أعمدة

مواد الدهشة الخام

 
الدهشة قادرة على أن تخطفك من لحظتك الآنية، وأن توقف الصورة على ذلك المشهد تحديدا، الذي ولّد لديك ذلك الشعور الجميل، ويدفعك لأن ترتسم على ذهنك علامات التعجب، ذلك الانتباه المصحوب بالفجائية المباغتة، والذي يستدعي تكثيف التركيز، أو باعتبار الدهشة نقلة على نحو غير متوقع على مستوى الفكرة، أو أنها وبتصوّر عام هي كل ما خرج عن السياق ولفت انتباهك.

لتحقيق تلك الدهشة حقيقة لابد من الإمساك بالخيط من مبتدأه، إلى أن نصل إلى بؤرة وجوهر الدهشة،

فمتى تحدث الدهشة يا ترى؟ ومن يندهش الإنسان؟ هل هو شعور حيال كل ما هو جديد؟ أم أنها تحدث بسبب تلك الأشياء الغريبة والخارجة عن المألوف؟ أو أن يكون شيئا نادرا! أو هو المجهول! وكل ما خرج عن نطاق معرفتك! أو أن تكون على النقيض من ذلك! فيخالك الشعور بالدهشة حينما تجد الإجابة عن تساؤلات، وتحصل على ضالتك من رحلات بحثك، متّقد الشعور مليئا بالأسرار، تشحذ حواسك فتكون في أوج توهجها، وهل الدهشة هي الشك أم اليقين؟ أو الوقوف على الخط الفاصل بينهما وعلى تلك الشعرة الرفيعة؟ أم الدهشة مرهونة بالبدايات أو النهايات؟ وكل ما يكون محاطا بالتجليات الإنسانية، وكل ما هو قادر على شحذ الحواس، والوصول بها إلى أعلى مستويات الرفاهة والاستلطاف من سمع للفن أو مشاهدة للجمال، فيخفق له القلب، أو أن الدهشة تكون في خفقان القلب ذاته، فتنتقل إلى مدارات مغايرة، وعلى نحو أسرع يكسر الرتابة والجمود والنمطية، فتجد أن العقل يتطور وفق وتيرة متتابعة متدرجه، إلى أن تحل عليه الدهشة، فإنه سينتقل بمستوى قدراته انتقالات فكرية كبيرة.

وعبر تلك المدارات تتلخص حياة الإنسان الشعورية برمّتها، حيث إن خبراء التربية صنفوا تلك المدارات حسب حالة العقل وتقبّله للمعطيات من حوله، وذلك بأن الدماغ وحالته يمران بتقلبات عديدة، بداية بموجات النوم العميق، وموجات الاسترخاء والتأمل، وموجات حالة العقل الواعية، ومرحلة التركيز، والذي يتم فيه التعلم الحقيقي النشط، والذي يكون وفق مدارات ثيتا، المتركزة ما بين بث موجات كهرومغناطيسية من المخ، من ٤-٧ أشواط في الثانية، حسب ما أوردته 'جين ماري ستاين ' الكاتبة والمفكرة الأمريكية، الخبيرة بمهارات التعلم السريع وتفعيل القدرات الذهنية، في كتابها 'كيف تضاعف قدراتك الذهنية'.

وبذلك يتضح جليا وبلا أي لبسٍ، بأن الدهشة تفوق كونها تسترعي الانتباه، وتوقظ الشغف وتجلب المزيد من التركيز، فقد تكون الدهشة هي التعلم ذاته، حيث إنها تستحث إرادة الشخص الداخلية، فهل تكون الدهشة بذلك هي التعلم بحد ذاته؟ وإن كانت كذلك، فما هي الآلية التي سينتقل بها الفرد من مستوى السبات الذهني إلى مرحلة التوقد، ليكون على استعداد تام للتعلم، لكي لا يركن للتلقائية، بل أننا نصنعها وبإرادة متيقنة من تحقق النتيجة، فمن غيرها الدهشة! قادرة على أن تنقلك من الرتابة إلى التوقّد، ومن السبات الفكري إلى تركيز الذهن، ومن تشتت الذهن إلى تركيزه، ومن الضجر إلى الشغف، ومن الجهل إلى البحث عن الإجابات، ومن ضحالة الإنتاجية إلى غزارتها.

