أوروبا واقتصاديات الابتزاز.. وجهة نظر أمريكية
الأربعاء / 3 / صفر / 1444 هـ - 23:11 - الأربعاء 31 أغسطس 2022 23:11
ترجمة: قاسم مكي -
قبل أربعة عقود مضت قضيتُ عاما في العمل مع الحكومة الأمريكية بمجلس المستشارين الاقتصاديين. (لأولئك الذين يتساءلون أقول: نعم، تلك كانت إدارة ريجان، وأقول: لا. لم أكن جمهوريا) كانت الوظيفة التي أشغلها تكنوقراطية، كنت كبير مستشاري الاقتصاد الدولي وكان كبير مستشاري الاقتصاد الداخلي لاري سمَرْز. (حسب ويكيبيديا، لورانس هنري سمرز وزير الخزانة الأمريكي الحادي والسبعين 1999- 2001 ومدير المجلس الاقتصادي القومي 2009-2010- المترجم).
على أي حال أنفقتُ معظم الوقت في تحليل الأرقام، لكنني حضرت اجتماعات وزارية قليلة أذكر من بينها خصوصا اجتماعا كان متعلقا بخطط أوروبية لتشييد خط أنابيب سيزيد كثيرا من حجم واردات الغاز من الاتحاد السوفييتي.
كان بعض المسؤولين يبحثون عن سبل للحيلولة دون تنفيذ المشروع، لكن لم يكن لدى أي أحد منهم أي فكرة جيدة. غير أن أولئك المسؤولين ما كانوا مخطئين في الشعور بالقلق من أن الاعتماد على الغاز السوفييتي (ولاحقا الروسي) سيوجد ضعفا استراتيجيا. حقا يمكن القول إن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي صار الآن أكبر خطر يواجه اقتصاد العالم.
روسيا قوة اقتصادية من الدرجة الثالثة، لكنها هي وأوكرانيا مورِّدان رئيسيان أو كانا مورِّدين رئيسيين لبعض السلع المهمة. وعندما غزت روسيا جارتها ارتفعت أسعار القمح الذي يُنتج الكثير منه في حزام (التربة السوداء) الممتد عبر أوكرانيا وروسيا وكازاخستان. كما ارتفعت أسعار النفط الذي يستخرج الكثير منه في جبال الأورال. لكن مؤخرا جدا انحسرت إلى حد بعيد صدمة الأسعار التي نتجت عن الحرب. وحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) تخلت أسعار الغذاء العالمية عن الجزء الأكبر من ارتفاعها في وقت الحرب. كما تراجعت أسعار النفط أيضا من ذروتها.
ما يحدث في هاتين الحالتين أن كلا من السلع الزراعية والنفط يتم تداولهما أساسا في أسواق العالم التي تسمح بالكثير من المرونة بصرف النظر عما إذا كان ذلك شيئا جيدا أم سيئا. مثلا يمكن لروسيا بيع نفطها للهند بدلا عن أوروبا، ويمكن لأوروبا بدورها شراء النفط الشرق أوسطي الذي كان سيذهب بخلاف ذلك إلى الهند، وإذا أضفنا موسم حصاد جيد للقمح في الولايات المتحدة وعوامل أخرى مثل الطلب الضعيف على النفط من الصين سنجد أن صدمة أسعار السلع في مجملها أخفَّ مما خشي منه العديدون.
لكن هناك استثناء واحدا، وهو استثناء غير عادي، إنه الغاز الطبيعي الأوروبي، فأسعار الغاز بعكس أسواق النفط والقمح ليست عالمية تماما.
أرخص وسيلة لشحن الغاز في العادة هي الضخ عبر الأنابيب التي تقسم العالم إلى أسواق إقليمية منفصلة تتحدد بمسارات الأنابيب، والبديل الرئيسي لذلك شحنُ الغاز في شكله المسال. وهي الوسيلة التي ينقل بها الغاز إلى أسواق لا تخدمها الأنابيب، لكنها تحتاج إلى سفن (ناقلات غاز) وموانئ مصممة خصيصا لهذا الغرض ولا يمكن تجهيزها بسرعة عند حلول أزمة.
