحى -- ليستطلع الموقف الميداني، فرجع هذا ليقول: 'إن الجنود يملؤون المكان مثل النمل'، فربت تشي على ذراعه الجريحة بصورة انتحاريَّة نبيلة قائلاً: 'لا أدري لماذا أشعر أننا على وشك خوض معركتنا الأخيرة'.
وحين وقع تشي في الأسر بسبب تعطل سلاحه أثناء اندلاع المعركة قال لجلاديه الذين سيعدمونه لاحقاً: 'ما كان ينبغي أن أدعكم تأسروني حيَّاً'؛ أي أنه لو لم يتعطل سلاحي لما تمكنتم من القبض عليَّ حيَّاً، فالعيب حدث في السلاح وليس في الشخص الذي يحمله.
وحين دخل الرقيب ماريو تيران إلى الكوخ الذي كان فيه تشي غيفارا الأسير مقيَّداً كي يطلق رصاصات الإعدام، هتف تشي به: 'أعرف أنك جئت كي تقتلني. أطلق النار أيها الجبان، فكل ما ستفعله هو أنك ستقتل إنساناً'!؛ أي أنك لن تستطيع قتل الفكرة التي يحملها ذلك الإنسان، ولا القضية التي يعتنقها، ويقاتل من أجلها.
--د--
أي إيضاح أو تعليق على ما ورد أعلاه سيكون فيه كل الإساءة لكل ما ورد أعلاه حول ما حدث في برهة من تاريخ هذه الأرض: 2000/ 20 = 100