سلمان رشدي ومراجعة الخطاب
الاثنين / 16 / محرم / 1444 هـ - 16:10 - الاثنين 15 أغسطس 2022 16:10
لا أريد من هذه المقالة تكرار ما كُتِبَ عن الرّوائيّ البريطانيّ من أصول هنديّة كشميريّة أي سلمان رشدي، وحول رواياته خصوصا «آيات شيطانيّة»، فقد كتب حولها الكثير معًا أو ضدًا، وقد مر عليها ما يقارب ثلاثة عقود، أي فترة كافية للمراجعة والنّقد، كما لا أريد هنا الحديث حول ردّة الإمام الخمينيّ [ت 1989م] ومحمّد حسين فضل الله [ت 2010م] في الطّرف الشّيعيّ، والبيان الصّادر من مجلس الفقه الإسلاميّ، وفيه توقيع ثلّة من علماء السّنّة كبكر أبو زيد [ت 2008م]، ومصطفى الزّرقا [ت 1999م]، وصالح الفوزان [معاصر]، ويوسف القرضاويّ [معاصر] وغيرهم، كلّ ذلك يُقرأ في ظرفيّته، وهو من الماضي الّذي أيضا ينبغي أن يُراجع ونحن في ظرفيّة أخرى أكثر حريّة وانفتاحا، وفي الوقت نفسه العالم تنظّم وفق دساتير ومواثيق حافظة للجميع.
إنّ من يتأمل الحالة الّتي وقعت لسلمان رشدي في نيويورك بأمريكا، من اعتداء وطعن من شابّ أمريكيّ مسلم من أصول لبنانيّة، لا يتجاوز عمره أربعة وعشرين عاما، وهو شابّ ما زال في بدايات تكوينه المعرفيّ، ما الّذي جعله يخاطر بحياته وهو يدرك أنّه -في الغالب- سيقضي غالب حياته في السّجن، لقضيّة شبه غابت واختفت عن الأذهان بمسبباتها، وتداعياتها الدّينيّة والأدبيّة والسّياسيّة حينها، ليفتح هذا الملف مع جيل جديد في سنّه، ليتكالبوا مرّة أخرى على قراءة الرّواية، ومعرفة الكاتب، أي أنّه أحياها وأحيا كاتبها، في حين يريد إماتتها وإماتة كاتبها.
هذا ذاته يعيدنا إلى التّساؤل ذاته ما الّذي جعل من شاب يطعن أديبا كنجيب محفوظ [ت 2006م] بسبب رواية أولاد حارتنا وهو لم يقرأها، وما الّذي جعل من آخر يقتل باحثا كفرج فودة [ت 1992م]، وينهييه من الوجود، وهذا تنامى بشكل كبير بعد خطاب الصّحوة، وما زالت آثاره حتّى اليوم.
لمّا كتب قاسم أمين [ت 1908م] كتابه حول المرأة، وتبعه عليّ عبدالرّازق [ت 1966م] في كتابه الإسلام وأصول الحكم؛ لم يتعدَّ الأول الرّدود النّقديّة المقابلة، ولم يتعدَّ الثّاني حكم القضاء الّذي ظلمه، ولكن كان عن طريق مؤسّسات القضاء وليس التّهييج الاجتماعيّ، وهذا ما حدث لمحمود أبو ريّة [ت 1970م] في كتابيه أضواء على السّنّة المحمديّة وأبو هريرة، حيث لم يتجاوز الانتقادات الأفقيّة، وما حدث لمحمّد خالد محمّد [ت 1996م] مع كتابه من هنا نبدأ، لم يتجاوز القضاء والرّدود المقابلة، وإن كان لمحمود شلتوت [ت 1963م] حسب علمي رؤية إيجابيّة في أنّ الكتاب لا يواجه بالمصادرة، وإنّما الفكر يواجه بالفكر.
لو توقف الأمر عند القضاء والنّقد لكان حالة صحيّة، ولكن أن يتجاوز النّقد إلى الشّخص ذاته، إمّا بإقصائه وتهميشه وظيفيّا وحياتيّا واجتماعيّا، وإمّا بتهييج العامّة على قتله واغتياله، في أمم انتظمت بمؤسّساتها القانونيّة والقضائيّة، فإنّه يحتاج إلى حالة جادّة من المراجعات، وقد تنامى الأمر -كما أسلفتُ- مع مرحلة الصّحوة، ابتداء من سرعة تكفير الآخر، ولو كان ناقدا في جوانب بحثيّة، إلى المطالبة بقتله إمّا عن طريق القضاء، وإمّا بتهييج النّاس بطريقة غير مباشرة، متصوّرين بهذا أنّ القضيّة ستنتهي عند هذا الحدّ، وأنّ هذا نصرة للإسلام وعزّة له، وكأنّ الأديان قمّة في الضّعف، يخيفها الأقلام والعقول النّاقدة.
إنّ المتأمل في النّصّ القرآني كما أنّه يدعو إلى النّظر والبحث بالسّير في الأرض، والشّك كما قصّة إبراهيم - عليه السّلام -، بغض النّظر عن عليّة ذلك، ولكنّ المحور هو الشّك والتّساؤل، إلى الدّعوة إلى الحوار من خلال تساوي القضيّة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، أو من خلال المشترك {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]، كلّ هذا ويعقبه بأربعة جوانب رئيسة كافيّة في التّعامل مع مثل هذه القضايا: الأول الحريّة في البحث والنّتائج الجادّة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، والثّاني: عدم الالتفات إلى النّتائج غير الجادّة، وتهييج الجوّ بها، ومقابلة السّيئة بالسّيئة، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل: 125]، والثّالث: العدل في التّعامل الدّنيويّ وعدم الإقصاء: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشّورى: 15]، والرّابع عدم مشاركة الله في الجزاء الأخروي، وترك الحكم لله وحده، وهذا ينبني عليه عدم مشاركته بمثل هذه الحالة في إفنائه وقتله والتّعجيل بموته بأيّ طريقة كانت، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى: 15]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
هذا الحدّ من الآيات القرآنيّة كافٍ لمراجعة الأدبيات الرّوائيّة والتراثيّة، والاجتهادات الظّرفيّة؛ حيث إنّ الطّبيعة الإنسانيّة واحدة، متكرّرة في صورها، والقرآن ذاته خلّد أدبيات المستهزئين والكافرين به، في الوقت الّذي يقرر أخلاقيّات الحوار والتّدافع الطّبيعيّ، في تعامله مع مصاديق قد تختلف صورها اليوم وتتمدّد عن طريق الرّوايات الأدبيّة والسّينما والرّسم وغيرها، ما يدعو إلى التّدافع في الإبحار في الفنون الظّرفيّة ذاتها من خلال فلسفة البديل التّدافعيّ، أو من خلال النّقد المعرفيّ، وليس من خلال التّهييج ونتائجه الّذي يشوّه الإسلام ذاته أكثر من الحدث الآخر المنتقَد أدبيًّا أو فنيًّا أو معرفيًّا، ويظهر الدّين بصورته الضّعيفة؛ لأنّ القوّة في مجابهة الفكرة، لا في ردّات الفعل العشوائيّة.
لمّا كتب شاعر الثّورة الجزائريّة مفدي زكريا [ت 1997م] قصيدته الثّوريّة في زنزانته «من زنزانات سجن سركاجي بمدينة الجزائر، وكتبها على ورق لفاف الدّخان بقطرات من دمه، أخرجها بوسط دبوز من شرايينه، وهرّبها إلى خارج السّجن مع المناضلين مثلما تهرّب التّعليمات، والقرارات السّريّة الخاصّة بالتّنظيم، ونقلت إلى القاهرة ليلحنها الموسيقار المصريّ محمّد فوزي [ت 1966م]، وتذاع لأول مرة في صوت العرب في القاهرة، وتعتمد كنشيد رسميّ للجزائر وإلى اليوم» [كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصّحافة الوطنيّة، ص: 56-57]، ومطلعها:
قسما بالنّازلات الماحقات والدّماء الزّكيّات الطّاهرات
والبنود اللّامعات الخافقات في الجبال الشّامخات الشّاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وشددنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا
ليقابل من بعض الشّيوخ بالتّكفير؛ لقسمه بغير الله، ولبعض الصّور البلاغيّة، حتّى قيل: «نوفمبر الشّهر الّذي كفّر الشّاعر مفدي زكريا»، وما حدث لمفدي زكريا يقابله ما حدث لقرينه إبراهيم بن عمر بيوض [ت 1981م]، والّذي بسبب آرائه الإصلاحيّة هيّج الشّيوخ التّقليديين العوامّ عليه، ليتعرّض لبعض حالات الاغتيال، فضلًا عن الإقصاء والإيذاء.
ما أردت قوله سلفًا إننا بحاجة إلى أن نخرج خطابيّا من مرحلة التّهييج والحكم العمومي؛ إلى مرحلة التّعقل، بكلّ ما يشمله التّعقل من معنى، بدلا من الخطابات الارتجاليّة والعموميّة، سواء على مستوى الخطابة أو الفتوى أو الكتابة أو البيانات، حيث يظنّ العامّة بفهمهم البسيط أنّ طاعة مثل هذه الخطابات من طاعة الله، وأنّها لا تخرج إلا من ذات المشكاك الوحياني تطبيقا، فهم لا يناقشون النّصّ وتأويله، بقدر ما يشبعون رغبات تدينهم من خلال رموز دينيّة معينة، يرون فيها الإسقاط الوحياني ولو كان بعيدا عن التّعقل، ويقودهم في الوقت ذاته إلى دائرة غير التّعقل، ابتداء من سبّ الآخر وشتمه وإقصائه وإيذائه في ذاته وعرضه، حيث تُسقط الأدبيات التّعامليّة بسبب الإسقاطات المسبقة، ويظنّون بهذا أنّهم يرضون الله ذاته ورسوله لإظهارهم هذه العزّة في إيذاء الآخر، مرورًا إلى محاولة قتله وتصفيته ولو لم يفقهوا شيئًا لما قاله الآخر أو ما كتبه، ويرون أنفسهم أعلى من السّلطة القانونيّة ذاتها، فليسوا بحاجة إلى إجراءات قانونيّة حسب كلّ بلد وتنظيماته، بقدر ما يشبعون تدينهم في تصفية المختلف، ويشعرون بنشوة ذلك، وأنّ ما قاموا به كان نصرًا لله ولرسوله ودينه، ولو قادمهم ذلك إلى السّجن أو الموت وتيتم أبنائهم، ومن غرَّر بهم يتمتع بملذات الدّنيا مع خلّانه وعائلته.
إنّ مرحلة التّعقل تتجاوز الخطاب إلى مواجهة الحال من خلال مواجهة الفكرة بالفكرة، والكتاب بالكتاب، والرّواية بالرّواية، والفنّ بالفنّ، في حالة تدافعيّة طبيعيّة تقود إلى التّهذيب، وتغرس في النّاس الحالة الصّحيّة في التّدافع، وفق النّقد والمعرفة العلميّة، مع تعقل أدبيات الحوار بالحسنى، والمواجهة بالّتي هي أحسن، واحترام ما اتّفق عليه النّاس واجتمعوا وفق أنظمة وقوانين تنظّم أمر بلدهم، وتحفظ الجميع بذلك، وبهذا نعطي صورة حسنة للإسلام والعرب، وجميع الأديان والأجناس.
إنّ من يتأمل الحالة الّتي وقعت لسلمان رشدي في نيويورك بأمريكا، من اعتداء وطعن من شابّ أمريكيّ مسلم من أصول لبنانيّة، لا يتجاوز عمره أربعة وعشرين عاما، وهو شابّ ما زال في بدايات تكوينه المعرفيّ، ما الّذي جعله يخاطر بحياته وهو يدرك أنّه -في الغالب- سيقضي غالب حياته في السّجن، لقضيّة شبه غابت واختفت عن الأذهان بمسبباتها، وتداعياتها الدّينيّة والأدبيّة والسّياسيّة حينها، ليفتح هذا الملف مع جيل جديد في سنّه، ليتكالبوا مرّة أخرى على قراءة الرّواية، ومعرفة الكاتب، أي أنّه أحياها وأحيا كاتبها، في حين يريد إماتتها وإماتة كاتبها.
هذا ذاته يعيدنا إلى التّساؤل ذاته ما الّذي جعل من شاب يطعن أديبا كنجيب محفوظ [ت 2006م] بسبب رواية أولاد حارتنا وهو لم يقرأها، وما الّذي جعل من آخر يقتل باحثا كفرج فودة [ت 1992م]، وينهييه من الوجود، وهذا تنامى بشكل كبير بعد خطاب الصّحوة، وما زالت آثاره حتّى اليوم.
لمّا كتب قاسم أمين [ت 1908م] كتابه حول المرأة، وتبعه عليّ عبدالرّازق [ت 1966م] في كتابه الإسلام وأصول الحكم؛ لم يتعدَّ الأول الرّدود النّقديّة المقابلة، ولم يتعدَّ الثّاني حكم القضاء الّذي ظلمه، ولكن كان عن طريق مؤسّسات القضاء وليس التّهييج الاجتماعيّ، وهذا ما حدث لمحمود أبو ريّة [ت 1970م] في كتابيه أضواء على السّنّة المحمديّة وأبو هريرة، حيث لم يتجاوز الانتقادات الأفقيّة، وما حدث لمحمّد خالد محمّد [ت 1996م] مع كتابه من هنا نبدأ، لم يتجاوز القضاء والرّدود المقابلة، وإن كان لمحمود شلتوت [ت 1963م] حسب علمي رؤية إيجابيّة في أنّ الكتاب لا يواجه بالمصادرة، وإنّما الفكر يواجه بالفكر.
لو توقف الأمر عند القضاء والنّقد لكان حالة صحيّة، ولكن أن يتجاوز النّقد إلى الشّخص ذاته، إمّا بإقصائه وتهميشه وظيفيّا وحياتيّا واجتماعيّا، وإمّا بتهييج العامّة على قتله واغتياله، في أمم انتظمت بمؤسّساتها القانونيّة والقضائيّة، فإنّه يحتاج إلى حالة جادّة من المراجعات، وقد تنامى الأمر -كما أسلفتُ- مع مرحلة الصّحوة، ابتداء من سرعة تكفير الآخر، ولو كان ناقدا في جوانب بحثيّة، إلى المطالبة بقتله إمّا عن طريق القضاء، وإمّا بتهييج النّاس بطريقة غير مباشرة، متصوّرين بهذا أنّ القضيّة ستنتهي عند هذا الحدّ، وأنّ هذا نصرة للإسلام وعزّة له، وكأنّ الأديان قمّة في الضّعف، يخيفها الأقلام والعقول النّاقدة.
إنّ المتأمل في النّصّ القرآني كما أنّه يدعو إلى النّظر والبحث بالسّير في الأرض، والشّك كما قصّة إبراهيم - عليه السّلام -، بغض النّظر عن عليّة ذلك، ولكنّ المحور هو الشّك والتّساؤل، إلى الدّعوة إلى الحوار من خلال تساوي القضيّة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، أو من خلال المشترك {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]، كلّ هذا ويعقبه بأربعة جوانب رئيسة كافيّة في التّعامل مع مثل هذه القضايا: الأول الحريّة في البحث والنّتائج الجادّة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، والثّاني: عدم الالتفات إلى النّتائج غير الجادّة، وتهييج الجوّ بها، ومقابلة السّيئة بالسّيئة، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل: 125]، والثّالث: العدل في التّعامل الدّنيويّ وعدم الإقصاء: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشّورى: 15]، والرّابع عدم مشاركة الله في الجزاء الأخروي، وترك الحكم لله وحده، وهذا ينبني عليه عدم مشاركته بمثل هذه الحالة في إفنائه وقتله والتّعجيل بموته بأيّ طريقة كانت، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى: 15]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
هذا الحدّ من الآيات القرآنيّة كافٍ لمراجعة الأدبيات الرّوائيّة والتراثيّة، والاجتهادات الظّرفيّة؛ حيث إنّ الطّبيعة الإنسانيّة واحدة، متكرّرة في صورها، والقرآن ذاته خلّد أدبيات المستهزئين والكافرين به، في الوقت الّذي يقرر أخلاقيّات الحوار والتّدافع الطّبيعيّ، في تعامله مع مصاديق قد تختلف صورها اليوم وتتمدّد عن طريق الرّوايات الأدبيّة والسّينما والرّسم وغيرها، ما يدعو إلى التّدافع في الإبحار في الفنون الظّرفيّة ذاتها من خلال فلسفة البديل التّدافعيّ، أو من خلال النّقد المعرفيّ، وليس من خلال التّهييج ونتائجه الّذي يشوّه الإسلام ذاته أكثر من الحدث الآخر المنتقَد أدبيًّا أو فنيًّا أو معرفيًّا، ويظهر الدّين بصورته الضّعيفة؛ لأنّ القوّة في مجابهة الفكرة، لا في ردّات الفعل العشوائيّة.
لمّا كتب شاعر الثّورة الجزائريّة مفدي زكريا [ت 1997م] قصيدته الثّوريّة في زنزانته «من زنزانات سجن سركاجي بمدينة الجزائر، وكتبها على ورق لفاف الدّخان بقطرات من دمه، أخرجها بوسط دبوز من شرايينه، وهرّبها إلى خارج السّجن مع المناضلين مثلما تهرّب التّعليمات، والقرارات السّريّة الخاصّة بالتّنظيم، ونقلت إلى القاهرة ليلحنها الموسيقار المصريّ محمّد فوزي [ت 1966م]، وتذاع لأول مرة في صوت العرب في القاهرة، وتعتمد كنشيد رسميّ للجزائر وإلى اليوم» [كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصّحافة الوطنيّة، ص: 56-57]، ومطلعها:
قسما بالنّازلات الماحقات والدّماء الزّكيّات الطّاهرات
والبنود اللّامعات الخافقات في الجبال الشّامخات الشّاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وشددنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا
ليقابل من بعض الشّيوخ بالتّكفير؛ لقسمه بغير الله، ولبعض الصّور البلاغيّة، حتّى قيل: «نوفمبر الشّهر الّذي كفّر الشّاعر مفدي زكريا»، وما حدث لمفدي زكريا يقابله ما حدث لقرينه إبراهيم بن عمر بيوض [ت 1981م]، والّذي بسبب آرائه الإصلاحيّة هيّج الشّيوخ التّقليديين العوامّ عليه، ليتعرّض لبعض حالات الاغتيال، فضلًا عن الإقصاء والإيذاء.
ما أردت قوله سلفًا إننا بحاجة إلى أن نخرج خطابيّا من مرحلة التّهييج والحكم العمومي؛ إلى مرحلة التّعقل، بكلّ ما يشمله التّعقل من معنى، بدلا من الخطابات الارتجاليّة والعموميّة، سواء على مستوى الخطابة أو الفتوى أو الكتابة أو البيانات، حيث يظنّ العامّة بفهمهم البسيط أنّ طاعة مثل هذه الخطابات من طاعة الله، وأنّها لا تخرج إلا من ذات المشكاك الوحياني تطبيقا، فهم لا يناقشون النّصّ وتأويله، بقدر ما يشبعون رغبات تدينهم من خلال رموز دينيّة معينة، يرون فيها الإسقاط الوحياني ولو كان بعيدا عن التّعقل، ويقودهم في الوقت ذاته إلى دائرة غير التّعقل، ابتداء من سبّ الآخر وشتمه وإقصائه وإيذائه في ذاته وعرضه، حيث تُسقط الأدبيات التّعامليّة بسبب الإسقاطات المسبقة، ويظنّون بهذا أنّهم يرضون الله ذاته ورسوله لإظهارهم هذه العزّة في إيذاء الآخر، مرورًا إلى محاولة قتله وتصفيته ولو لم يفقهوا شيئًا لما قاله الآخر أو ما كتبه، ويرون أنفسهم أعلى من السّلطة القانونيّة ذاتها، فليسوا بحاجة إلى إجراءات قانونيّة حسب كلّ بلد وتنظيماته، بقدر ما يشبعون تدينهم في تصفية المختلف، ويشعرون بنشوة ذلك، وأنّ ما قاموا به كان نصرًا لله ولرسوله ودينه، ولو قادمهم ذلك إلى السّجن أو الموت وتيتم أبنائهم، ومن غرَّر بهم يتمتع بملذات الدّنيا مع خلّانه وعائلته.
إنّ مرحلة التّعقل تتجاوز الخطاب إلى مواجهة الحال من خلال مواجهة الفكرة بالفكرة، والكتاب بالكتاب، والرّواية بالرّواية، والفنّ بالفنّ، في حالة تدافعيّة طبيعيّة تقود إلى التّهذيب، وتغرس في النّاس الحالة الصّحيّة في التّدافع، وفق النّقد والمعرفة العلميّة، مع تعقل أدبيات الحوار بالحسنى، والمواجهة بالّتي هي أحسن، واحترام ما اتّفق عليه النّاس واجتمعوا وفق أنظمة وقوانين تنظّم أمر بلدهم، وتحفظ الجميع بذلك، وبهذا نعطي صورة حسنة للإسلام والعرب، وجميع الأديان والأجناس.