أعمدة

نوافذ.. سماسرة "الخصوصي" وسرطان التعليم

هدى حمد
 
هدى حمد
كلما زادت حاجتنا للدروس الخصوصية في مختلف المراحل الدراسية في أي مجتمع من المجتمعات، تكشف لنا أننا أمام عدّة مصائب، أولها: أننا نربي جيلا مشلولا بالمعنى المعرفي، وثانيها: أننا نعيش في مجتمع يميلُ للمباهاة بهذا المرض السرطاني المُعدي -كأنّه الطبيعي والعادي- ضمن بهرجة اجتماعية تمنحُ إحساسا زائفا برفع مستوى الأبناء، وثالثها: أننا أمام بنية تعليمية ينخرُ العفن جذورها، الأمر الذي يسمح لسماسرة التعليم الخصوصي أن يتمتعوا بتفشي سوقهم السوداء، كما يتمتعون بالثروات التي يحصدونها لقاء ساعات إضافية خارج أسوار المدرسة.

لنكن صادقين: بات كل واحد منا -ممن لديه موقف من هذا المرض المتفشي- يضعُ يده على قلبه ويقول مُشككا في نفسه: 'هل أنا مُقصر عندما لا أرسل أبنائي لدروس الخصوصي؟'

لم تكن الدروس الخصوصية على أيامنا إلا للطلبة الكسولين الذين يُعانون من صعوبات في التعلم، لكننا في زمن المعجزات التعليمية، صرنا نرى طلبة من الحلقة الأولى يذهبون زُرافات للدروس الخصوصية، ويصرفُ الأهالي المال حتى على أكثر أبنائهم نباهة وذكاء!

وأمام هذه الكوميديا السوداء تصبح هذه الأسئلة مشروعة: هل المعلم بنصف ضمير؟ أم أنّ الأعباء التي تتراكم عليه عاما بعد عام تصرفه عن مهمته الأسمى؟ هل الأساتذة ليسوا مُهيئين بصورة جيدة لشرح دسامة المنهج، أم يسيرون على نهج النصيحة التي تقول: 'قصر في الحصّة، عوض في الدرس الخصوصي؟' فذلك يرفع راتبه -المتدني- لأضعافٍ مُضاعفة!

وعلى ذكر الرواتب، هل يمكن أن تكون سببا في ظل فُحش الغلاء الذي نكابده؟! وما المخاطر المتوقعة من تجمعٍ كهذا في بيت المعلم، لأعمار صغيرة أو مراهقة؟

للأسف لا توجد لدينا دراسات مُتخصصة تكشفُ لنا عدد الطلبة الذين يتلقون هذه الخدمة من مختلف المراحل الدراسية، كما لا توجد دراسات تكشف لنا ما قد ينفقه العُماني على أبنائه لقاء هذه الخدمة! ولكن بمرأى العين نستطيع أن نقول خلال أقل من عقدين وحسب من الزمان، تحول الأمر لظاهرة مُرعبة، فمن النادر الآن أن تجد بيتا لم يمر طالبٌ فيه معبر الخصوصي!

سماسرة الخصوصي يخلقون طبقات اجتماعية جديدة بين من يقدر أن يدفع وبين من لا طاقة له بذلك! بعضهم سماسرة شنط مُتنقلة من ظفار حتى مسندم. بعضهم قد غادر البلاد وانتهت سنوات خدمته، ولكنه يُعلم عبر الأونلاين، فالخلل الحاصل في منظومة التعليم هو من يصنعُ قيمتهم وثرواتهم، فهم يصعدون على أكتافِ تعليمٍ متراخٍ وجيلٍ اتكالي وأولياء أمور ضجرين من متطلبات المدرسة اليومية، يصعدون أكتاف مُعلم مسلوب الإرادة!

في جوّ من التدريس الجماعي يُدفعُ للمعلم مبلغ قد يتراوح بين خمسة إلى عشرة ريالات في الساعة الواحدة، أمّا المعلم المحجوز بشكل انفرادي فيدفع له رقم مضاعف. لكن الأشد مرارة أن يكون مُدرس المادة بنصف ضمير في الصف، ومعلم خبير في دروس المساء! يشتغل بعضهم على بيع 'المُلخصات'، وقد تُفلت أسئلة الامتحانات من عقالها بسبب شهامة السمسار الشاطر!

لكن هل يمكن لهذا السؤال الساذج أن يُوضح لنا شيئا؟: 'لماذا يفهم الطالب في الدروس الخصوصية ولا يفهم في صفه الدراسي اليومي؟ وهل الطلاب الذين يذهبون إلى الدروس الخصوصية أكثر تميزًا ممن لم يذهبوا أصلا؟'

قرأتُ مرّة أنّ الدروس الخصوصية هي بداية انهيار التعليم في أي بلد لأنّه يُؤكد نظرية أنّ التعليم ينهض على هدف يتيم وبائس وهو تجاوز الامتحانات لا أكثر.

بعض الدول تسنُ مخالفة لمزاولة نشاط الدروس الخصوصية ولا أعرف إن كان هذا معمول به لدينا، ولكن المُؤكد أن الأزمة لن تنتهي بتشديد الرقابة على السماسرة وإنّما بتجويد التعليم وترميم ثغراته، لتغيير ثقافة المجتمع تجاه سرطان التعليم هذا.

لقد تضاءلت فكرتي الجاهزة بأن الطبقة المخملية هي التي تصنع هذه الفقاعة، فالطبقة المتوسطة تفعل ذلك باستماتة شرسة، مُراهنة على أن نسب أبنائها العالية ستُغير نسيج الحياة مستقبلا، ولذا تستمر الدروس الخصوصية وتُفرخُ كلّ عام المزيد من مصائدها لأننا ببساطة جميعا متواطئون: الطالب والأسرة والمعلم والمنظومة التعليمية.