هذا ما يقودنا إلى اللحظة الحالية، لقد هبطت إمدادات الغاز إلى أوروبا بحوالي 75% مقارنة بمستواها قبل عام. ويزعم الروس أنهم يواجهون مصاعب فنية، لكن لا أحد يصدق ذلك، فمن الواضح أن هذه مقاطعة فعلية القصد منها الضغط على الغرب لوقف دعمه لأوكرانيا. والنتيجة كانت ارتفاعا غير معقول في أسعار الغاز الأوروبي.
إذا أردنا عقد مقارنة تاريخية سنجد أن ارتفاع أسعار الغاز الأوروبي بحوالي 10 أضعاف تقريبا يُقَزِّم (تتضاءل إزاءه) صدماتُ سعر النفط في أعوام 1973- 1974 و1979-1980 والتي لعبت دورا كبير في التضخم الركودي في سبعينيات القرن الماضي.
ربما ليس مصادفة أن آخر ارتفاع في الأسعار بدأ في منتصف يونيو. حدث ذلك حين اتضح على نحو أو آخر أن هجوم روسيا الثاني في أوكرانيا (ذلك الذي أعقب المحاولة الأولى والكارثية للاستيلاء على كييف) لن يحقق نتائج حاسمة وأن التوازن العسكري سيتحول على الأرجح لصالح أوكرانيا مع وصول الأسلحة الغربية. لذلك اتجهت روسيا إلى الحرب الاقتصادية بدلا عن ذلك.
تعوض أوروبا النقص جزئيا باستيراد الغاز الطبيعي المسال خصوصا من الولايات المتحدة التي تنتج الكثير من الغاز الطبيعي المسال من الغاز الصخري، لكن طاقة شحن هذا النوع من الغاز هناك محدودة، وهذا هو السبب في أن أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة لم ترتفع بمقدار ارتفاعها في أوروبا. =
إلى أين سيقود كل هذا؟ الاقتصادات المتقدمة لديها طاقة ضخمة للتأقلم، لقد عكفت أوروبا على تكديس مخزوناتها من الغاز لفترة الشتاء. ويعني ذلك أن القارة ستتدبر أمرها حتى إذا حصلت على كميات قليلة جدا من غاز روسيا. لكن من المحتم أن نشهد نوبة ارتفاع في التضخم. ويبدو الانكماش الأوروبي مُرجَّحا إلى حد بعيد.
وإذ قلنا ما قلنا ربما أن اعتبارات الاقتصاد الكلي ثانوية بالنسبة للكيفية التي تواجه بها أوروبا المعاناة القاسية التي ستتعرض لها عائلات عديدة بسبب ارتفاع فواتير الطاقة.
سيتوجّب على الحكومات إيجادُ سبل التخفيف من ذلك العبء. وهذه مشكلة يصعب التعامل معها عندما تريد الحكومات أيضا الحفاظ على حوافز المحافظة على الطاقة، وفي الغالب ستكون «سياسة» أسعار الغاز عاصفة جدا خلال الشهور القليلة القادمة.
هل سينجح ابتزاز روسيا الاقتصادي في تقويض المعارضة الغربية؟ ربما لا. فمن بين أشياء أخرى كانت البلدان التي يبدو أنها أقل حزما أمام الضغوط الروسية (ألمانيا) أيضا الأقل سعيا في دعم أوكرانيا. لذلك لا يهم كثيرا إذا خافت.
لكن مهما يحدث الآن نحن نتعلم درسا عمليا في أخطار الاعتماد اقتصاديا على نظام مستبد. يرتاب الاقتصاديون منذ أمد بعيد في حجج الأمن القومي للحدِّ من التجارة العالمية والتي كثيرا ما أسيء استخدامها في الماضي، لكن تصرفات روسيا منحت هذه الحجج المزيد من القوة.
