أعمدة

رهن إشارة الإرادة

فوزية الفهدية
 
فوزية الفهدية
حين ينقّب المنجّمون عن الذهب؛ فإنهم يحفرون عميقاً نحو الأسفل والداخل، فلا كنز يطفو على السطح، ولم يسبق لأحدهم أن وجد الأثمان بسهولة، وعندما يهمّ حفّار آبار النفط بالحفر؛ فهم يعلمون ما تخبئه الأرض في باطنها، وبينما تطرح النبتة ثمارا وأزهارا فإنها تحاول إخفاء ما تحمل، كما تختبئ أسرارنا الكبيرة داخل القلوب، حتى باتوا يقولون ويرددون سرّك في بئر.

وبإسقاط ذلك على التفكير، وبالتوجه نحو الداخل العميق جداً لمبتدأ الفكرة وصناعتها، والتي يصنعها العقل للتفكير والتوجه بها على نحو مستقبلي، فإنها غالبا ما تنطوي بإرادة من الشخص، ورهن إشارة ولو ضئيلة من تلك القوة الكامنة، وبأمر داخلي نابع من الداخل، لينطلق نحو الهدف غير منتظر لأن تأتي به السنين.

لذا بلا شك فإن تحفيز التفكير وغيره؛ يكون بتحريك تلك الإرادة الداخلية، كسلطان يلقي الأوامر متى تم تحفيزها، فكثيرا ما نستخدم في حياتنا وأحاديثنا الأكثر جدية، لفظ: بقرار إرادي وبمحض إرادتنا، وبفعل الإرادة، فيطوّق اللفظ هالة من الفخامة الصوتية تشعر بقوتها المعنوية، وكومضة فكرية بلا افتعال، وعبر توجه منطقي لنبش تلك الأفكار في العمق؛ لا بدّ من تحديد المصدر الدقيق لتلك الإرادة، وإيجاد المنجم الكامن لتلك الإرادة.

وحيث إن الإنسان في مكوناته الثلاثة ' جسدا، وعقلا ونفساً ؛ فأين هي إرادة الشخص يا ترى من تلك القامات الكبرى المكونة للإنسان؟

هل للإرادة مكون مادي نستطيع أن نحدده ملموسا،كأن نقول هو ضمن أجزاء القلب؟ هل الإرادة قرار العقل وتفكيره ورحلته مع عالم الأفكار من المجهول الى المعلوم؟ أم أن الإرادة أعمق من ذلك فتكون مع نفس الإنسان اللامرئية والدفينة ؟

إن كانت الإرادة نابعة عن جزء محدد في الجسد؛ فإنه وبلا شك من الممكن تحفيزه كيميائياً وفيزيائياً، وبتدخلات طبية ستطالها يد العلم عاجلاً أم آجلاً، فنكون بذلك استطعنا أن نستحثّ جسد الإنسان وعقله لأن ينجز ما هو متوقع منه وأكثر.

أم أن تلك الإرادة هي كالفكرة تعطي إشارة محفزة لعصبونات الدماغ والتوصيلات الحسية؟ فيكون بذلك موقعها الدماغ والتوصيلات الحسية، فتكون هناك على المنبر تعطي الأوامر، وهي البداية لكل عمل ينوي الإنسان عمله بإرادة.

أم أن العقل لا يملك تلك الصلاحية؟ والتي تدفعه لأن يكون الآمر والناهي ليفكر بنحو إبداعي، بل تجده عاجزا إن لم تنطلق تلك الإرادة من سباتها العميق، لتكون حاضرة ومتربعة عرشها لتدير مملكتها، فيكون منها منبع القرارات.

لو كان العقل كذلك منبعا للإرادة لما وجدنا الكثير من العقول المكتملة فسيولوجيا عاجزة عن الإقدام ولو خطوة واحدة؛ نحو تحويل مكامن الذكاء الى قدرات واضحة للعيان، عبر ابتكارات تعبّر عن المقدرات الكامنة لأصحابها.

إلا أننا رغم ذلك نجد العقل راكدا ينتظر الإرادة القوية أن تفيض لتدفع بالعجلة قليلا للانطلاق والتدحرج نحو التفكير.

فأين هي الإرادة ليسهل تحفيزها؟ لتختصر المسافات الطويلة والأزمان التي ننتظر فيها أن تتحفز على نحو تلقائي، متى ما أصبحت الظروف أكثر ملائمة، وحين تكون الأفكار أكثر اختمارا وجاهزية للانطلاق، وحيث إن النفس المرتبطة بجسده هي محرك الإنسان ومركزه، فهي من يصدر منها الأوامر لتحرّك الإنسان وتحييه.

