أعمدة

خوارزمية التفكير

فوزية الفهدية
 
فوزية الفهدية
استخدام العقل بتركيبته الفسيولوجية، وعملياته الحيوية البالغة الدقة، التي تهدف بالدرجة الأولى وكأسمى أهدافها اختصار الوقت والجهد والطاقات، لتناقص المسافات بين القارات، ولزيادة التواصل مع الشعوب الأخرى، وضمن الفرد سنين عديدة من حياته كمؤشر لزيادة متوسط العمر، وحافظ على كثير من طاقاته لكي لا تتبدد في الأعمال المنهكة التي لا تدع له بعدها فرصة للإنتاجية الفكرية.

فتفرغ الإنسان وبنسبة أكبر لصناعة مزيد من تلك التطبيقات المتنامية والمتسارعة الإصدار والتحديث، فاختزلت بذلك مزيدا من الجهود والطاقات والوقت.

ومما يبدو عليه الأمر، فإن الأمر مستمر في سعيه نحو الاختزالات حتى باتت التطبيقات التقنية تفعل عنا الكثير مما كان لا يتم إلا بصنيع أيدينا وقضاء الوقت الطويل لإنجازه وإنفاق الجهد لتحقيقه، إلا أن باتت الكثير من الأشياء مختصرة مختزلة في أيقونات بسيطة تعرفها جيدا وتميزها تقوم بما كنا نكدح لأجله.

صنع الإنسان كل ذلك عن طريق إعمال العقل، والذي تطور عبر الزمان والحضارات منذ اكتشاف النار إلى اختراع الكتابة بكافة مراحلها التطورية مرورا بالصناعات الخزفية والنحاسية إلى العصر الحديث، حيث ظهر التمدن والتجمعات البشرية وإلى استحداث ما تمخضت عنه الأقمار الصناعية والإنترنت.

لكن ماذا لو كانت هناك تطبيقات تقوم محل العقل وأفكاره وعاداته حقا، فتصبح قادرة على صناعة الفكرة وتقليد العقل في كل عملياته.

وذلك عبر تخزين كل المدخلات، من أفكار ومشاعر حسية وصور وأشكال، ومن ثم إعادة الربط فيما بينها، وفق معالجة منطقية عبر فصي الدماغ الأيمن والأيسر، والذي يكون لكل منهما وظائفه الخاصة، حيث يتصف الجانب الأيسر بالمنطقية والتحليل، وعلى الجانب الأيمن يكون أكثر كلية، ومقدرة على استيعاب المدركات الحسية من عواطف وخيال، إلا أنه رغم ذلك يعمل بتناغم تام لا انفصال ما بين أجزائه، فتتداخل فيه كافة العمليات العقلية من تفكير وإبداع وتركيز وتخيل وتذكر ونسيان.

ماذا لو حقا كانت هناك برامج محوسبة تفكر بدلا عن عقلك القابع في رأسك؟ والذي يملأ تجويف الجمجمة، غارقا في سائله الشوكي، محتضنا نفسه عبر تلافيف كثيرة جدا، يتضمن عددا كثيرا جدا من الخلايا العصبية، محاطا بقشرة مخية بالغة في الرقة.

ماذا سيكون واقع العقل؟ وما هي المهمات التي ستتبقى له؟ بلا شك ستكون الإجابة بديهية، وأن العقل سيكون متفرغا لصناعة المزيد من التطبيقات التقنية، فيطورها بما يعادل قواه العقلية أو حتى يفوقها.

قد لا يتفوق العقل التقني على صنّاعها العباقرة، لكنها وعلى نحو حتمي ستتفوق على أولئك ممن يستخدمون عقولهم بواقعها الفطري، وبقدراته المجبول عليها.

بعد أن يحل العقل التقني المحوسب محل عقل الإنسان، فيقوم باختصار العمليات العقلية بعدد من الخوارزميات التي تقوم في مجملها على التفكير نيابة عن عقل الإنسان، فتكون قادرة على صناعة الفكرة وتطويرها، وحل المشكلات والربط بين المعطيات على نحو يحاكي العقل، فإن عقل الإنسان سيكون حينها لديه متسع من الوقت أن يقوم بمزيد من التطبيقات المتطورة، التي تحاكي المعالجة الفكرية الحيوية، لكنها وفق كودات وخوارزميات دقيقة جدا، تتم بعمل متسلسل ومتتابع، لنعود ونكرر التساؤل مجددا، وبعد أجيال عديدة من تحديثات لأنظمة التفكير، ثم ماذا بعد ذلك؟

لترحل فيها التطورات وتجفل مخيلات الخيال العلمي لتطوف غزو الفضاء والروبوتات المشابهة للإنسان، ثم ماذا بعد ذلك.. وبعد سلسلة من الأجيال، ثم ماذا بعد ذلك؟

سيعود العقل مجددا ليبحث عن فطرته التي نسيها، يعود لصناعة الإنسانية من جديد، ليعود بذلك بعد رحلة بعيدة ممتدة إلى التساؤلات الداخلية التي كانت بادئ ذي بدء يعرفها جيدا، من هو الإنسان؟ ومتى يكون الإنسان حقا يتحلى بصفة الإنسانية؟ وما هي الصفات التي وإن فقدها لن يتصف بعدها بصفة الإنسانية؟

لا يهم إن كان يضمر بتساؤلاته تلك بخلق ما يشبه الإنسان، وحسب ما جاء في أحد الدراسات، أن تجرى الأبحاث على بعض جثث الموتى لإعادة تشغيلها مجددا، ليعودوا إلى الحياة وفق أنظمة تشغيل وتقنية قاموا بتطويرها.

لا يهمنا من هذا المقال ذلك التوجه، بل ما يهمنا حقا بأن الإنسان سيعود مجددا للتساؤل مجددا: ما هي الإنسانية يا ترى؟ مالذي يجعل منك إنسان حقا؟

لو تعامل العلماء مع الجثث السليمة الميّتة، لإعادة تشغيلها وفق برمجيات تحاكي العقل والدورة الدموية والأجهزة الحيوية، هل سيكون حينها إنسانا؟ وأين كانت الإنسانية ليست بالجسد بل بالروح التي تسكن الجسد، فهي غير مرئية ولا نملك لرؤيتها سوى الإحساس فقط، وإن فقد أحدهم أحد أعضاء جسده، فإنه رغم ذلك سيظل ذات الإنسان.

فالإنسان بكليته لا يتجزأ، حتى أن بعض العلماء قالو إن هوية الفرد تشمل أيضا ذكرياته وأفكاره والهالة أيضا التي تحيط به، فهي تخزن جميع الطاقات التي يستقبلها، وتلك التي تتدفق منه أيضا.