بول كروجمان أستاذ الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وكاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز. حاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية
قبل أربعة عقود مضت قضيتُ عاما في العمل مع الحكومة الأمريكية بمجلس المستشارين الاقتصاديين. (لأولئك الذين يتساءلون أقول: نعم، تلك كانت إدارة ريجان، وأقول: لا. لم أكن جمهوريا) كانت الوظيفة التي أشغلها تكنوقراطية، كنت كبير مستشاري الاقتصاد الدولي وكان كبير مستشاري الاقتصاد الداخلي لاري سمَرْز. (حسب ويكيبيديا، لورانس هنري سمرز وزير الخزانة الأمريكي الحادي والسبعين 1999- 2001 ومدير المجلس الاقتصادي القومي 2009-2010- المترجم).
على أي حال أنفقتُ معظم الوقت في تحليل الأرقام، لكنني حضرت اجتماعات وزارية قليلة أذكر من بينها خصوصا اجتماعا كان متعلقا بخطط أوروبية لتشييد خط أنابيب سيزيد كثيرا من حجم واردات الغاز من الاتحاد السوفييتي.
كان بعض المسؤولين يبحثون عن سبل للحيلولة دون تنفيذ المشروع، لكن لم يكن لدى أي أحد منهم أي فكرة جيدة. غير أن أولئك المسؤولين ما كانوا مخطئين في الشعور بالقلق من أن الاعتماد على الغاز السوفييتي (ولاحقا الروسي) سيوجد ضعفا استراتيجيا. حقا يمكن القول إن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي صار الآن أكبر خطر يواجه اقتصاد العالم.
روسيا قوة اقتصادية من الدرجة الثالثة، لكنها هي وأوكرانيا مورِّدان رئيسيان أو كانا مورِّدين رئيسيين لبعض السلع المهمة. وعندما غزت روسيا جارتها ارتفعت أسعار القمح الذي يُنتج الكثير منه في حزام (التربة السوداء) الممتد عبر أوكرانيا وروسيا وكازاخستان. كما ارتفعت أسعار النفط الذي يستخرج الكثير منه في جبال الأورال. لكن مؤخرا جدا انحسرت إلى حد بعيد صدمة الأسعار التي نتجت عن الحرب. وحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) تخلت أسعار الغذاء العالمية عن الجزء الأكبر من ارتفاعها في وقت الحرب. كما تراجعت أسعار النفط أيضا من ذروتها.
ما يحدث في هاتين الحالتين أن كلا من السلع الزراعية والنفط يتم تداولهما أساسا في أسواق العالم التي تسمح بالكثير من المرونة بصرف النظر عما إذا كان ذلك شيئا جيدا أم سيئا. مثلا يمكن لروسيا بيع نفطها للهند بدلا عن أوروبا، ويمكن لأوروبا بدورها شراء النفط الشرق أوسطي الذي كان سيذهب بخلاف ذلك إلى الهند، وإذا أضفنا موسم حصاد جيد للقمح في الولايات المتحدة وعوامل أخرى مثل الطلب الضعيف على النفط من الصين سنجد أن صدمة أسعار السلع في مجملها أخفَّ مما خشي منه العديدون.
لكن هناك استثناء واحدا، وهو استثناء غير عادي، إنه الغاز الطبيعي الأوروبي، فأسعار الغاز بعكس أسواق النفط والقمح ليست عالمية تماما.
أرخص وسيلة لشحن الغاز في العادة هي الضخ عبر الأنابيب التي تقسم العالم إلى أسواق إقليمية منفصلة تتحدد بمسارات الأنابيب، والبديل الرئيسي لذلك شحنُ الغاز في شكله المسال. وهي الوسيلة التي ينقل بها الغاز إلى أسواق لا تخدمها الأنابيب، لكنها تحتاج إلى سفن (ناقلات غاز) وموانئ مصممة خصيصا لهذا الغرض ولا يمكن تجهيزها بسرعة عند حلول أزمة.