فإن تلك الإرادة نابعة من النفس في داخل الجسم، وهي الموجه الأول للقرارات التي تتجاوز ردات الفعل الفطرية، والسعي نحو احتياجات الإنسان المادية، بل إن تحقيق الأهداف بحاجة الى دفعة حقيقية من النفس، لأنه في أصل الأمر وحقيقته بحاجة الى تلبية احتياجاته الرئيسية الفسيولوجية وتحقيق الأمان ليحيا، أما تلك الأهداف والغايات الأخرى فهي في أعلى قمة هرم الاحتياجات، وبحاجة الى أمر داخلي منبعه نفس الإنسان المحرك الأول لحياته، وسرّ بقائه على قيد الحياة.

فليحيا الإنسان ويبقى على قيد الحياة هناك احتياجات أساسية للحياة تتم تلبيتها على نحو فطري، ولتجعل الإنسان يتحرك للإبداع بإرادة منه؛ لا بدّ أن يشعر بأنها حاجة أساسية للحياة، الإخفاقات المؤلمة تحرك إرادة الإنسان ذاتياً للإبداع، وتهيئ قدراته العقلية الكامنة للإبداع، لكن ذلك سيطول معه الأمر، وسيكون للإنسان قائمة من الخسائر النفسية، أو حتى المادية من جرّاء الفشل المتتالي، والذي قد يؤثر سلباً في المنظومة التطورية، لذا فنحن بحاجة الى معرفة سرّ الإرادة وتحفيزها لأنها المتحكم الأول والأساسي، لاستنهاض القدرات الكامنة لدى الإنسان، فهي من ستوقد الشعلة في قلبه، فيستنير بها، ليبدأ الطريق بعد أن كان يظن بأنها ستبقى مطفأة في طريق أحلامه على الدوام.

ولأنّ الإرادة طائر حر طليق في نفس الإنسان، الا أنها رغم ذلك محتجزة ورهينة أقفاص اتهامات الغير؛ بأنها صعبة المنال وبأنها حرة الى الحدّ الذي لا يملك زمامها سوى صاحبها، الا أن لكل مغلاق مفتاحا، فما هو مفتاح تحريك الإرادة ياترى؟

ومن بين كل أساليب تقوية الإرادة وتحفيزها؛ وبإسقاط تجارب الغير، وعبر تأويل خاضع للمنطقية، ومحاولة التفسير والمقارنة العادلة، وبافتراضات معززة للمعنى المقصود، وعبر الملاحظة المتأملة التي يلجأ لها البعض عبر قصصهم، تكون تقوية الإرادة عبر التوجيه مرة بعد مرة وخطوة تلو الأخرى، أو أننا نجد أن توفر عنصر الألم؛ لتحريك الإرادة نحو الإبداع.

وكما ذكرنا سلفاً أننا لتحفيز الإرادة فنحن بحاجة الى هدف ضروري للحياة من الواجب تحقيقه، الا أن أصحاب الإرادات القوية هم من يخلقون تلك الأهداف لتحفيز إرادة الحياة من حولهم، لتسير منظومة التطور قدما نحو الأمام، فهناك من يحفّز إرادة الغير للنجاح، الا أن العظماء وحدهم من يخلقون الإرادة ذاتها.

تحفيز الإرادة أشبه ما يكون بالاعتناء بالبذرة، وتوفير كل مقومات الحياة التي تحتاجها لتنمو وتكبر، وفق وتيرة تتلاءم معها ومع تركيبتها الفسيولوجية، لا نملك بدًا ولا قدرة على تنشيطها بقدر يفوق معدل نموها الفطري، وكذلك الإرادة لا نملك أن نقتلعها من مكانها لتحفيزها قسرياً، وكل ما نملكه هو توفير سبل ومقومات كفيلة بأن تجعلها تنهض بنفسها ذاتيا، وبدون أي تدخلات قد تفسدها.

الا أننا الآن في سباق مع الزمن، وكل شيء قد يتغير على نحو متسارع، فلا بد من تقنيات تحرك تلك الإرادة حقا، ليصل الفرد لأعلى ما يمكن تحقيقه، وبرغبة ذاتية منه، وبقناعة تامة بمقدرته وأثر ذلك على نفسه، وكما يلجأ البعض الى الحاضنات بأنواعها لتحفيز النمو عبر ضخ أكبر وأسرع، وسط علاجات مطورة للتحسينات؛ فكذلك الإرادة للإبداع أيضا بحاجة الى حاضنة كفيلة بالإرادة، والتي ما إن تتحفز حتى تنطلق كوامن الفرد وقدراته.