البطاريق الكبار - الحُصْرِيُّ القَيروانيُّ
الأربعاء / 3 / صفر / 1444 هـ - 17:05 - الأربعاء 31 أغسطس 2022 17:05
ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة سبب عنونة المقال، والبيت الذي استلهمنا منه عنوان هذه السلسلة التي تتناول طرفا من حياة شعراء وأدباء ولغويين فقدوا البصر، واستبدلوا به البصيرة الثاقبة؛ حتى أن أحدهم ليصف مشهدا يعجز البصير عن وصفه بمثله.
وقد كانت فاتحة السلسة بالشاعر الكبير بشار بن برد الملقب بالمُرَعَّثِ، والرجل الذي نتناول طرفا من حياته وشعره في هذا المقال، شاعر عذب، قاسى في حياته ضروب المرارة والحرمان والفقد، ورغم براعته الشعرية؛ إلا أنه ظُلِم إزاء بزوغ نجم آخر من عائلته، وهو أبو إسحاق الحُصْرِيُّ القيرواني صاحب «زهر الآداب».
وقد اعتمدت في ترجمته على عدة مصادر أغلبها من الشبكة العنكبوتية، منها؛ وفيات الأعيان لابن خِلِّكان، جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس لأبي عبدالله محمد بن فتوح بن عبدالله الحميدي، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لأبي جعفر الضبي، معجم الأدباء المعروف بإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الحموي وهو صاحب كتاب معجم البلدان كذلك.
يقول ابن خِلِّكان في ترجمة شاعرنا في كتابه وفيات الأعيان في الجزء الثالث منه، هو «أبو الحسن علي بن عبدالغني الفِهري المقرئ الضرير الحصري القيرواني الشاعر المشهور» ص331، ويترجم له صاحب بغية الملتمس، هو «أديب، رخيم الشعر، حديد الهجو، دخل الأندلس وانتجع ملوكها، وشعره كثير وأدبه موفور» ص553، وقد نقله من كتاب جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس.
وتتشابه النقول في المصادر التاريخية، تشابها يصل حد التطابق؛ ولم أجد كتابا أكثر نفعا من كتاب وفيات الأعيان للترجمة لشاعرنا، وأما وصفه بالمقرئ، فلأنه «كان عالما بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن الكريم بسبتة وغيرها، وله قصيدة نظمها في قراءة نافع عدد أبياتها مائتان وتسعة» ص332 ج3، وفيات الأعيان.
أما أبلغ من وصفه، فهو ابن بسام صاحب كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ولم أقع على الكتاب الورقي ولا بنسخته الرقمية، ولكنني أنقل ما نقله ابن خِلِّكان في وفياته، حيث يقول ابن بسام «في حقه: كان بَحر براعة، و رأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تَهاديَ الرياض للنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيِّقَ العَطَن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء تلفُّتَ الظمآن إلى الماء، ولكنه طوي على غَرِّه، واحتمل بين زمانته وبُعدِ قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا اشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه، وتراجع طبعه».ص331-332 وفيات الأعيان.
ومعنى هذا الكلام، أن شاعرنا كان حاد الطبع، وهو يشبه في ذلك بشار بن برد، وربما يكون مرجع ذلك إلى زمانته، أي إلى العلة التي لازمته، وهي العمى، وما لاقاه في حياته من نكد وتوالي مصائب.
ومن أشهر قصائده، القصيدة التي غنتها فيروز بصوت عذب وأداء منح القصيدة حياة أخرى؛ وهي قصيدته التي يقول فيها:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
رقد السُّمَّارُ فأرَّقَهُ أسفٌ للبين يُردِّدُهُ
وقد وجدت ضبط القصيدة في وفيات الأعيان بنصب «ليل» وجر «الصب»، وأرى أن الرفع أبلغ وأعذب معنى، وقد حلَّت هذه القصيدة محل اسم شاعرنا ولازمته، فلم يُعرف إلا بها، ولم يشتهر بغيرها، على أن شعره يتضمن المعاني البديعة، والألفاظ الأنيقة.
ومن شعره البديع:
أقولُ لهُ وقد حيَّا بكأسٍ لها مِن مِسكِ ريقتِه خِتامُ
أمن خدَّيكَ تُعصَرُ؟ قال كلَّا متى عُصِرَت من الوردِ المُدامُ؟
ومن الملوك الذين عاصرهم الحُصْري ومدحهم، المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيلية، وهو الملك ذائع الصيت، المحب للعلم والأدب.
وقد ذكر حديث الحُصْري مع المعتمد، ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء نقلا عن محمد بن أيوب بن غالب الغرناطي صاحب كتاب «فرحة الأنفس» حيث يقول «كان من أهل العلم بالنحو وشاعرًا مشهورًا وكان ضريرا طاف الأندلس ومدح ملوكها، فمن ذلك قوله للمعتمد بن عباد عند موت أبيه المعتضد:
مات عبادٌ ولكنء بقيَ النجلُ الكريمُ
فكأنَّ الميتَ حيٌّ غَيرَ أن الضادَ مِيمُ»
وقد كان لشاعرنا تلاميذ نجباء، كما كان لبشارٍ تلميذه النجيب سلم الخاسر، ومن تلاميذه أبو العباس البلنسي، وكان كأستاذه أعمى. وقد ذكره ياقوت في معجمه حيث يقول «وحكى أبو العباس الأعمى عنه -عن الحُصْري- وكان من تلاميذه، وهذان البيتان متنازعان بينهما لا أدري لمن هي منهما:
وقالوا قد عَميتَ، فقلتُ كلَّا وإني اليومَ أبصرُ من بصيرِ
سوادُ العينِ زاد سوادَ قلبي لـيجـتمـعــا على فـهـم الأمورِ
ص1808-1809 ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
لم أجد شيئا يصف حياة شاعرنا ويحيط بها إحاطة الخاتم بالإصبع، مع نص رشيق وأداء حي؛ كما وجدته في البرنامج السمعي «بيت القصيد» الذي يُبثُّ عبر تطبيق الساوندكلاود، وقد خصص البرنامج حلقة رائعة عن شاعرنا بعنوان «الحُصْريُّ القيروانيُّ.. بصيرٌ لم تُبصِره الحياة»، وهي حلقة -مع جمالها- ملأى بالألم والحزن، لا تترك في نفس المستمع إليها غيرَ الحرقة والغصة والشفقة لما عاناه شاعر خالد في تاريخ الأدب العربي.
وقد كانت فاتحة السلسة بالشاعر الكبير بشار بن برد الملقب بالمُرَعَّثِ، والرجل الذي نتناول طرفا من حياته وشعره في هذا المقال، شاعر عذب، قاسى في حياته ضروب المرارة والحرمان والفقد، ورغم براعته الشعرية؛ إلا أنه ظُلِم إزاء بزوغ نجم آخر من عائلته، وهو أبو إسحاق الحُصْرِيُّ القيرواني صاحب «زهر الآداب».
وقد اعتمدت في ترجمته على عدة مصادر أغلبها من الشبكة العنكبوتية، منها؛ وفيات الأعيان لابن خِلِّكان، جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس لأبي عبدالله محمد بن فتوح بن عبدالله الحميدي، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لأبي جعفر الضبي، معجم الأدباء المعروف بإرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الحموي وهو صاحب كتاب معجم البلدان كذلك.
يقول ابن خِلِّكان في ترجمة شاعرنا في كتابه وفيات الأعيان في الجزء الثالث منه، هو «أبو الحسن علي بن عبدالغني الفِهري المقرئ الضرير الحصري القيرواني الشاعر المشهور» ص331، ويترجم له صاحب بغية الملتمس، هو «أديب، رخيم الشعر، حديد الهجو، دخل الأندلس وانتجع ملوكها، وشعره كثير وأدبه موفور» ص553، وقد نقله من كتاب جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس.
وتتشابه النقول في المصادر التاريخية، تشابها يصل حد التطابق؛ ولم أجد كتابا أكثر نفعا من كتاب وفيات الأعيان للترجمة لشاعرنا، وأما وصفه بالمقرئ، فلأنه «كان عالما بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن الكريم بسبتة وغيرها، وله قصيدة نظمها في قراءة نافع عدد أبياتها مائتان وتسعة» ص332 ج3، وفيات الأعيان.
أما أبلغ من وصفه، فهو ابن بسام صاحب كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ولم أقع على الكتاب الورقي ولا بنسخته الرقمية، ولكنني أنقل ما نقله ابن خِلِّكان في وفياته، حيث يقول ابن بسام «في حقه: كان بَحر براعة، و رأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تَهاديَ الرياض للنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيِّقَ العَطَن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء تلفُّتَ الظمآن إلى الماء، ولكنه طوي على غَرِّه، واحتمل بين زمانته وبُعدِ قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا اشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه، وتراجع طبعه».ص331-332 وفيات الأعيان.
ومعنى هذا الكلام، أن شاعرنا كان حاد الطبع، وهو يشبه في ذلك بشار بن برد، وربما يكون مرجع ذلك إلى زمانته، أي إلى العلة التي لازمته، وهي العمى، وما لاقاه في حياته من نكد وتوالي مصائب.
ومن أشهر قصائده، القصيدة التي غنتها فيروز بصوت عذب وأداء منح القصيدة حياة أخرى؛ وهي قصيدته التي يقول فيها:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
رقد السُّمَّارُ فأرَّقَهُ أسفٌ للبين يُردِّدُهُ
وقد وجدت ضبط القصيدة في وفيات الأعيان بنصب «ليل» وجر «الصب»، وأرى أن الرفع أبلغ وأعذب معنى، وقد حلَّت هذه القصيدة محل اسم شاعرنا ولازمته، فلم يُعرف إلا بها، ولم يشتهر بغيرها، على أن شعره يتضمن المعاني البديعة، والألفاظ الأنيقة.
ومن شعره البديع:
أقولُ لهُ وقد حيَّا بكأسٍ لها مِن مِسكِ ريقتِه خِتامُ
أمن خدَّيكَ تُعصَرُ؟ قال كلَّا متى عُصِرَت من الوردِ المُدامُ؟
ومن الملوك الذين عاصرهم الحُصْري ومدحهم، المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيلية، وهو الملك ذائع الصيت، المحب للعلم والأدب.
وقد ذكر حديث الحُصْري مع المعتمد، ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء نقلا عن محمد بن أيوب بن غالب الغرناطي صاحب كتاب «فرحة الأنفس» حيث يقول «كان من أهل العلم بالنحو وشاعرًا مشهورًا وكان ضريرا طاف الأندلس ومدح ملوكها، فمن ذلك قوله للمعتمد بن عباد عند موت أبيه المعتضد:
مات عبادٌ ولكنء بقيَ النجلُ الكريمُ
فكأنَّ الميتَ حيٌّ غَيرَ أن الضادَ مِيمُ»
وقد كان لشاعرنا تلاميذ نجباء، كما كان لبشارٍ تلميذه النجيب سلم الخاسر، ومن تلاميذه أبو العباس البلنسي، وكان كأستاذه أعمى. وقد ذكره ياقوت في معجمه حيث يقول «وحكى أبو العباس الأعمى عنه -عن الحُصْري- وكان من تلاميذه، وهذان البيتان متنازعان بينهما لا أدري لمن هي منهما:
وقالوا قد عَميتَ، فقلتُ كلَّا وإني اليومَ أبصرُ من بصيرِ
سوادُ العينِ زاد سوادَ قلبي لـيجـتمـعــا على فـهـم الأمورِ
ص1808-1809 ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
لم أجد شيئا يصف حياة شاعرنا ويحيط بها إحاطة الخاتم بالإصبع، مع نص رشيق وأداء حي؛ كما وجدته في البرنامج السمعي «بيت القصيد» الذي يُبثُّ عبر تطبيق الساوندكلاود، وقد خصص البرنامج حلقة رائعة عن شاعرنا بعنوان «الحُصْريُّ القيروانيُّ.. بصيرٌ لم تُبصِره الحياة»، وهي حلقة -مع جمالها- ملأى بالألم والحزن، لا تترك في نفس المستمع إليها غيرَ الحرقة والغصة والشفقة لما عاناه شاعر خالد في تاريخ الأدب العربي.