وإن كانت الدهشة تتجلى في كونها مرتبطة بما هو جديد وغريب ونادر ومجهول أو حتى معلوم، وخروج عن السياق المألوف، ومجاوزة التوقعات، والفجائية المباغتة، والانطلاقة عبر منعطف خطِر للغاية، إلا أنها تظل في جوهرها تستحث الإرادة، وكما يتضح من مقولة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: 'ربّ هِمّة أحيت أمة'، مما يجدر بعدم ترك أمر الدهشة للتلقائية، لكي لا ترد إلينا النتائج على نحو تلقائي أيضا، فنحن نتعامل مع الدهشة ككائن يزورنا على نحو غير متوقع، فتكون النتائج أيضا حتميا على غير المتوقع، بل أن السعي إلى صناعة الدهشة ليست استجلابا للانتباه فقط، بل هو مخاطبة الإرادة للسير قدما نحو التعلم.

ولصناعة الدهشة علينا أن نمسك بجوهرها، بدون الالتفات إلى خواصها الممتدة اللامتناهية، فكيف لنا أن نخلق الدهشة، كدهشة رسّام بعدم اكتمال لوحته، وباستخدام الحيلة التي نستجمع فيها كل ما يستحث الدهشة بداخلنا ويعزز شعورنا بها، لنعود متّقدي الدهشة على الدوام كسنوات طفولتنا الأولى، وكدهشة فلاسفة يجرون خلف الإجابات، وكما يقول أرسطو: 'إن ما دفع الناس في الأصل، وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة'، فكيف تصنع من تلك الدهشة الانتباه المصحوب بالفجائية المباغتة والتركيز؟ وتلك النقلة ما بين السبات الفكري إلى التعلم والانطلاقة خلف التساؤلات.

إلا أن الدهشة تظل كغيرها من الأمور النفسية، التي لا يكون الطريق إليها واحدا لا غير، بل أن تعدد الطرق من أساسيات صناعة الدهشة نفسها، وذلك عبر الإمساك بداية بإحدى خواصها مع محاولة تحقيقه، كأن تمنحهم الفرصة للشعور بالدهشة، وحيث إن الفرصة تأتي بغتة فهي صانعة للدهشة، فكما يقول خليل مطران: 'الفرصة ليس لها إلا شعرة واحدة'، سواء كان حداثة في الفكر، أو غرابته، أو تحفيز الذهن عبر التساؤلات والتكرارات، مع إبصار نقطة البدء ونقطة الوصول، على أن تكون الدهشة محفوفة طوال خط المسير، وحقيقة الأمر أن الاندهاش لا تقع المسؤولية الكاملة فيه على العنصر المدهش فقط، بل أن فطرة الإنسان منذ الطفولة قد جُبِلت على الدهشة، فهو يظل مندهشا من كل شيء حوله، متسائلا حول كل الأمور، إلى أن يكبر ويحيط نفسه بالاعتيادية، ويكف عقله عن طرح التساؤلات لقناعته باكتفائه المعرفي، ورضاه بما تحقق من قدرات ومعارف، وهو لا يدري بذلك بأنه يتراجع متقهقرا للوراء في عالم متسارع على نحو تطوري بلا توقف، يحقق القفزات ولا يسير بقدم واحدة وبتسلسل لا يمكن التنبؤ به.

وحيث إن 'أطول مسافة في الرحلة هي اجتياز العتبة' كما يقول قارون، فأتمنى أن يكون تصوري عن صناعة الدهشة قد اجتاز تلك العتبة بنجاح، وأن ننتقل خطوة من الاندهاش المباغت إلى تحقيق وصناعة دهشة مدروسة، وكأي صناعة أخرى يتم فيها دمج المواد الخام لصناعة شيء ذي قيمة، يمكن وعلى مستوى تطوري متقدم من صناعة الدهشة، عبر ما تملكه من خبرات للدمج بينها ليس لصناعة شيء ذي قيمة فحسب، بل لصناعة القيمة ذاتها.