أعمدة

عبر التوقع "تقنية جديدة لقراءة الطفل"

فوزية الفهدية
 
فوزية الفهدية
تتوافد إلى أذهاننا العديد من الدراسات على شاكلة: نحيا على هذه الأرض وهي لا تأخذ حيّزا من الكون الخارجي إلا بنسبة ضئيلة جدا، نحيا ولا نعرف من المخلوقات إلا نسبة منها وما خفي علينا كان الأكبر عددًا، ولا نستخدم من قدراتنا العقلية سوى ١٠٪؜ بينما تظل بقية القدرات كامنة لا يُستفاد منها، ولا نتذكر مما نقرأ سوى اليسير..

لكن أن تطال تلك النسب وذلك النمط من الدراسات المجال الذي تُجيده، فإنك تشعر بأن عقلك مستفز بشكل كبير لأن يوقِف تلك النسبة من التزايد والتصاعد، ويحاول تقليلها إلى أكبر حد ممكن، كأن يقال لكاتب أدب الطفل: 'لا يستوعب الطفل من القصة إلا أحداثها السطحية، بدون إدراك للقيمة العميقة في القصة'، هنا يستوجب على كاتب قصص الأطفال ابتكار تقنية جديدة تعين الطفل على مزيد من الاستيعاب.

يقرأ الطفل -ويقصد بذلك الطفل المعتمد على نفسه في القراءة- فيفهم من القصة أحداثها السطحية، بدون أن يقرأ بعمق فيستخلص القيمة الوجدانية العميقة.

وعلى الأرجح ومن خلال ترددي على مكتبات الطفل، وورش القراءة للأطفال أن الطفل يستوعب تماما تلك القصص ذات التوجيهات السلوكية والمعنية بتعديل أفعال الطفل الخاطئة.

أما ذلك الجانب الوجداني الروحي، والذي يحتاج غالبا للقراءة التأملية فهو لا يصل إلى مضمونها العميق.

وحيث إن تعديل السلوك مع تدني الجانب الروحي، لا يؤتي ثمره سوى في السلوك المراد تقويمه -هذا وإن استقام- بينما الإعلاء من الجانب الوجداني لدى الطفل من شأنه أن يتكفل بكل السلوكيات، وخاصة أن تلك السلوكيات خاضعة للنسبية، فما هو صائب في بعض المواقف مناسب وضروري لمواقف أخرى، والملاحظ أن تلك القصص التي تتضمن توجيهات وإرشادات سلوكية قد باتت على وشك الأفول.

ومما يستدعي التدخل هو أن تقييمات الخبراء والمختصين دائما ما يرشحون القصص ذات المضامين الأعمق من ضمن اختياراتهم الأولى، وذلك في المؤسسات التعليمية أو المكتبات، أو حتى المسابقات الأدبية، إلا أن تلك القصص تظل لدى الطفل عصية عن الفهم مما يستوجب التدخل، وبما يسير بالتوازي مع التطور الملحوظ في مضامين أدب الطفل الحالية.

وخاصة مع ازدياد المطالبات والتوجهات؛ نحو إثراء مكتبة الطفل بالأدب الجيد الذي يرقى بمستوى الطفل الفكري ويثري ذائقته اللغوية.

لكن الملاحظة تقول: هل الطفل جاهز حقا لمثل تلك القصص التي تحتاج إلى تأمل لاستخلاص القيمة الروحية، ورؤية الأثر الأدبي عليه؟ ومن جانب آخر هل القصة نفسها بحاجة إلى تدعيم ذاتي يتخللها؛ لتيسّر للطفل فهمها على نحو تام؟

وقد تبدو العبارة التي نتداولها حول أن 'أدب الطفل الجيّد من يقرأه الصغير ويستمتع به، ويقرأه الكبير فيفهمه'، أي أنها في باطنها قيمة عميقة يفهمها الكبار جيّدا، وقد تبدو العبارة للوهلة الأولى جميلة برّاقة مناسبة للتداول، وأن تكون كشعار يُرفع للإعلاء من شأن أدب الطفل أمام صنوف الأدب الأخرى، لكن الحقيقة التي لابدّ من الوقوف عليها هي أن يُرتقى بمستوى الطفل؛ ليكون جاهزا لمثل هذه القصص التي تملأ وجدانه وتشبعه عاطفيا.

وأن تلك الأساليب التقليدية في استنباط عمق القصة لا تساعد إلا لتلك القصص السلوكية، كأن نطلب من الطفل عنوانا آخر للقصة، أو أن يتم تضمين القصة في آخرها بأسئلة تتأكد من فهم الطفل، أو حتى تلك المدعومة بصفحة كاملة تلخص عمق القصة وهدفها الحقيقي، إلا أنها تظل أساليب تعرف ومن خلال التجربة بأنها لا زالت ذات قصور كبير في توصيل المغزى العميق للقصة.

فلا يجد بعض الكتّاب بدا من تعزيز قيمة القصة وجوهرها، بالورش المعززة والعبارات المستخلصة التي تعين على فهم القصة، ليست للطفل فحسب بل أن ولي الأمر أيضا بحاجة إلى المعونة لاستخلاص مغزى القصص، ليكون من اللازم والضروري أن يصاحب التطور الحادث في مضامين أدب الطفل لنمط قراءة بمستويات ومدارات أعلى تعينه على الفهم العميق للقصة، حيث إن المنفعة هي المعيار الأهم لقيمة القصة.

وأكرر أنني لا أقصد بذلك الطفل الذي تقرأ له والدته التي بلا شك ستصل به إلى المستوى الذي يفهم من خلالها القصة بما ظهر منها وما بطن، ولا تلك القصص المدرجة في المناهج الدراسية التي يتم تدريسها، فتصبح مفصلة وجاهزة للفهم على نحو تام، بل ذلك الطفل الذي يتنقل بين أرفف المكتبات، ليقرأها على نحو مستقل، فيتولى بنفسه أمر فهم القصة بكلّيتها، ولتتمة الفائدة العميقة من القصة.

ولا أجد بدا من ذكر دور الأسئلة في توجيه مسار التفكير نحو الهدف، فإن أغلب ظني بأنه إعادة صياغة تلك الأسئلة العتيقة، فإنها ستكون معينا جيدا على استنباط تلك المعاني الدفينة من القصة، فالحفاظ على تلك التساؤلات كما هي جنوح للرجعية، فنحن بحاجة إلى نمط جديد يساير التطور الحادث في أدب الطفل، حيث استبدلت التوجيهات السلوكية الإرشادية السائدة على أدب الطفل قديما بمضامين وجدانية أعمق مشبعة للعواطف والروح، كالحنين والفرح والفقد والحلم والسعادة، وحتى تلك التساؤلات الوجودية التي لا يخلو منها ذهن الطفل.

فتلك الأسئلة القديمة التي يتم تداولها ما بين المربّين وعقول الأطفال والتي تكون على شاكلة: من هو بطلك المفضّل في القصة ولماذا؟ اختر نهاية أخرى للقصة، من هي الشخصية الشريرة، اختر عنوانا آخر للقصة.. تلك التساؤلات لها خيارات لا نهائية يصعب توجيه الطفل نحوها، في حين بات جليا أن التساؤل يأتي حسب الأحداث وبنمط مختلف كل مرة، فبعض القصص ليس هناك بطل شرير، ويصعب تحديد البطل المفضل، وغيرها من الإجابات المؤطرة، فما يحتاجه الطفل قاعدة عامة ينطلق منها بثبات وحرية، تتيح له التساؤل بعفوية أثناء قراءة النص، والتأمل بوضوح بدون إسداء تعليمات تعرقل انسيابية واندماج قراءة نص القصة.

قاعدة وعتبة باب يلج من خلالها نحو فهم أعمق للقصة، وتعلمه ما تعنيه كلمة تأمل وتفكر، وتتيح له فرصة حرية الإبحار على قارب التساؤل، بدون تحديد لنمط محدد من الأسئلة المكررة، التي إن ناسبت إحدى القصص فإنها لا تناسب الأخرى.

تلك القاعدة العريضة الثابتة التي ينطلق منها قوامها 'التوقع'، الذي يأتي من قبيل الاعتزاز بالعقل، والذي من شأنه إعلاء النظام الفكري، التوقع لكل تفاصيل القصة بداية من توقع القصة من خلال العنوان إلى توقع الأحداث تلو الآخر، من خلال التصفح السريع، وتأمل الرسوم ليبدأ بعدها رحلة التوقعات لما بعد الحدث القادم، ليصل أخيرًا إلى توقع النهاية.

ومع كل توقع هناك يتم على نحو تلقائي مقارنة سريعة بتفكر وتدبر مع ما صاغه عقله من توقعات، وهذه العملية تحديدا هي ما تسمى وما تعنيه حرفيا 'القراءة التأملية الناقدة'، التي تتيح للطفل التساؤل والفهم العميق، بدون تلقين من الكبار وتدخل في توجيهات فِكره.

فالتوقع بحد ذاته يختزل الكثير من التساؤلات، كما تنطوي فيه كل الإجابات، ويحافظ على قراءة النص بكلّيته، باعتباره نمط تفكير تأملي توليدي، يحقق للطفل قراءة متماسكة بدون تدخل من الخارج توجهه نحو تساؤلات داخلية، يجيب عنها على نحو فوري بما تقتضيه القصة، كاشفا عن الرموز الكامنة للمعاني الوجدانية، ولتنطلق توقعاته بطلاقة وتحرر، وليكون على نحو تتابعي لمسار القصة، يسير توقعه بالتزامن مع أحداث القصة، وعلى نحو بنيوي للحدث، وكما أنه بمقتضى الحال يساعد على التمثيل الذهني للمتتالية السردية للقصة، والوقوف على دلالات الحدث والكشف عن رمزية القصة، ولتكون تلك التوقعات مدعاة للجدلية ما بين إرادة المخيلة وقدرية القصة، لتقوده أخيرًا إلى الإدراك الذي هو ليس كالمعرفة إطلاقا، بل هو إمعان في المعرفة، وعلى نحو تأملي، لتنتج في ذهنه أخيرا أحداث قابلة للتشكيل، مما يجعلها بذرة حيوية أولية في طريق الإبداع.