هذا ما يقودنا إلى اللحظة الحالية، لقد هبطت إمدادات الغاز إلى أوروبا بحوالي 75% مقارنة بمستواها قبل عام. ويزعم الروس أنهم يواجهون مصاعب فنية، لكن لا أحد يصدق ذلك، فمن الواضح أن هذه مقاطعة فعلية القصد منها الضغط على الغرب لوقف دعمه لأوكرانيا. والنتيجة كانت ارتفاعا غير معقول في أسعار الغاز الأوروبي.
إذا أردنا عقد مقارنة تاريخية سنجد أن ارتفاع أسعار الغاز الأوروبي بحوالي 10 أضعاف تقريبا يُقَزِّم (تتضاءل إزاءه) صدماتُ سعر النفط في أعوام 1973- 1974 و1979-1980 والتي لعبت دورا كبير في التضخم الركودي في سبعينيات القرن الماضي.
ربما ليس مصادفة أن آخر ارتفاع في الأسعار بدأ في منتصف يونيو. حدث ذلك حين اتضح على نحو أو آخر أن هجوم روسيا الثاني في أوكرانيا (ذلك الذي أعقب المحاولة الأولى والكارثية للاستيلاء على كييف) لن يحقق نتائج حاسمة وأن التوازن العسكري سيتحول على الأرجح لصالح أوكرانيا مع وصول الأسلحة الغربية. لذلك اتجهت روسيا إلى الحرب الاقتصادية بدلا عن ذلك.
تعوض أوروبا النقص جزئيا باستيراد الغاز الطبيعي المسال خصوصا من الولايات المتحدة التي تنتج الكثير من الغاز الطبيعي المسال من الغاز الصخري، لكن طاقة شحن هذا النوع من الغاز هناك محدودة، وهذا هو السبب في أن أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة لم ترتفع بمقدار ارتفاعها في أوروبا. =
إلى أين سيقود كل هذا؟ الاقتصادات المتقدمة لديها طاقة ضخمة للتأقلم، لقد عكفت أوروبا على تكديس مخزوناتها من الغاز لفترة الشتاء. ويعني ذلك أن القارة ستتدبر أمرها حتى إذا حصلت على كميات قليلة جدا من غاز روسيا. لكن من المحتم أن نشهد نوبة ارتفاع في التضخم. ويبدو الانكماش الأوروبي مُرجَّحا إلى حد بعيد.
وإذ قلنا ما قلنا ربما أن اعتبارات الاقتصاد الكلي ثانوية بالنسبة للكيفية التي تواجه بها أوروبا المعاناة القاسية التي ستتعرض لها عائلات عديدة بسبب ارتفاع فواتير الطاقة.
سيتوجّب على الحكومات إيجادُ سبل التخفيف من ذلك العبء. وهذه مشكلة يصعب التعامل معها عندما تريد الحكومات أيضا الحفاظ على حوافز المحافظة على الطاقة، وفي الغالب ستكون «سياسة» أسعار الغاز عاصفة جدا خلال الشهور القليلة القادمة.
هل سينجح ابتزاز روسيا الاقتصادي في تقويض المعارضة الغربية؟ ربما لا. فمن بين أشياء أخرى كانت البلدان التي يبدو أنها أقل حزما أمام الضغوط الروسية (ألمانيا) أيضا الأقل سعيا في دعم أوكرانيا. لذلك لا يهم كثيرا إذا خافت.
لكن مهما يحدث الآن نحن نتعلم درسا عمليا في أخطار الاعتماد اقتصاديا على نظام مستبد. يرتاب الاقتصاديون منذ أمد بعيد في حجج الأمن القومي للحدِّ من التجارة العالمية والتي كثيرا ما أسيء استخدامها في الماضي، لكن تصرفات روسيا منحت هذه الحجج المزيد من القوة.
بول كروجمان أستاذ الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وكاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز. حاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية